علي حبيب الله *
“في تلك الليلة ذاتها حُمَّ محمّد بيك، وفي ليلة السبت اشتدّت به، ويوم السبت وقع في البحران (من أمرض الحمّى)، ومساء الأحد استفاق، وقيل إنّه جعل يصرخ: اطردوا من أمامي هذا الشيخ الّذي حرقني بنار. واشتدّ الحال عليه جدًّا، وعند نصف ليلة الأحد فارق، وكان ذلك في سنة 1775″(1). هذا ما رواه ميخائيل نقولا الصبّاغ في مؤلّفه “تاريخ الشيخ ظاهر العمر الزيداني” عن موت محمّد أبو الذهب قائد جيش عزيز مصر علي بك الّذي أمره بأن يأتيه برأس ظاهر بتوكيل من السلطان العثمانيّ، فشنّ حملته الشهيرة في ذلك العام على ساحل فلسطين وعكا حامية ظاهر العمر.
يقال، إنّ سبب موت أبي الذهب هو الدير، دير الكرمل – مار إلياس أو دير ستيلا مارس – ولعنة ذبح رهبانه بأمر من أبي الذهب، وقبّة الدير الّتي أمر بهدمها؛ لأنّه “غير جائز أن يكون للمشركين قبّة في بلاد الإسلام”(2). أمّا عن الشيخ الّذي أمر أبو الذهب بطرده عند احتضاره بحسب الرواية، فهو شيخ دراويش مغارة الخضر في جبل الكرمل الّذي نزل من الكرمل إلى عكّا بعد يوم من احتلال أبو الذهب لها، متوسّلًا إيّاه بعدم مساس قبّة الدير بعد أن احتلّ جنوده الدير والجبل كلّه بما فيهما حيفا.
وممّا يذكر عن رجاء الشيخ لأبي الذهب “ألا يهدم القبّة؛ لأنّ في زيارة النصارى لها أرباح كثيرة لدراويش وفقراء مزار الخضر، كما حذّره من محو آثار الأوّلين، لأنّه مكروه ولن يسلم المتجرئ عليها من عطب”(3). وفيما كان ينبّه شيخ الدراويش قائد الجيش دخل أحد أفراد حاشية هذا الأخير منبئًا إيّاه نبأ هدم قبّة دير الكرمل، فعضّ أبو الذهب على لحيته مشدوهًا، ثمّ أمر الشيخ أن يستوفي كلامه؛ “ماذا أقول وقد قضي الأمر الّذي فيه تستفتيان” (4)، كان هذا آخر ما قاله شيخ الدراويش لأبي الذهب، وقد استثقل أن يدعو له بطول العمر، فمات أبو الذهب في اليوم التالي.
كان موت أبي الذهب مفاجئًا، فالرجل كان فتيًا وعفيًّا! ففولني، يرجع موته إلى عوامل الطبيعة والحرّ الشديد والمستنقعات الموبوءة الّتي كانت تحيط بعكا (5)، بينما المرادي صاحب سلك الدرر، قال إنّ أبا الذهب مات مسمومًا، بسمّ أرسله له ظاهر العمر، بعد أن جعل لداسّه خمسة آلاف دينًا (6)، وكثرت الروايات في موت قائد جيش مصر، ولكن من كان سيقنع أهالي حيفا وقرى الكرمل والمرج بغير ما قنعوا به في حينه، وهو أنّ أبا الذهب مات ملعونًا بلعنة ذبح رهبان دير الكرمل وهدم قبّته.
الطريف في الأمر، أنّ دراويش مغارة الخضر في جبل الكرمل، الّذين دفعوا بشيخهم للحيلولة دون هدم قبّة دير مار إلياس وذبح رهبانه، كانوا هم أوّل من اشتبك مع رهبان ذلك الدير قبل ما يزيد عن مئة وثلاثين عامًا من حملة أبي الذهب، وذلك في سنة 1631م حين منح زعيم الأسرة الحارثيّة وحاكم لواء اللجون الأمير أحمد بن طرباي الحارثيّ (1571 – 1647) صكًّا للأب بروسبير يسمح بموجبه بعودة الآباء الكرمليّين إلى جبل الكرمل وممارسة شعائرهم فيه بعد أن طُردوا منه زمن صلاح الدين الأيّوبيّ، ولمّا حوّل بروسبير مغارة الخضر إلى كنيسة قبل أن يبني لاحقًا كنيسة ودير مار إلياس إلى جوارها، وأقام في المغارة قدّاسًا احتفاليًّا بمناسبة عودة الكرمليين، أثار ذلك سخط وحنق الدراويش الّذين كانوا يقصدون المغارة وإقامة حلقات الذكر فيها، ويقال إنّ الدراويش والرهبان قد تعاركوا بالأيدي والحجارة نهارًا كاملًا، وقد وصلت شكوى الدراويش الباب العالي في إسطنبول، فأخلى الأب بروسبير على أثر ذلك المغارة في سنة 1625 (7).
لم تعرف فلسطين ديرًا سفح فيه الدم، وتدحرجت رؤوس رهبانه وحجارة جدرانه على سفوح الجبال إلى الأودية، مثلما جرى وسفح وتدحرج في ومن دير مار إلياس على جبل الكرمل، كما لم تكن مذبحة رهبان الدير على أيدي جنود أبي الذهب هي الأخيرة في الكرمل، ولم تكن الأولى طبعًا؛ فدير وكنيسة مار إلياس أقيما أساسًا في موقع قدّسه المسيحيّون والمسلمون معًا؛ لأنّ مذبحة وقعت فيه، وتلك هي الحكاية الأمّ.
أنف الغزال وأوّل حجر:
في الشمال من ساحل فلسطين، يضع الكرمل أقدامه الشماليّة – الغربيّة في البحر قاطعًا الطريق على رمل السهل الساحليّ، إذ لم يتجرّأ أيّ جبل في فلسطين على الاقتراب من ماء المتوسّط مثلما تجرّأ واقترب جبل الكرمل ببعض سلاسله. يتّخذ الكرمل شكل مثلّث قاعدته في الجنوب ورأسه في الشمال، ممّا جعل المصريّين القدماء يسمّونه جبل “أنف الغزال” (8) لأنّ شكله يشبه أنف الغزال.
ظلّ الكرمل منذ مراحل موغلة في القدم، ملاذًا للنسّاك والزهاد والمطاردين وقطاع الطريق بحكم كثرة مغاوره وكهوفه الّتي تنهش بطن الكرمل في غير موقع من قممه وسفوحه، أشهرها مغر السخول والطابون والواد، ولمّا كان من عادة الكنعانيّين التعبّد للإله “بعل” من على قمم الجبال، كان لجبل الكرمل قداسته وقدّمت عليه قديمًا القرابين، وأقيمت طقوس التأليه والتمجيد للآلهة الكنعانيّة.
وفي حكاية عن أوّل مذبحة على الكرمل ترويها الكتب السماويّة، تعود للقرن العاشر قبل الميلاد، عن الملك آحاب وزوجته إيزابيل اللّذين كانا يعبدان الإله بعل في الكرمل، ولمّا وبّخ إلياس أو إيليا الّذي كان يقود حركة تدعو للتوحيد ضدّ الوثنيّة وتعدّد الآلهة وآحاب الملك، وأبدى له ولأتباعه معجزاته على ظهر الكرمل في الموقع الّذي صار لاحقًا دير مار إلياس أو دير ستيلا مارس أي نجمة البحر، منها معجزة أن أنزل إلياس نارًا أكلت الذبيحة الّتي لم تقو آلهة كهنة بعل على إنزالها بحسب ما ورد في العهدين القديم والجديد، فلاذ عبدة بعل بالفرار خوفًا من نار إلياس، ولحق بهم هذا الأخير نزولًا حتّى نهر “قيشون” وقطعهم إربًا تقول الحكاية، ومن هنا صار اسم النهر “المقطع” (9).
إلى تلك الحكاية وحفلة الدم، تعود قداسة موقع ستيلا مارس – دير مار إلياس – للمسيحيّين، وهو ذاته الخضر بالنسبة لمسلمي البلاد، إذ يجسّد كلّ من مار إلياس والخضر الشخصيّة القداسيّة والمخياليّة ذاتها لدى أتباع الديانتين، وظلّ تاريخ العشرين من تمّوز يومًا طقوسيًّا لكلّ أهالي حيفا والكرمل والمرج يقصدون فيه الجبل للاحتفال فيه بيوم مار إلياس والخضر، وهو الاحتفال ذاته الّذي اعتبر امتدادًا لطقس عبادة تمّوز أو أدونيس الكنعاني، غير أنّ المسيحيّة لاحقًا، أكسبته مسوحًا توحيديّة وكذلك فعل المسلمون، وظلّت تمارس إلى عام النكبة.
لم يرفع إلى الكرمل حجر، ولم يقلع حجر منه للبناء عليه كذلك، فحتّى القرن الثاني عشر للميلاد، كانت كهوف سفوح وقمم الكرمل ومغاوره وحدها الكفيلة بإيواء عبّاد الكرمل وزهّاده لممارسة طقوسهم. وكان أوّل حجر قلع منه ورفع للبناء فيه، يعود إلى زمن الصليبيّين في البلاد، حيث جرى في حينه بناء دير مار إلياس، وعرف رهبانه بالـ “كرمليّين” أو “رهبنة إخوة سيّدة جبل الكرمل” التابعين لرهبنة الكنيسة الكاثوليكيّة الّذين أتاحت لهم ظروف البلاد والساحل، خصوصًا بناء الدير الّذي تعرّض للهدم والبناء، وتبدّل موقعه غير مرّة، فقد هدم الدير وطرد رهبانه أوّل مرّة، في زمن المماليك مع طرد الصليبيّين من آخر معاقلهم في الساحل في أواخر القرن الثالث عشر للميلاد.
العودة:
انقضت الحروب الصليبيّة في أواخر القرن الثالث عشر، غير أنّ ساحل البلاد ظلّ شبه مهجور حتّى مطلع القرن السابع عشر، ومع حسم الصراع الّذي دار بين الأمير فخر الدين المعني الثاني (1572 – 1635) والأمير أحمد بن طرباي الحارثي (1571 – 1647) على اللجون والساحل وبلاد الكرمل سنة 1623م، لصالح الأسرة الحارثيّة، حيث بسط أميرها أحمد نفوذه على الكرمل وحيفا، والّذي منح للراهب روبسبير كما ذكرنا سابقًا صكًّا في سنة 1631م يجيز للرهبان الكرمليين عودتهم إلى الكرمل، وهذا بعض ممّا ورد في صكّ الاتّفاقيّة:
“حضر إلى عندنا الأب الراهب برشبرا (روبسبير) من روح القدس الكرمليّ المتكلّم على طائفة الكراملة القاطنين في مدينة حلب بأجازت بابا روميّة وكبيره حتّى إنّهم يسكنوا في بلادنا مخصّصًا في جبل الكرمل، وطلبوا الدستور أن يمشوا في البلاد بغير نكد، ولا تعرض لهم بوجه من الوجوه من جنس الرهبان القاطنين في المحلّ الذكور ولا أحد يقف لهم في طريق من أمارا (أمراء) وشوابصة وغير من العربان، وأيضًا أن يعمروا مغارة الخضر الزغيرة (الصغيرة) ويعمل بيوت وبستان ومهما محتاج إليه وكذلك في رأس الجبل مقام مهد إلياس…”(10).
لقد منح الأمير طرباي الكرمليّين مغارة الخضر، الأمر الّذي أثار حفيظة دراويش الكرمل ثمّ مواجهتهم الرهبان كما أشرنا، ممّا دفع روبسبير الراهب اتّخاذ موقع آخر لبناء الدير يقع بين مغارة الخضر وقمّة سفح الجبل، وأقام فيه أوّل دير لمار إلياس بعد عودة الرهبان الكرمليّين إلى الكرمل وذلك في سنة 1635م وكان الدير في حينه عبارة عن تجويفات في الصخور عاش فيها الرهبان الكرمليّون حوالي 130 سنة إلى غاية فترة حكم ظاهر العمر، حيث سيكون الدير على موعد مع حكاية فضّ أخرى لحجاره ودحرجتها مجدّدًا على سفوح الكرمل، والجدير ذكره، أنّ الراهب روبسبير الأب المؤسّس لدير مار إلياس قد مات سنة 1652 بسبب ديره، إذ أوهنت الرطوبة ورداءه المياه في تجويفات الدير بدن روبسبير، وجابت أجله (11).
في مطلع ستّينيّات القرن الثامن عشر، كانت حيفا الشغل الشاغل لظاهر العمر، فقد أراد إحكام قبضته عليها، لدوافع سياسيّة متّصلة بتخليصها من تبعيّتها لحكّام دمشق، وأمنيًّا بسبب تعدّيات قراصنة مالطة على أهالي حيفا عبر البحر، حيث دفعت تلك الدوافع ظاهر العمر إلى هدم حيفا العتيقة كلّها، وأعاد بناءها مرجعًا إيّاها عن البحر إلى سفح الكرمل، وأطلق عليها اسم “العمارة الجديدة”(12). وقد أصدر ظاهر في ذلك العام كتابًا يقضي بهدم دير مار إلياس، ولم تذكر المصادر ولا المراجع السبب الّذي دفع ظاهر العمر إلى هدم دير رهبان مار إلياس، وربّما هو الوازع الأمنيّ.
دحرجت حجارة دير مار إلياس على سفوح الكرمل كما دحرجت من قبل، وخلفها نزل رهبانه إلى داخل حيفا – العمارة الجديدة، وقد ظلّوا فيها خلف أسوارها إلى أن تحرّك إبراهيم الصبّاغ الّذي كان وزيرًا لظاهر العمر، إذ توسّط عند هذا الأخير، وأصدر منه كتابًا في سنة 1764 يجيز إعادة بناء دير مار إلياس – ستيلا مارس مجدّدًا، وبدعم ماليّ وشقّ طريق جديدة إليه (13).
بعد أقلّ من خمس سنوات على إعادة بناء الدير، أصدر السلطان العثمانيّ مصطفى الثالث (1757 – 1774) بتأثير من فرنسا فرمانًا يحذّر فيه من مضايقة الرهبان الكرمليّين في دير مار إلياس (14)، ومع أنّ الرهبان قد جعلوا تحت حماية ملك فرنسا، كما منحوا امتيازات كالأجانب، إلّا أنّهم لم ينجوا من مذبحة عام 1775م على أيدي جنود أبي الذهب، غير أنّ الدير بقي على حاله مبتورًا من قبّته.
ليلة الدم والسمّ:
في أواسط شهر أيّار/مايو سنة 1799، تنبّه أهالي حيفا وفلّاحي قرى الطيرة والطنطورة المحيطة بالكرمل إلى ظاهرة اختفاء كلاب البيوت والأحياء ليلًا، وتبيّن أنّ رائحة دماء قد أغوت حاسّة الكلاب، فاتّبعتها صعودًا إلى الكرمل. كانت الجثث الملقاة في مسارب منحدرات الكرمل هي من دلّت الكلاب على طريق دير مار إلياس الّذي حوّله نابليون في أثناء حصاره عكّا إلى مشفى لمرضى وجرحى الحصار من جنوده، وتلك الجثث الّتي نهشت بعضها الكلاب كانت تعود لجنود فرنسيّين قضوا بالطاعون في أثناء حصار عكّا.
ترك نابليون عكّا الّتي استعصت عليه، بعد أن حصّنها وتحصّن فيها أحمد باشا الجزّار (1775 – 1804) يجرّ ذيل هزيمته، وكذلك ترك جنوده الجرحى والمرضى في دير الكرمل، وبحسب أرشيف الرهبنة الكرمليّة في روما، فإنّ عسكر الجزّار ومعهم بعض أهالي عكّا وحيفا قد صعدوا إلى دير مارّ الياس، وذبحوا جنود نابليون الجرحى فيه انتقامًا (15)، بينما هناك رواية أخرى تقول: إنّ ذبح الجنود الفرنسيّين الجرحى جرى في وادي الجمال في حيفا (16).
على أيّ حال، ليس فعل الانتقام وموقعه هو الخبر، إنّما ما حدث داخل دير مار إلياس في ليلة الثاني والعشرين من أيّار/مايو 1799، أي قبل الصعود للكرمل والنيل من جنود نابليون الجرحى هو الخبر، فقد أعدّ في تلك الليلة حساء لعشاء الجنود المرضى والجرحى الفرنسيّين، والّذين كان معظمهم مصابًا بالطاعون، وهذا سبب ترك نابليون لهم. كان حساء الدير مسمومًا، فقد وضع أطبّاء الحملة العسكريّة الفرنسيّة الأفيون في قدور المرق والحساء للتخلّص من الجنود المرضى، وبحسب رواية بيرنويه أحد الضبّاط الفرنسيّين نقلًا عن أحد كبار أطبّاء الحملة يدعى ديجينت، والّذي كان في الدير يقول “يمكننا أن نلجأ إلى خيار “الموت الرحيم”، فلا سبيل لنا في إنقاذهم من المعاناة على يد عدوّ همجيّ، وباسم الإنسانيّة إلّا بوضع كمّيّة كافية من الأفيون في المرق، عشيّة يوم الانسحاب ليرقدوا على أثرها للأبد” (17).
في رواية فرنسيّة أخرى، لـ “لي لالمان” من جنود الحملة الناجين، الّذي كان في دير مار إلياس في ليلة دسّ السمّ بالحساء، والشاهد على لحظة وصول عسكر والي عكّا أحمد باشا الجزّار بالسيوف للانتقام يقول إنّه “استيقظ على صوت الجلبة الّتي انتشرت في أرجاء الدير حيث فتح بعض من عسكر الباشا – يسمّيهم الأتراك – باب غرفته بصخب، ودخلوا وسيوفهم مشرعة في أيديهم، فعدّ عندئذ نفسه في عداد الموتى، لكنّه رأى تعبيرًا في وجوههم ينمّ عن الشفقة لا الغضب، إذ استولت عليهم الدهشة بعد رأوا المرضى المحتضرين بالطاعون من الجنود الفرنسيّين، ثمّ رفع عساكر الباشا أيديهم إلى السماء، وألحّوا في الدعاء برفع الكارثة (الطاعون)” (18).
كما يذكر، بأنّ عسكر الجزّار، قد طلبوا الماء الساخن على الفور من رهبان الدير، وشربوه للجنود المرضى الّذين تناولوا الحساء مسمومًا، وقد تعافى منهم قرابة أربعين شخصًا، وقد خيّر الجنودُ الرجال المتعافين بين الدخول في خدمة الدولة العثمانيّة وبين نقلهم إلى أقرب مركز فرنسيّ، فاختار معظمهم الخيار الأوّل (19).
لم يذبح الأتراك والعرب الجنود الفرنسيّين الجرحى منهم والمرضى في دير مار إلياس عند نجمة البحر ستيلا مارس كما ادّعت وروجت ذاكرة الرهبنة الكرمليّة ومعها بعض المؤرّخين، فعدا عن خطيئة تحويل دير للتعبّد إلى قاعدة ومشفى لحملة عسكريّة غازية، فإنّ المقتلة الّتي اقترفت في حينه كانت بدسّ السمّ أكثر ممّا كانت بإراقة الدم، وقد ارتكبها ضبّاط وأطبّاء فرنسيّون بأبناء جلدتهم المرضى والجرحى تحت واجب “الموت الرحيم”.
عواء كلاب، وعويل جرحى ومرضى يملّ أنينهم سفوح الكرمل، ودم مسفوح اختلط برائحة اليود والبارود، وأفيون مطبوخ بالحساء سمًّا، ووحوش تقتفي رائحة الدم، وسرو يلوّح بشلوحه في مهبّ ريح البحر، ودخان منبعث من رمال السهل بين عكّا وحيفا ظلّ يحجب سماء الكرمل. كان ذلك هو حال مار إلياس في ليلة من ليالي الدير الخالدة في ذاكرة رهبانه وجيرانه.
والطريف كان، في ظاهرة كلاب حراسة مار إلياس في الكرمل، الّتي اقتناها الرهبان، وأطلقوا سراحها بالعشرات حول الدير ليلًا، لطرد كلّ من كان تسوّل له نفسه الاقتراب من ديرهم طوال عقود القرن التاسع عشر، فقد أثارت كلاب الدير قلق رعيان قطعان خربة الكبابير، وأفزعت الوافدين للدير من حجّاج ومسافرين، للحدّ الّذي جعلت فيه تلك الكلاب، القادمين إلى حيفا إذا ما وجدوا بوّابتها مغلقة، يتحسّسون رؤوسهم والنوم في العراء على أن يفكّروا بالصعود للدير والمبيت فيه (20). إنّ تقليد اقتناء رهبان مار إلياس كلاب لحراسة ديرهم تعود إلى تلك الليلة، ليلة ذبح وتسميم جنود نابليون.
قصر من حجارة الدير:
لم يمسّ دير مار إلياس أيّ سوء بتحويله مشفى لجرحى ومرضى حملة نابليون، هذا صحيح، ولكنّ الانتقام من الدير ورهبانه جاء متأخّرًا مع ولاية عبد اللّه باشا (1820 – 1832) على عكّا خلفًا لسليمان باشا العادل (1804 – 1820) الّذي خلف الجزّار، ففي سنة 1820 أمر عبد اللّه باشا جنده بهدم الدير وطرد رهبانه منه لأغراض أمنيّة بحكم موقع الدير، وفي رواية أخرى تقول إنّ دير مار إلياس اكتمل هدمه في عهد عبد اللّه باشا، بعد أن هدم العثمانيّون أجزاء منه على أثر حملة نابليون (21).
عمومًا، لم يسمح والي عكّا هذه المرّة بدحرجة حجارة الدير المركوم، إنّما أمر بجمعها، وبنى فيها سنة 1821 قصره المشهور الّذي عرف باسمه غربي الدير المهدّم، وكان قصر والي عكّا أشبه بفنار يطلّ منه على السهل الساحليّ والبحر، وقد تعمّد بناءه في موقع الدير وبحجارته، كي لا يتمكّن الرهبان الكرمليون من العودة للكرمل وبناء ديرهم عليه مجدّدًا.
كان عام 1827، حاسمًا في تاريخ دير مار إلياس، فقد تدخّل الفرنسيّون لدى العثمانيّين، الأمر الّذي مكّن الراهب الكرملي جيوفاني باتيستا كاسيني، – الّذي صار بناء دير مار إلياس الحديث متّصلًا به – من انتزاع إذن من سلطات الباب العالي يجيز عودة الرهبان وبناء ديرهم، ثمّ عجّل غزو المصريّين لفلسطين سنة 1831 مع حملة إبراهيم باشا الّذي أبدى تعاطفًا مع الرهبان الكرمليين، من إعادة بناء دير مار إلياس في موقعه ستيلا مارس سنة 1836، وأكثر من ذلك، فقد انتبه الكرمليون إلى طبيعة الصراع الدائر في حينه بين والي مصر والعثمانيّين، فاستغلّوا ذلك وضغطوا عن طريق القنصليّة الفرنسيّة على والي مصر قبل انسحابه من فلسطين بعدّة أشهر من أجل توسيع مساحة ديرهم، وطالبوا بوضع يدهم على قصر عبد اللّه باشا الّذي أنهى المصريّون ولايته على عكّا، وكان للرهبان ذلك، إذ بات القصر تابعًا للدير بعد أن كان مركزًا للقيادة العامّة المصريّة في أثناء احتلالها لفلسطين ما بي 1831 – 1840 (22).
سلطة الدير:
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت الكبابير ما تزال خربة تتبع لطيرة الكرمل أو طيرة اللوز على الساحل، ولم تكن صارت قرية بذاتها بعد، وكان رعيان الكبابير في سفوح الكرمل يكتمون أصوات أجراس قطعانهم بحشو ورق السريس فيها لئلّا يلفت قرعها انتباه رهبان دير مار إلياس وكلاب حرسه الجعاريّة، فالرهبان الكرمليون فرضوا سطوتهم على مناطق في الكرمل وصلت حدودها إلى وادي الغميق المحاذي للكبابير، ممّا أدّى ذلك إلى نزاعات ظلّت مسترخية في ذاكرة الكرمل ما بين رهبان الدير ورعيان الكبابير (23).
لقد تمتّع رهبان دير مار إلياس الكرمليون بتلك الامتيازات الّتي منحتها السلطنة العثمانيّة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر للقناصل الأجنبيّة ومنها فرنسا، واستغلّ رهبان الدير بدورهم ذلك، وما وصفته ماري إليزا روجرز عندما نزلت دير مار إلياس الكرملي في خمسينيّات ذلك القرن، يدلّنا على شكل السلطة والسطوة، اللّتين صار عليهما الدير ورهبانه، فقد وصفت ضخامة الدير وحسن بنائه، وبذخ طعام مطبخ الدير الفخم المشكّل من السمك واللحوم ولحم الطيور، بما يدفع لسؤال: ماذا بقي من التقشّف، الّذي لطالما أتخم فيه الرهبان رؤوس العباد؟ الغرف الفسيحة المفروشة، والأسرة الناعمة وأناقة ستائرها، الخدم والحشم، المكاتب والنقوش ورفوف كتب تحجب الجدران، وصيدليّة الدير وغرفة للتطبيب والجراحة في الطابق الأوّل، فضلًا قاعة كبرى للطعام، وحجرات للتعبّد، ثمّ جناح آخر ممتدّ خاصّ لراحة الزوّار والحجّاج الوافدين (24).
لم يسبق أن تحامل الأتراك والعرب – مسلمون ومسيحيّون – من سكّان حيفا ومنطقة الكرمل على دير مار إلياس ورهبانه، مثلما جرى التحامل عليه في هذه الفترة، فلا عقيدة الرهبان ولا أصولهم كانت محلّ تحامل مرّة، إنّما عضويّة علاقتهم بالقناصل الأجنبيّة وتحديدًا الفرنسيّة هي ما أوقظ الحنق والضغينة عليهم، لذا، ولمّا اندلعت الحرب العموميّة سنة 1914 بلغة أهالي حيفا في حينه، اتّهمت الأتراك رهبان دير مار إلياس بالتعاون مع العدوّ (الحلفاء)، فنكت جند السلطان الدير تفتيشًا عن السلاح غير مرّة، وهدموا الهرم المقام أمام الدير تخليدًا لذكرى جنود نابليون، الّذين قضوا بالحساء المطبوخ بالأفيون في مطابخ الدير.
وبعد أن طرد الأتراك جميع الرهبان من الدير، هم الجند في إزالة الأسوار الطويلة والمرتفعة الّتي بناها الآباء الكرمليون الرهبان حول الأراضي الّتي بسطوا نفوذهم عليها في الكرمل، ويومها اشترك رعيان الكبابير في فضّ تلك الأسوار (25)، وحين حين احتلّ الإنجليز فلسطين مع انتهاء الحرب سنة 1918، لم يكن في دير مار إلياس سوى راهب واحد، وجزء من الدير الّذي كان قصرًا لعبد اللّه باشا والي عكّا، أضحى مقرًّا لقيادة قوّات الاستعمار البريطانيّ في البلاد.
الدير الحاضنة والملاذ:
كانت مرحلة الاستعمار البريطانيّ للبلاد 1918 – 1947، بمثابة منعطف في علاقة دير مار إلياس بمحيطه العربيّ في حيفا وقرى الكرمل والساحل. لم يصبح الرهبان الكرمليون ثوّارًا في صفّ عرب فلسطين بالطبع، غير أنّ صراع الآباء الكرمليين مع المستعمرة الألمانيّة على الكرمل منذ أواخر القرن التاسع عشر، جعلتهم في تقاطع مع أهالي قضاء حيفا في مواجهة الاستيطان الاستعماريّ.
وقف آباء الدير الكرملي ورهبانه وقفة رفضوا التفريط فيها بشبر واحد من تراب الكرمل، حين حاول الهيكليّون الألمان استيطان الكرمل الّذي لطالما تطلّعوا إلى موطئ قدم فيه، وقد عطّل آباء الدير ورهبانه مشروع الألمان مدّة عشرين عامًا، إلى أن تمكّن الهيكليّون الألمان سنة 1187 بحكم علاقة ألمانيا بالباب العالي في حينه من الحصول على قطعة أرض في الكرمل تساوي مساحتها 12.000 دونم فجنّ جنون الكرمليين، خصوصًا بعد أن بنى الألمان أوّل حيّ سكنيّ في الكرمل أطلقوا عليه اسم “كرمل هايم” – كرمل البحر -. بالتالي، كان الآباء الكرمليون في دير مار إلياس أوّل من تنبّه وواجه الهيكليّين الألمان طليعة الاستيطان الاستعماريّ الصهيونيّ في فلسطين، ولكن لأسباب تخصّ الدير أوّلًا.
مع اندلاع الثورة الفلسطينيّة الكبرى 1936 – 1939، على الاستعمار البريطانيّ في البلاد، صار الكرمل كلّه ملاذًا للثوّار، وأصبح دير مار إلياس مقصدًا ومخبّئًا للمطاردين من مدينة حيفا وريفها، وكثيرًا ما طبب الرهبان ثوّارًا جرحى وتكتّموا على مطلوبين آوتهم صوامع الدير، كما صار الكرمل عمومًا مبعث ريبة ورعب لعموم أهالي حيفا والقرى المجاورة، إذ بات مأوى للّصوص وقطّاع الطريق الّذين رابطوا على دروبه ومسالكه، خصوصًا في آخر أيّام الثورة الكبرى ومطلع أربعينيّات القرن الماضي. للحدّ الّذي صار فيه الدير مقطوعًا عن الديار.
ولمّا حلّت النكبة سنة 1948، كان دير مار إلياس أوّل من فتح أبوابه في وجه الهائمين على وجوههم من أهالي أحياء حيفا العربيّة المهجّرة، فكان ملجأً حاميًا لوجود بعضهم إلى أنّ أمن بقائهم في البلاد سنة 1949. ومجدّدًا، مبنى الدير الّذي قلنا عنه أنّه كان قصرًا لوالي عكّا عبد اللّه باشا، تسلّمه الصهاينة من أسلافهم الإنجليز، واستباحوه مقرًّا لقيادة الجيش الإسرائيليّ في منطقة حيفا إلى يوم الدير هذا.
أخيرًا… الدير ودوران الزمن:
ظلّ دير مار إلياس منذ استنباته صخرًا في كرمل ستيلا مارس بين مطرقة حساسيّة موقعه جغرافيًّا، وسندان عقيدة مؤسّسيه دينيًّا، والدير في هويّته بقي أمينًا للكرمل الجبل ومطله من عند سيّدته نجمًا على البحر. لم يعرف دير دوراننا للزمن معه أو عليه مثلما عرف دير كرمل مار إلياس، كما لم يذكر عن شمعة أوقدها رهبانه فيه إلّا وأطفأها هبوب حكاية ما. بني وهدم مرّات، بحكم مطامع أو مخاوف المارّين، لكنّه دائمًا ما كان يقوم قومة الجمل في بنائه؛ عبّاد وزهاد، رحّالة وحجّاج، غزاة وطغاة، وسكنة تمنح الهائم السكينة، ثمّ ثكنة للغاشم توقد الضغينة. ذاكرة، كانت كلّما استرخى فيها بخور الصلاة، قاطعتها وقطعتها رائحة الدم والغزاة.
…………………
الهوامش:
(1) الصبّاغ، ميخائيل نقولا، تاريخ الشيخ ظاهر العمر الزيداني، تحقيق: أحمد حسن جودة، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت، 2019، ص 95.
(2) الصبّاغ، ميخائيل نقولا، المرجع السابق، ص94.
(3) المرجع السابق، ص 95.
(4) المرجع السابق، ص 95.
(5) فولني، س. ف، ثلاثة أعوام في مصر وبرّ الشام، ترجمة: إدوار البستانيّ، دار المكشوف، بيروت، 1949، ص 167.
(6) المرادي، محمّد خليل بن عليّ، سلك الدرر في أعيان القرن الثاني، عشر، القاهرة، 1883، ج1، ص57.
(7) كرمل، ألكس، تاريخ حيفا في عهد الأتراك العثمانيّين، ص 59. أيضًا راجع: البوّاب، علي حسن، موسوعة حيفا الكرملية: حيفا وقضاؤها 1750-1948، المطبعة الوطنيّة، عمّان، 2009، ج1، ص 41.
(8) البوّاب، علي حسن، موسوعة حيفا الكرملية، ج1، ص 207.
(9) منصور، جوني، الخضر مار إلياس ولقاء الناس، مقالة منشورة على موقع فلسطين في الذاكرة، تاريخ 19/2/2014.
(10) نقلًا عن: البوّاب، عليّ حسن، المرجع السابق، ج1، ص40.
(11) المرجع السابق، ج1، ص311.
(12) المحامي، توفيق، معمّر، ظاهر العمر، مطبعة داوفست الحكيم، الناصر، 1979، ص95.
(13) البوّاب، عليّ حسن، المرجع السابق، ج1، ص311.
(14) المرجع السابق، ج1، ص311.
(15) كرمل، ألكس، تاريخ حيفا في عهد الأتراك العثمانيّين، ص150.
(16) منصور، جوني، حيفا الكلمة الّتي صارت مدينة، دار أزمنة للنشر والتوزيع، الدوحة، 2014، ص44.
(17) كرودي، تيري، جيش الشرق: الجنود الفرنسيّون في مصر(1798- 1801)، ترجمة: أحمد العدوي، مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة، 2017، 169.
(18) المرجع السابق، ص 175.
(19) المرجع السابق، ص175.
(20) البوّاب، علي حسن، موسوعة حيفا الكرملية، ج1، ص309.
(21) المرجع السابق، ج1، ص311.
(22) المرجع السابق، ج1، ص311.
(23) المرجع السابق، ج1، ص311.
(24) روجرز، اليزا روجرز، الحياة في بيوت فلسطين: رحلات ماري روجرز في فلسطين وداخليّتها (1855- 1859)، ترجمة: جمال أبو غيدا، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، 2013، ص95.
(25) البوّاب، علي حسن، المرجع السابق، ج1، ص 312.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب فلسطيني وباحث في التاريخ الاجتماعي
المصدر: عرب 48