عبدالله السناوي *
كأننا أمام عصر كامل من الانقلابات العسكرية في القارة الأفريقية. في زهاء ثلاث سنوات تتابعت ثمانية انقلابات بغرب القارة ووسطها واحداً إثر الآخر فيما يشبه ألعاب الدومينو، كان آخرها انقلابات مالي وبوركينا فاسو والنيجر وأخيراً الجابون.
لاقت أغلب الانقلابات المتتابعة ابتهاجاً وترحيباً في مجتمعاتها بأثر تدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية وتفشي الفساد في بنية السلطة العليا وتغول الاستبداد السياسي وتوحش النفوذ الأجنبي على مقدرات تلك الدول.
لم تنشأ ظاهرة الانقلابات العسكرية من فراغ سياسي واستراتيجي.
إنها تعكس أزمة شرعية مستحكمة تضرب أغلب البنيان السياسي في القارة.
هنا بالضبط صلب الظاهرة.
كما تعكس عمق الضجر العام من الإرث الاستعماري الفرنسي، الذي ما يزال جاثماً على المستعمرات السابقة.
الظاهرة مرشحة للتمدد وهناك ترجيحات بانقلابات أخرى قد تحدث في السنغال وكوت ديفوار وتشاد.
لم يكن انقلاب الجابون مفاجئاً حيث توافرت كل عوامل ونذر الغضب.
إنها لعنة توريث الجمهوريات والتلاعب بالدستور ومصادرة أية احتمالات لتداول السلطة.
قبل أربعة أشهر جرى تعديل دستوري لتمكين الرئيس المريض «علي بونجو» من فترة رئاسية ثالثة تمتد لسبع سنوات تضاف إلى (14) سنة قضاها في الحكم خلفاً لوالده «عمر بونجو» الذي بقي في السلطة (42) سنة منذ (1967) حتى (2009).
لم تكن الأحوال الصحية للرئيس المعزول تؤهله للوفاء بمهام الرئاسة، لكنها إغواءات السلطة، وربما رغبته في توريث الرئاسة بعده إلى الحفيد «نور الدين بونجو» المحتجز مع مجموعة من الوزراء السابقين بتهم الفساد!
هناك ما يستدعي التساؤل بشأن حقيقة ذلك الانقلاب، فقائده الذي اختير رئيساً انتقالياً ينتمي من ناحية والدته إلى «عائلة بونجو».
جرى تفهم غربي واسع لدواعي الانقلاب العسكري، الذي جرت وقائعه فجر اليوم التالي لإعلان نتائج الانتخابات الرئاسية في الجابون، فقد شابتها مخالفات عديدة وافتقدت النزاهة والشفافية بحسب «جوزيب بوريل» مفوض السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي.
كان ذلك اعترافاً متأخراً بأثر رجعى.
في الحقيقة لم تكن هناك انتخابات تستحق هذا الوصف.
لم يكن ذلك سراً خافياً، لكن المصالح الغربية استدعت الصمت، أو التواطؤ، لعدم إحراج الرئيس الحليف، الذي يتمتع بصلات وثيقة مع قصر الإليزيه.
بصياغة أمين عام الأمم المتحدة «أنطونيو جوتيرش» فإن «هناك دولاً إفريقية عديدة تعاني تحديات وأزمات، لكن الحكومات العسكرية ليست حلاً».
هذه نصف الحقيقة، النصف الآخر أن بقاء الأمر الواقع الذي يفتقد لأية شرعية، ليس حلاً هو الآخر.
حتى تتضح حقائق ما جرى في الجابون هناك فرضيتان رئيسيتان:
الأولى، أنه انقلاب قصر على خلفية تشققات وصراعات عائلية وعدم قدرة الرئيس المريض على الوفاء بمتطلبات دوره في حفظ المصالح الفرنسية.
وفق هذه الفرضية لا يمكن استبعاد أن تكون فرنسا ضالعة فيه، أو على علم مسبق به، أو أن يكون هناك تقبلاً أمريكياً لتغيير الجياد خشية أن يتمدد الدور الصيني الاقتصادي والاستراتيجي في ذلك البلد الإفريقى الصغير في مساحته والغني بموارده النفطية والتعدينية.
الثانية، أنه يدخل في سياق موجة الانقلابات العسكرية تعبيراً عن الضجر البالغ من تغول النفوذ الفرنسي.
بين انقلابي النيجر والجابون اختلفت المقاربات الفرنسية.
بدت باريس أكثر حذرا فى مواجهة انقلاب الجابون.
لم تكن هناك تهديدات فرنسية، أو أوروبية، بتدخل عسكري تحت ادعاءات الدفاع عن الديمقراطية وإعادة المسار الدستوري وعودة الرئيس المنتخب «محمد بازوم».
رغم مناشدات الرئيس الجابوني المعزول «علي بونجو» للأصدقاء والحلفاء بالتدخل لم يجد آذاناً تسمع ولا تحركات تلبي.
لم تكن الضربة التي تلقتها باريس في الجابون بمستوى خطورة انقلاب النيجر.
في حالة انقلاب النيجر ذهبت بالغضب والتحريض إلى التدخل العسكري قبل أن تتراجع خشية التورط في حرب إقليمية غير مضمونة العواقب، لكنها لم تتوقف عن التصعيد الدبلوماسي لعلها تنجح بالضغوط والعقوبات فيما عجزت عنه بتلويح السلاح.
وفي حالة انقلاب الجابون لم يكن هناك سند من داخل القارة كـ«المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقياــ الإيكواس» يوفر أي غطاء سياسي وعسكري.
حسب تصريحات جزائرية رسمية فكرتْ باريس بالتدخل العسكري المباشر، لكن الأثمان الباهظة وممانعات عديدة أمريكية وأوروبية دعتها للتراجع عن مثل هذه الحماقة.
على غير المعتاد في السياسة الصينية أصدرت وزارة خارجيتها بالساعات الأولى لانقلاب الجابون بياناً دعت فيه إلى ما أسمته «العودة إلى النظام الطبيعي وعودة الرئيس علي بونجو».
إنها الاستثمارات الصينية ومستوى رهانات بيجين على الموقع الجيوسياسي للجابون في مشروع الحزام والطريق، المصالح الاقتصادية والاستراتيجية ولا شيء آخر غيرها.
تعبير «العودة إلى النظام الطبيعي» هو الصيغة الصينية الملتبسة من الطلب الغربي «العودة إلى المسار الدستوري».
التعبير الصيني المُستحدث يعبر عن مأزق غياب رؤية متماسكة ومقنعة لبناء تحالفاتها في القارة تتجاوز الحسابات التجارية والاقتصادية.
ولاء عائلة «بونجو» لباريس لم يمنع من الانفتاح على بيجين.
لموسكو حضورها لكنها لا تتمتع بنفوذ خاص مماثل.
ولا الأحوال في الجابون تشبه النيجر وبوركينا فاسو ومالي حيث الدواعي الأمنية المتدهورة استدعت أدواراً لشركة «فاجنر» الأمنية الروسية الخاصة، التي يحوط مستقبلها الغامض تساؤلات لا إجابة عليها حتى الآن بعد مقتل مؤسسها «يفجيني بريجوجين».
بدت موسكو بعد انقلاب الجابون أكثر حذراً وقالت إنها تراقب الموقف عن كثب، كنوع من تأجيل الأحكام والمواقف لحين اتضاح الحقائق.
من حيث ظاهر التصريحات، وقفت عند خط مقارب للمواقف الأمريكية والغربية.
في التفاعلات الصاخبة تبدت درجة صريحة من عجز الاتحاد الإفريقي، تصريحاته ومواقفه شبه فولكلورية، إدانة الانقلابات وتعليق عضوية الدول التي تجري بها من مجلس الأمن والسلم التابع له لحين عودة المسار الدستوري، ولا شيء آخر يُعتد به.
عند كل انقلاب يلوح الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على قادته، لكنه يفتح بالوقت نفسه مسارات للتفاهم ضمانا للمصالح الاستراتيجية والاقتصادية.
لا العقوبات قادرة على وقف ظاهرة الانقلابات العسكرية في القارة ولا التهديدات بالتدخل بوسعها أن تحفظ النفوذ القديم من التآكل والانهيار فضلاً عن عواقبه الوخيمة على المصالح الغربية نفسها.
تحتاج القارة لمقاربات أخرى أكثر انفتاحاً على سلامة الديمقراطيات، قواعدها وإجراءاتها، أن تكون حقيقية لا منتحلة، وأكثر تقديراً بالوقت نفسه لضرورات استقلال القرار الوطني، أو أن تكون أفريقيا للإفريقي على ما طمح مطلع ستينيات القرن الماضي الآباء المؤسسون للاستقلال والتحرر الوطني.
* كاتب صحفي مصري
المصدر: الشروق