سمير العيطة *
ساد المشرق العربي مناخٌ يُنذِر بتحوّلاتٍ كبرى حتّى قبل هجمات 11 أيلول/ سبتمبر على نيويورك سنة 2001. كان حافظ الأسد قد رحل دون أن تُفضي “وديعة رابين” إلى سلامٍ يعيد الجولان المحتلّ، وحلّ ابنه بشّار مكانه بدعمٍ واضحٍ من الرئيس الفرنسيّ جاك شيراك ووساطةٍ من رفيق الحريري، الذي كان قد عاد لرئاسة وزراء لبنان على الرغم من بداية التدهور المالي الذي أطاح به.
انسحب الإسرائيليّون من جنوب لبنان، واضعين الجيش السوري في موقعٍ حرِج، باعتبار أنّه قوّة “الاحتلال” الوحيدة الباقية، على الرغم من غياب فائدة ذلك، لِما كان لأجهزة الأمن السورية من نفوذٍ واسعٍ حينها. والعراق كان يختنق في ظلّ العقوبات، وسوريا ولبنان يستفيدان من برنامج “النفط مقابل الغذاء” الأمميّ، بل يتلاعبان على إجراءاته.
11 أيلول/ سبتمبر وما قبل الغزو:
ثمّ حدثت هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001. لكن ليس واضحاً إن كانت جميع الفعاليّات في المشرق العربي قد أدركت حقّاً حجم التداعيات التي يُمكِن أن تأخذ إليها تلك الهجمات، خاصّةً في ظلّ إدارة أمريكيّة شديدة الغطرسة والصلافة أصلاً. هكذا ارتسمت في الأفق “عاصفة” انتقامٍ أمريكيّة على المنطقة برمّتها توجّهت بالطبع نحو غزو العراق.
في سوريا، لافتٌ أنْ تَزامنت تلك الهجمات مع القضاء على “ربيع دمشق”، الذي عبّر عن انفتاح سياسي رافق وصول الرئيس الشاب، خاصّةً وأنّ هذا “الربيع” كان قد بدأ يؤثّر على مناخ كوادر “حزب البعث” التي راحت توجّه انتقادات شديدة للسلطة القائمة. ولافتٌ أن تشتدّ تهديدات الولايات المتحدة بوقف تهريب النفط العراقي، خاصّة خلال زيارات وزير الدفاع الأمريكي آنذاك، كولين باول، للرئيس السوري. في حين كانت أجهزة الأمن السوريّة تتعاون بشكلٍ وثيقٍ مع المخابرات الأمريكيّة لرصد واعتقال عناصر تنظيم “القاعدة” لحساب “حرب أمريكا ضدّ الإرهاب”. ولافتٌ أيضاً أن يتمّ حينها عقد مؤتمر “باريس 2” برعايةٍ فرنسيّة في شباط/ فبراير 2002 لتنفيذ وعود مؤتمر “باريس 1” وتأمين أموال لدعم الاقتصاد اللبناني وتجنّب الانهيار المالي.
الغزو وتداعياته في سوريا:
ثمّ جاءت تحضيرات غزو العراق. وتصدّرت فرنسا المواجهة لمنع قرارٍ في مجلس الأمن يبرّر الغزو ويسمح به، واصطفّت سوريا خلف فرنسا، في موقفٍ مغاير لذلك الموقف الذي اتخذه حافظ الأسد إبّان حرب العراق الأولى في 1991، حيث شارك صوريّاً في التحالف القائم آنذاك. انتهى الأمر بسقوط بغداد في نيسان/ أبريل 2003 وبوصول القوّات الأمريكيّة إلى الحدود السوريّة والتهديد باستكمالها الطريق نحو دمشق! حينها استغلّ ميشال عون ومجموعات ضغط أخرى الظرف للدفع نحو إصدار عقوبات أمريكيّة على سوريا تحت عنوان قانون “محاسبة سوريا واستعادة سيادة لبنان”.
أضحى المناخ ثقيلاً في دمشق. كما تدلّ حال سيّدة سوريّة مهاجرة إلى الولايات المتّحدة كانت تزور البلاد صيف 2003 وتتحدّث بصوتٍ عالٍ في مطعم مع ابنها الذي كانت قد دفعته للانضمام للبحرية الأمريكيّة لإنقاذه من الإدمان على المخدّرات. بات ابنها قريباً منها على الحدود العراقيّة ولا تسمح له قيادته بزيارتها (!). فتعلّق صديقتها: “لن يسمحوا له وحده، بل سيأتون بكلّ الجيش الأمريكي إلى دمشق!”. وسيّدة أخرى لم تسافر يوماً إلى الخارج وتشهد من شرفتها كيف اعتدى أحد أبناء المسؤولين وأزلامه على شابّ من الحيّ فقط لأنّه أعاق طريق موكبهم. وها هي تصرخ أمام الجمع المتجمهر: “يا ربّ يأتي الأمريكان ويخلّصونا منكم، مثلما في العراق”. مشاهدٌ وأقوالٌ كانت سابقاً مستحيلة في أذهان السوريين.
ثمّ بدأ عبث الاحتلال الأمريكيّ بالعراق، مع إظهار موقفٍ تميّز بالتساهل مع إيران وبالضغط الشديد على سوريا. استنجد بشار الأسد بجاك شيراك، عبر محاولة تسريع توقيع اتفاقية الشراكة مع أوروبا التي كان الطرفان قد عرقلاها طويلاً. إلاّ أنّ الأمر اصطدم بعقبتين كبيرتين: الأولى تجلّت في عدم رغبة السلطة السوريّة في تحرير قطاع الاتصالات الذي تهمين عليه عائلتا مخلوف (أقارب بشار الأسد) والميقاتي (رئيس الوزراء اللبناني)، وتجسّدت الأخرى في إصرار أوروبا على شرط تعهدّ سوريا، دون إسرائيل، بالتخلّي عن أسلحة الدمار الشامل.
فرنسا من حليفٍ رئيسيّ إلى قيادة المواجهة:
إلاّ أنّ المفاوضات لم يكُن ليُكتَب لها أصلاً النجاح لأنّ فرنسا كانت هي أيضاً تتعرّض لضغوطات كبيرة من قبل الولايات المتحدة بسبب موقفها من غزو العراق. هكذا ذهبت الأمور إلى قطيعة سوريّة – فرنسيّة مع تفسيرات متناقضة للأسباب. فرنسا تتحدّث عن عقدٍ للغاز رفضت السلطات السوريّة منحه لشركة “توتال”، علماً أنّه كان جزءاً من مشروعٍ أكبر أوقفته السلطات الفرنسيّة في منتصف التسعينيات الفائتة، وأنّ العقوبات الأمريكيّة الجديدة تجعل أصلاً تنفيذه صعباً. كذلك لم تسمح السلطات الفرنسيّة بتقدّم بنكٍ فرنسيّ- لبنانيّ للانضمام لأوّل موجة من المصارف الخاصّة في سوريا عام 2004، في حين كان السماح بإنشاء مصارف خاصّة أهمّ مظاهر الانفتاح الاقتصادي للعهد الرئاسي الجديد، تحت عنوان “الإصلاح الاقتصادي قبل الإصلاح السياسي”.
وفي الواقع، كان لنشاط فرنسا الرئيسي في معارضة تبنّي مجلس الأمن الدولي لغزو العراق أثرٌ كبيرٌ على العلاقات الفرنسيّة- الأمريكيّة. لقد قاطع الأمريكيوّن البضائع الفرنسيّة وغيّروا تسمية البطاطا المقليّة من “المقالي الفرنسيّة French Fries” إلى “المقالي الحُرّة Freedom Fries”! ولم يُعمَل على احتواء القطيعة التاريخيّة بين البلدين سوى بعد سنة من سقوط بغداد في حزيران/ يونيو 2004 عند إحياء ذكرى إنزال الحلفاء في مقاطعة “نورماندي” لتحرير فرنسا من النازيّة، والذي تبعه لقاء قمّة الثمانية “G8” في منتجع “سي أيلاند” في ولاية جورجيا. وكان أحد السبل الرئيسيّة لإعادة هذه العلاقات هو الاتفاق بين الرئيسين جاك شيراك وجورج والكر بوش على “إعادة استقلال وسيادة لبنان”. فبدأ العمل المشترك على إصدار قرار مجلس الأمن 1559 للمطالبة بانسحاب كافّة القوى الخارجيّة من الأراضي اللبنانية (أي أساساً الجيش السوري) وبحلّ جميع الميليشيات اللبنانية وسحب سلاحها (والمقصود هو حزب الله).
قبلها بأشهرٍ قليلة، كان شيراك قد ربط، في خطابٍ له أمام البرلمان اللبناني، انسحاب الجيش السوريّ بانسحاب إسرائيل من مزارع شبعا. بالتالي، أدّى الانقلاب في الموقف الفرنسي – والذي نتج أيضاً عن “زَهَق” شيراك من جمود بشار الأسد عن القيام بأيّة مبادرة أمام تداعيات غزو العراق – إلى “زلزالٍ” سياسيّ على صعيد لبنان وسوريا.
اغتيال الحريري وخروج الجيش السوري:
يظهر أنّ السلطة السورية عرفت بالاتفاق بين شيراك وبوش الابن حتّى قبل التصويت على قرار مجلس الأمن. فاختارت المواجهة المباشرة في لبنان. هكذا فًرِضَ تعديل الدستور اللبناني للتمديد للرئيس لحوّد في أيلول/ سبتمبر 2004، بعد قرارٍ لمجلس الوزراء اللبنانيّ الذي يترأسه رفيق الحريري، والذي صوّت في البرلمان لصالح التعديل “كي لا يتمّ إذلال سوريا في لبنان”. ثمّ استقال الحريري من رئاسة الحكومة في تشرين الأوّل/ أكتوبر من السنة نفسها.
هكذا نجح الفخّ الاستراتيجي الذي نصبه الإسرائيليّون. وانسحب الجيش السوري مُهاناً في نيسان/ أبريل 2005. وكان رفيق الحريري قد اغتيل في شباط / فبراير 2005، وذهب آخرون ضحيّة هذا الفخّ والصراعات الجيوسياسيّة الكبرى التي أحدثها غزو العراق.
الحرب الأهليّة في العراق وأثرها على سوريا:
لم تكن التطوّرات في العراق ذاته أقلّ “زلزلةً”. لقد اغتيل ممثّل الأمم المتحدة، التي اضطرّت لمرافقة الغزو مع انهيار الدولة وحلّ الجيش العراقي. وبدأ مسلسل التفجيرات الطائفيّة و”المقاومة” ضدّ الاحتلال. وبرزت الميليشيات الشيعيّة بدعمٍ إيرانيّ، وفي المقابل تأسّس تحالفٌ بين “تنظيم القاعدة” وبقايا عناصر الجيش والأمن العراقي السابق. فتفجّرت الحرب الأهليّة العراقية.
وكان لاعتقال صدّام حسين في كانون الأوّل/ ديسمبر 2003 أثره على الجزيرة السوريّة. ففي مباراةٍ لكرة القدم في القامشلي في آذار/مارس 2004، رفع أنصار فريق دير الزور (“الفتوّة”) صور صدّام حسين في وجه مناصري فريق القامشلي الكرديّ (“الجهاد”) مقابل لافتات كتب عليها “سنضحّي بحياتنا من أجل بوش” من الطرف الآخر… ما أخذ إلى صدامات عنيفة انتشرت في أحياء المدينة ودامت ستّة أيّام، تدخّل فيها الأمن والجيش السوريين، ووقع العشرات من الضحايا- أغلبهم من الكرد- ولجأ آلاف من الكرد السوريين إلى كردستان العراق. هكذا انتقل الصراع الطائفي والعرقي من العراق إلى سوريا.
وفي الواقع، دخلت سوريا كما المنطقة برمّتها في منطق “الفوضى الخلاّقة” و”الشرق الأوسط الجديد” (!) الذي يجب إعادة تشكيله بناءً على السياسة التي اعتمدتها الإدارة الأمريكيّة حينها وأطلقتها وزيرة خارجيّتها “كوندوليزا رايس”، بدءاً من العراق ولبنان وسوريا. لكن في أيلول/ سبتمبر 2006، أحبطت أجهزة الأمن السورية محاولة لتفجير السفارة الأمريكيّة في دمشق، نُسِبَت إلى تنظيم “جند الشام” المدعوم من “القاعدة”. وأعادت هذه الحادثة نوعاً ما علاقات السلطة السوريّة مع الإدارة الأمريكيّة، على الرغم من اتّهام الأخيرة لسوريا بتسهيل دخول المقاتلين والسلاح إلى العراق. وبدا المشهد شديد التعقيد: سوريا حليفة لإيران وفي الوقت ذاته تتعاون مع السعوديّة لدعم “المقاومة” السنيّة في العراق.
على صعيدٍ آخر، بدأت سوريا (وكذلك الأردن)، حتّى قبيل الغزو، تشهد موجات لجوء للعراقيين. وصلت بدايةً أعدادٌ قليلة من المتنفّذين العراقيين وأبناء الطبقات الميسورة والوسطى، انضمّوا في المدن السوريّة إلى أولئك الذين كانوا قد فرّوا من قمع سلطة صدّام حسين ورفاقه. لكن الأعداد ازدادت بشكلٍ كبير مع معركة الفلوجة وتبعاتها في نهاية عام 2004، ثمّ خاصّةً بعد تفجير مقام الإمامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء سنة 2006، حيث وصلت أعداد اللاجئين العراقيين في سوريا عام 2007 إلى مليونٍ ونصف المليون، سنّةً وشيعة، مسيحيين آشوريين وإيزيديين (بعد المعارك مع القوّات الكرديّة العراقيّة قرب الموصل). وأنشِئَت مخيّمات ضخمة للّاجئين العراقيين من الأوساط الشعبيّة في الجزيرة السوريّة. وكان لذلك تبعات كبيرة على الاقتصاد السوري.
تركيا وقطر حليفتان لسوريا؟
في خضمّ كلّ تلك التحوّلات، دعت تركيا بشار الأسد لزيارتها في كانون الثاني/يناير 2004. وكانت أوّل زيارة يقوم بها رئيسٌ سوريّ لتركيا منذ انهيار الإمبراطوريّة العثمانيّة. وكان البرلمان التركيّ قد رفض استخدام أراضيه وقواعد حلف الأطلسي لديه في غزو العراق. تبع ذلك زيارة لرئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان إلى سوريا في العام ذاته لتوقيع اتفاقية تجارة حرّة بين البلدين، ثمّ زيارة لرئيس الجمهورية التركيّة أحمد نجدت سيزر في نيسان/ أبريل 2005 أثناء “ثورة الأرز” اللبنانيّة التي أعقبت اغتيال رفيق الحريري، وذلك على الرغم من الاعتراضات الشديدة للإدارة الأمريكيّة. لم يكن لهذا الزلزال السياسيّ الإقليمي أن يحدث دون غزو العراق، وإن جاءت خلفيّته النظريّة في نصائح مستشار رئيس الوزراء التركيّ حينها، أحمد داود أوغلو، حول “تصفير المشاكل مع الجوار”.
انطلقت تركيا، التي كان الاتحاد الأوروبيّ قد رفض انضمامها إليه كي “لا تصبح حدوده هي سوريا والعراق”، في سياسة تبنّي انتقالٍ حرٍّ للبضائع والأفراد مع دول الجوار. سياسة ارتكزت على سوريا لتخطّي الصراع مع “حزب العمّال الكردستاني PKK”، وكذلك على العراق الذي انهارت قدراته الإنتاجيّة وبات يعتمد لمعظم مستلزماته على إيران وتركيا المتنافستين، مع استهدافٍ اقتصاديّ تركيّ لكردستان العراق لاستقراره النسبيّ ولأثره على القضيّة الكرديّة، بالإضافة إلى سياسة تعاون اقتصادي وثيق مع إيران.
تسارعت خطوات التقارب السوري – التركي مع انهيار محادثات الشراكة الأوروبيّة – السوريّة ثمّ مع القطيعة مع فرنسا. ودخلت اتفاقيّة التجارة الحرّة بين البلدين حيّز التنفيذ عام 2007 مع آثارٍ كبيرة على القطاع الصناعي في حلب الذي لم يكُن قادراً على منافسة الإنتاج التركي ولم يُحَضَّر لذلك. وقام بشار الأسد بزيارة رسميّة لتركيا. تبعت ذلك عام 2008 وساطة تركية لمفاوضات سوريّة -إسرائيليّة للتطبيع بين البلدين ولحلّ قضيّة احتلال الجولان. وساطة بعيد العدوان الإسرائيلي على لبنان سنة 2006، انهارت بعد العدوان الإسرائيلي على غزّة في نهاية 2008 وتردّي العلاقات التركيّة – الإسرائيليّة من جرّائها. وأجرى البلدان مناورات عسكريّة مشتركة في نيسان/ أبريل 2009 وقام الرئيس عبد الله غول بعدها بشهرٍ بزيارة سوريا.
بالتوازي، توطّدت علاقة أمير قطر حمد بن خليفة آل ثاني ورئيس وزرائه حمد بن جاسم مع بشار الأسد منذ بداية عهده. ولا يبدو أنّ هذه العلاقة قد تأثّرت كثيراً من جراء استخدام الجيش الأمريكي الكثيف لقاعدة “خور العديد” في غزو العراق. بل إنّ العلاقة زادت حرارةً مع انقلاب الموقف الفرنسي وتدهور العلاقات بين الأسد والسعوديّة بعد التمديد للرئيس لحوّد في لبنان واغتيال رفيق الحريري. حتّى أنّ أمير قطر شرع ببناء قصرٍ ضخمٍ له على تلّة في الطريق بين دمشق وبيروت. كما لعبت قطر دور الوسيط خلال العدوان على لبنان في 2006 والعدوان على غزّة في 2008، دون أن ينزعج حينها أميرها من وصف بشّار الأسد لقادة الخليج ومصر بـ”أنصاف الرجال”. واستقال عضو الكنيست الإسرائيلي عزمي بشارة في 2007 ليأتي إلى دمشق ويبني علاقةً وثيقةً مع بشار الأسد تنتهي بصدامٍ بين الاثنين ورحيل بشارة إلى قطر حيث حاز على مكانةٍ لدى الأوساط الحاكمة هناك.
“الدّولة الإسلاميّة” و”المصالحة الفرنسيّة”:
ارتدّت “الفوضى الخلاّقة” في العراق على الجيش الأمريكيّ الذي بدأ يعاني كثيرا من الخسائر البشريّة والانتقادات، خاصّة مع بروز “الدولة الإسلاميّة”. تحالف “أبو مصعب الزرقاوي” مع تنظيم “القاعدة” الذي يديره “أسامة بن لادن” وأسّسا “تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين” الذي انضمّت إليه العديد من التنظيمات الأخرى. وسيطر هؤلاء على نواح واسعة من العراق امتدّت من الموصل إلى الأنبار وديالى وحتّى “عاصمتهم” مدينة بعقوبة القريبة من بغداد. وعلى الرغم من مقتل الزرقاوي عام 2006، أطاحت الإدارة الأمريكيّة بـدونالد رامسفيلد مُدبّر غزو العراق، وأعدمت صدّام حسين وزادت عدد قوّاتها بشكلٍ كبير وأسّست ميليشيات من العشائر السنيّة تحت عنوان “الصحوات”. لقد اتضح حينها أنّ العراق أضحى مستنقعاً غرقت الولايات المتحدة ذاتها في فوضاه.
تغيّر بالتالي المناخ الدوليّ، في حين كان الاتحاد الأوروبيّ يشهد صعوبات مرحليّة، فانطلق الرئيس الفرنسي “نيكولا ساركوزي” الذي انتُخِب عام 2007 بمشروع “الإتحاد من أجل المتوسّط” هادفاً “تأمين السلام والأمن على ضفّتي المتوسّط التي ترتبط شعوبها بمصيرٍ مشترك”. بالطبع يضمّ هذا المشروع سوريا وإسرائيل. هكذا دُعيَ “بشار الأسد” لحضور احتفالات العيد الوطني الفرنسي في 14 تموز/ يوليو 2008، في الوقت الذي كانت الوساطة التركيّة تعمل خلاله على المفاوضات السوريّة – الإسرائيليّة. وبعد ثلاثة أشهر، انتُخب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة مع وعده بسحب القوّات الأمريكيّة من العراق.
العراق والسلطة والمعارضة والمجتمع السوريين:
لم يكن سهلاً على بشار الأسد الذي خلَف أباه أن يتعامل مع أحداث 11 أيلول/سبتمبر وغزو العراق وتداعياتهما. فجهاز السلطة الذي ورثه كان في مرحلة تحوّل وعدم استقرار، في ظلّ استفاقة المجتمع من سباتٍ طويل مع “رحيل الديكتاتور” و”ربيع دمشق”، وفي ظلّ التحوّل من “رأسماليّة الدولة” إلى “رأسماليّة الأقرباء والأصدقاء Crony Capitalism” الّتي عمل الأسد الابن على تشييدها تماشياً مع “منطق العصر”. أُسقِطَ سريعاً الانفتاح السياسيّ الداخليّ لارتباكه أمام القرارات التي كان عليه اتخاذها على صعيد تركيبة السلطة و”حزب البعث” وعلى صعيد التحدّيات الخارجيّة، على الرغم من أنّ لا منافسة حقيقيّة كانت تهدّد ترؤسه لهذه السلطة على المدى المنظور.
لم يستفِد الرئيس الشاب من المناخ الداخليّ الإيجابيّ الذي شهدته بداية ولايته لإجراء “مصالحة وطنيّة” تُضمّد جراح أحداث “حماة” و”تدمر” (1979-1982)، ولم يلجأ بعد أحداث “القامشلي” في 2004 لحلّ إشكاليّات “القضيّة الكرديّة” في سوريا الموروثة منذ العام 1962. تَواجه مع أعضاء الحرس القديم لأبيه الذين كانوا قد انخرطوا في فساد “أمراء الحرب” اللبنانيين، دون أن يشكّل رؤية أو موقفاً حول بوادر الانهيار المالي في هذا البلد وتبعاته السياسيّة الداخليّة. وأفشل الانفتاح السياسيّ داخل “حزب البعث” عام 2005 كي يبقيه أداة طيّعة للسلطة وأجهزة الأمن.
لقد وقع بشار الأسد في الفخّ الذي نصبه الانسحاب الإسرائيليّ من جنوب لبنان، علماً أنّ انسحاباً سوريّاً تلقائيّاً مدروساً كان يمكن أن يؤمّن استمراراً للنفوذ في لبنان. نفوذٌ جاء بالأصل بضوءٍ أخضر أمريكي. وبقي أيضاً دون حركة إبّان الغزو الأمريكي للعراق وما تبعه، مع أنّ الأمر شكّل زلزالاً في المنطقة مع انهيار إحدى أهمّ الدول العربيّة. وراهن على المواجهة بين فرنسا والولايات المتحدة، علماً أنّ لا أفق لها على الرغم من “طيش” الإدارة الأمريكيّة التي قامت بالغزو. وعادى السعوديّة علماً أنّ استقرار حكم أبيه قام على الموازنة بينها وبين إيران، هذا فضلاً عن أنّ غزو العراق وتفشّي النفوذ الإيراني في ثناياه كانا حتميّاً سيأخذان إلى مواجهة بين البلدين.
لم يكن أيضاً سهلاً على “المعارضة السياسيّة” التي انتعشت في بداية العهد الجديد أن تتعامل مع “زلازل” 2001 و2003. لقد ورثت أحزابها خطاب زمن الإيديولوجيا في الخمسينيات وانقساماتها، لكنّها طمحت إلى تحرير الخطاب العام سواءً في “ندوات الثلاثاء لجمعيّة العلوم الاقتصاديّة” أو في “منتديات الأتاسي” أو عبر “لجان إحياء المجتمع المدني”. لكنّ التحدّي الأكبر أمامها برز في الموازنة بين انتقاد ممارسات السلطة السياسية والاجتماعيّة ونهجها السابق والجديد، وبين نموّ الطائفيّة والتطرّف الدينيّ، وبين الموقف من التغيّرات الإقليميّة والدوليّة.
حاولتْ معالجة جراح “حماة” عبر الدفع للانفتاح على “الإخوان المسلمين”، لكنّ هذا التنظيم اختار الانخراط مع الحرس القديم (“عبد الحليم خدّام” الذي انشقّ عن السلطة بعد اغتيال رفيق الحريري) ومن ثمّ التحوّل للحوار مباشرةً مع السلطة، أملاً بالتطبيع معها. وانفتحت المعارضة السوريّة على تيّارات لبنانيّة (“إعلان دمشق بيروت” في 2006)، متناسيةً خصوصيّة هذا البلد وتفجّر الصراع الإقليميّ حينها. ووقع بعض رموزها في الفخّ الطائفيّ الذي كان يتنامى مع الحرب الأهليّة العراقيّة والمُمَأسس أصلاً في لبنان.
هذا في حين كان المجتمع السوري يعيش بداية “التسونامي الشبابي”، مع أعداد غفيرة من الوافدين الجدد إلى سوق العمل وتسارع هجرة الريف إلى المدينة واكتظاظ ضواحي المدن الكبرى بالوافدين. وهجرة كبيرة لأبناء الجزيرة السوريّة المتاخمة للعراق نحو المناطق الأخرى. وهذا دون أفقٍ لحلّ الإشكاليّات الاجتماعيّة – الاقتصاديّة على الرغم من أنّ الدولة كانت قد تخلّصت من ديونها الخارجيّة ولديها احتياطات ملحوظة.
هكذا أسّس غزو العراق ثغرة عميقة على صعيد السلطة والمعارضة والمجتمع السوريين. ثغرة كانت أحد العناصر الرئيسة التي فتحت السبيل كي يتحوّل “الربيع العربي” في سوريا إلى “حربٍ أهليّة”. ثغرة ما زالت آثارها تتفاعل واضعةً مستقبل سوريا، كما لبنان والعراق، ووحدة أراضيهم وتماسك شعوبهم وموقعهم في الإقليم… في المجهول.
……………………..
(-) النص الرابع من دفتر “عشرون عاما على الحرب على العراق” وذلك بمشاركة موقع جمار وبدعم من مؤسسة روزا لوكسمبورغ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* باحث اقتصادي سوري ورئيس منتدى الاقتصاديين العربي
المصدر: السفير العربي