(الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة السابعة من الجزء الأول– المرحلة الثانية(2/2) بقلم الأستاذ “عبد الكريم زهور”
المرحلة الثانية(2/2)..
وبدأت في ۳۰ آب قوات المكتب السياسي زحفها الى العاصمة من كل الجهات. واعلن بن بله أن المكتب السياسي طلب من جيش التحريران يدخل العاصمة ليقر الأمن فيها حتى يتمكن من تنفيذ البرنامج المرسوم لبناء الجزائر الجديدة.. وأن القوات القاصدة إلى العاصمة لا تبغي محاربة أي شخص أو أية جهة.. وأن كل من يقف في طريق هذه القوات سيعتبر مهدداً لأمن البلاد ومعرضاً سلامتها للخطر.. وأن المسألة هي مسألة تمرد قيادة الولاية الرابعة على سلطات المكتب السياسي ورفضها لأوامره، والأخطر من ذلك قيام هذه القيادة بأعمال تجعل المكتب السياسي غير قادر على ممارسة مسؤولياته، ومن هذه الأعمال استيلاؤها على المؤسسات العامة في العاصمة، وبذلك تصبح المسألة مسألة احترام السلطة الشرعية أو عدم احترامها..
6ً- اتخذ المكتب السياسي هذا الموقف الحازم، وبدأت قواته العسكرية نقدمها نحو العاصمة. وأتم الشعب ما بدأه المكتب السياسي في صورة رائعة من السمو والإيمان والوطنية. عشرات الالوف من الشعب كانت تقف حاجزاً بين القوات المتنازعة، وتحت الرصاص أحياناً، وهي تنادي «عشر سنين بركات». ذكرت وكالة تاس أن أهالي القصبة كانوا، أثناء الاشتباك، يحتشدون جماعات مخاطرين بحياتهم وهم يطلبون من قوات الولاية الرابعة أن يتوقفوا عن اطلاق النار. كما أعلن اتحاد العمال العام أنه سيلجأ الى الاضراب العام في كل أنحاء الجزائر حتى يتوقف النزاع. و نظم هذا الاتحاد واتحاد الطلاب تظاهرات تنادي بالسلام ووقفْ النزاع. وقام سكان بلدة سيدي عيسى بعمل جريء حين طردوا قوات الولايتين الرابعة والثالثة إلى خارج البلدة..
هذا من جهة، ومن جهة أخرى بدأ بعض التفكك يحل في قوات الولاية الرابعة. فقد التحق 700 ضابط وجندي من قوات هذه الولاية بقوات المكتب السياسي، وانضمت المنطقة الواقعة شمال بوغاري إلى المكتب السياسي..
7ً- وعندئذ، ومن هذه المراكز القوية، بادر المكتب السياسي إلى فتح باب المفاوضات وقبلت قيادة الولاية الرابعة مبدأ التفاوض. كما صرح بذلك العقيد حسن في 4 أيلول. وقال أن قيادة الولاية الرابعة على استعداد لبحث كل الإمكانات باستثناء اللجوء الى القوة، وأنها أيضاً على استعداد للانسحاب من مدينة الجزائر لتصبح منطقة محايدة..
وفي اليوم نفسه وفي القصبة عقد المكتب السياسي مؤتمراً صحفياً كان قد دعا اليه من قبل، واستمع الصحفيون، المدهوشون لرؤية بن بلة في المؤتمر، إلى خيضر يقول: ان المكتب قد قرر مقاومة محاولة قيادة الولاية الرابعة الاستئثار بالسلطة، وأنه مصمم في الوقت الحاضر على تحمل مسؤولياته، التي سلمها الى السلطة الشرعية التي ستنبثق عن الانتخابات .
وفي 5 أيلول وُقعت اتفاقية وقف اطلاق النار، ووجه خيضر من إذاعة الجزائر امراً بإيقاف جميع عمليات القتال. وخاطب بنبلة الجماهير الكبيرة المحتشدة أمام بناية الحكومة بقوله: ان اتفاقية وقف اطلاق النار بين المكتب السياسي وقيادة الولاية الرابعة ليست نصراً لجيش على جيش آخر، ولا نصراً للمكتب السياسي، بل نصراً للشعب الجزائري. وبدأت قوات الولاية الرابعة تنسحب من العاصمة وتسلمها للمكتب السياسي.
وأعلن خيضر في اليوم الثاني بنود الاتفاقية وهي: 1- تعتبر مدينة الجزائر مجردة من السلاح وتوضع تحت اشراف المكتب السياسي ومسؤوليته وتنسحب جميع الوحدات العسكرية منها؛ ۲- تجري انتخابات الجمعية التأسيسية في وقت قريب، قد يكون 16 أيلول؛ ۳- يجدد المسؤولون في الولاية الرابعة ثقتهم بالمكتب السياسي، ويعترفون بسلطته، ويعلنون أنهم لم يرفضوا إعادة تنظيم جبهة التحرير.
وفي 12 أيلول أدلى بن بلة بتصريح رسم فيه صورة تخطيطية لنظام الحكم في الجزائر، قبل الانتخابات العامة وقيام الحكومة الشرعية وبعدها، يمكن تلخيصها على النحو التالي:
أولاً- سيقوم المكتب السياسي بمهاته تنفيذاً لقرار المجلس الوطني الثورة إلى أن يجتمع هذا المجلس قبل نهاية العام. وسيكون من مهماته اقرار المنهج السياسي والإشراف على تطبيقه. وإذا كان يتولى الآن كل السلطات فلأن الأوضاع الحالية تعتبر امتداداً للأوضاع التي سبقت وقف اطلاق النار.
ثانياً- سيُعاد تنظيم الجيش الوطني الشعبي المنبثق عن جيش التحرير الوطني كما يحدث لأية منظمة عسكرية سياسية تولدت عن ثورة. وان قيادات الولايات قد وضعت نفسها مباشرة وبصورة لا تقبل التباساً تحت سلطة المكتب السياسي المباشرة. وقد أنشئ مجلس عسكري يضم عدداً من ضباط القيادات السابقة الولايات برئاسة الكولونيل الحاج بن العلاء.
ثالثاً- أما بعد قيام الحكومة الجزائرية الجديدة، فسيظل المكتب السياسي قائماً، وتكون في الجزائر سلطتان في آن: احداهما هي الحكومة الجزائرية المنبثقة عن المجلس التأسيسي المقبل وستتولى المسؤولية الجماعية، والثانية هي المكتب السياسي الذي سيكون مسؤولاً عن جبهة التحرير الوطني التي ستنقلب إلى حزب.
فإذا قارنا الآن موقف بن بلة هذا بمواقفه منذ البدء ومواقف صحبه لم نجد اختلاف. شهران طويلان ثقيلان ينقضيان والمكتب السياسي يزحف في طريق متعرجة: يميل إلى الهجوم النظري مرة ويعرج على الهجوم السياسي مرة؛ يعتمد على الجيش مرة وعلى الشعب كل مرة، يضرب الصعاب عندما تقف صماء في وجهه بقوة السلاح ولكنه سريعاً ما يوقف الضربة العنيفة ليلجأ الى المكتب السياسي أخيراً إلى الأهداف التي وضعها أمامه، ينفذ خطته ولكن بأكثر ما يكون التكتيك مرونة، بأكثر ما يكون من الحزم والحذر، ودون أي شيء يمكن أن يدعى استهتاراً وتضحيات مجانية.
8ً- على هذه الصورة انتهت الأزمة الجزائرية، ولكن هناك جانباً من الصورة لا بد من ذكره لإتمامها: فقد أعلنت القاهرة في 3 أيلول أنها أرسلت ثلاث بواخر محملة بالذخائر والأعتدة الحربية للمكتب السياسي، وأن هذه البواخر قد بدأت تقلع من ميناء الإسكندرية قبل أكثر من أسبوعين، وأن الباخرة الأولى وصلت في 26 آب، والثانية أمس الأول، والثالثة أمس. ووردت الأنباء من وهران أن سفينة مصرية محملة بالأسلحة قد أفرغت حمولتها في ميناء وهران أمس (۲ أيلول)، وأن أحمد بن بله نزل إلى رصيف الميناء للإشراف بنفسه على عملية تفريغ الأسلحة.
فماذا كان موقف الجهاز السياسي السوري في هذه الفترة الختامية من الأزمة الجزائرية؟
1- توجيه أنباء الأزمة الجزائرية توجيهاً مسموماً بالنسبة للمكتب السياسي وبالنسبة لبن بلة خاصة عادة قد عرفناها من الصحافة السورية، وهي في هذه الفترة الحاسمة لم تخالف عن عادتها، وإن كانت بإيقاع أشد خبثاً وخساسة. ونكتفي لبيان ذلك بذكر بعض العناوين الضخمة والمتوسطة التي تُوجت بها أنباء الجزائر:
في 26 آب: «المكتب السياسي الجزائري يستقيل وجيش التحرير يتولى السلطة»، «تضامن القادة العسكريين في الولايتين الثالثة والرابعة وفرض سيطرتها على الموقف» – في ۲۷ آب: «القادة العسكريون الجزائريون يدعون مجلس الثورة لاجتماع عاجل»، «قادة الولاية الرابعة يتهمون الزعماء السياسيين بالتحالف مع الاستعمار الجديد والاقطاع» – في 30 آب: «بوادر حرب أهلية في الجزائر ووقوع صدام مسلح بين جماعة بن بلة والعسكريين» – في 1 أيلول: صدرت الأوامر بتدخل القوات الفرنسية في الجزائر لحماية المستوطنين» – في 2 أيلول: «بدأت الاشتباكات الدموية حول عاصمة الجزائر» – في 4 أيلول: «ناصر يقدم الأسلحة لبن بلة لتسيطر قواته على مدينة الجزائر بالقوة» – في 5 أيلول: «بن بلة يدخل الجزائر في جو مشحون بالتوتر والاحتمالات».
2- ولم تتأخر التعليقات المستهترة عن الظهور، لأن موسمها يحل حين تشتد الأزمة، ويبلغ غاية الوفرة حين يُطل عبد الناصر.
ففي 30 آب أطل العميد أمين النفوري بطلعته المجلوة في مؤتمر شتورة على الأزمة الجزائرية، وقد وضع تحت أضراسه ما ألقاه من قبل الفريق البزري والأستاذ الحوراني، ثم لفه بلعاب من حقد زيادة على ما عُجن به من لعاب الآخرين. كرر في تصريحه، الذي أعطته إحدى الصحف هذا العنوان الأكبر «النفوري يفضح مخطط ناصر بتحويل الجيش الجزائري إلى منظمة إرهابية لتنفيذ مؤامراته»، الذكريات «القاهرية» بما لا يخرج عن ذكريات صاحبيه، وكرر أيضاً ذكر النصيحة التي قُدمت للحكومة الجزائرية بنقل مقرها من القاهرة «لتكونوا بمنجى من هذا الرجل (عبد الناصر)». والغريب في أمر هذا العميد أنه قد تأخذه عادة التكرار فينسى نفسه والحوادث. ففي مرة وهو يخطب « موزعاً الأراضي» انطلق مثل القذيفة الشاردة إلى الجزائر، فكرر ما قال وما قيل، وقد غفل عن أن الأزمة انتهت منذ زمان، وأن الانتخابات جرت وأن الحكومة الجزائرية الشرعية قد شُكلت وأنها ماضية في طريقها الثوري المرسوم.
ونشرت إحدى الصحف مقالين في يوم واحد، يوم 3 أيلول: مقالاً افتتاحياً تحت عنوان «لن تمر الجزائر بمرحلة ناصرية»، يبدأ كالعادة في كل ما يتعلق بالجزائر بالعواطف الطيبة، لكي يعرج بعدها على ضرورة الديمقراطية واستنكار الديكتاتورية، ثم إلى الخاتمة «.. إن الثورة التي كان عمودها الأساسي وعي الشعب وتصميمه على الحرية واستهانته بكل تضحية مهما عظمت لا يمكن أن تؤدي بالشعب إلى الديكتاتورية العسكرية، إن شعب الجزائر لا يحتاج إلى (مرحلة ناصرية) في طريقه إلى الاشتراكية والعدالة الاجتماعية» – ومقالاً آخر بارزاً في الصفحة الأولى بعنوان «الناصرية وأزمة الجزائر» جاء فيه «.. وأما الأمر الأدهى فهو هذه الحرب الاهلية بين المنتصرين والفائزين بحرية الجزائر والتي تكمن فيها المؤامرة الاستعمارية والناصرية بوقت واحد»، «إنه يعز علينا كثيراً أن نفجع بآمالنا في ثورة الجزائر، هذه الثورة التي حكمتها الديمقراطية منذ ابتدأت والتي لا يجوز أن تنقلب إلى ديكتاتورية عسكرية بعد أن نجحت. وأنه ليعز علينا أكثر أن نفاجأ في مستقبل الأيام بكتاب جديد تنشر فيه المخابرات الأمريكية أعمالها وأن يحتوي هذا الكتاب على صفحات تذكر فيها بأنها اعتمدت واحداً وأكثر أو غررت بواحد أو أكثر من هؤلاء الزعماء الجزائريين الذين نحفظ لهم كل إكبار وتقدير..».
3- وبلغت الحملة على بن بلة أقصاها حين أذيع نبأ بواخر الأسلحة المصرية. وابتدأ الحملة، وفي نفس اليوم الذي أذيع فيه النبأ، الملك حسين في كلمة له في الإذاعة اتهم فيها عبد الناصر بالقيام بأعمال التخريب في الجزائر، بعد أن قام بمثل ذلك في الموصل وتركيا ولبنان والمغرب وتونس والسعودية والأردن، وقال مشيراً إلى بواخر الأسلحة «إن هذه البواخر وصلت إلى الجزائر لتزرع أرضها بالخراب والدمار».
ويظل الملك حسين في كلامه ضمن حدود من اللياقة لا يتعداها، أما الصحافة في دمشق فتفلت بلا زمام تتهجم على بن بلة، بل تهوي إلى وهدة سحيقة من الابتذال. ففي 4 أيلول نشرت إحدى الصحف مقالاً بعنوان «نخوة ناصرية» وصل إلى هذه الدرجة من الإسفاف: «وقد انتظر سيادته إلى أن وقعت اتفاقية ايفيان رغم أنفه، وإلى أن اختلف بن بلة مع الزعماء الآخرين، وإلى أن زار بن بلة القاهرة وعرضه من إحدى الشرفات في ميدان الجمهورية وجعله يرفع يديه الاثنتين لرد التحية للجماهير المستعارة من المصانع على طريقته تماماً، ومن ثم إلى أن عاد إلى الجزائر، وأخيراً إلى أن أعلنت الحرب الأهلية.. فقام بالمهمة وأرسل السلاح إلى الجزائر »، واختتم كاتب هذا المقال مقاله بمثل ما كان اختتم به مقالاً له ذكرناه آنفاً « ولا نريد أن نفجع بآمالنا بشعب الجزائر وقواده وأن نفاجأ بأن ثورة الجزائر كانت لمصلحة سوكوني فاكوم».
و في اليوم نفسه نشرت صحيفة أخرى مقالاً افتتاحياً عنوانه «الجزائر ودمشق والقاهرة» جاء فيه: «اسباب كثيرة جعلت بن بله يربح الجولة الأولى على خصومه السياسيين والعسكريين. وقد يكون في رأس هذه الأسباب أن بن بله ارتاح من القتال زهاء خمس سنوات عندما اختطفه الفرنسيون.. بينما تعب معارضوه السياسيون والعسكريون من معارك دامية..». «.. والظاهر أنه (بن بله) رسم خطة عمله المستقبل عندما زار القاهرة وخلا طويلاً إلى عبد الناصر، وتفاهم معه على الخطوات القادمة. وليس أدل على ذلك من بواخر الأسلحة الثلاث..». وكانت خاتمته « ومهما تكن نتيجة الصراع الدائر في الجزائر الآن، فلا بد أن يتفق الجزائريون قريباً على القول: عبد الناصر حاول في البداية أن يجعل من الثورة الجزائرية ورقة يلعب بها في تنفيذ سياسته فلما فشل في ذلك عاد يلعب اللعبة نفسها بعد أن نجحت الثورة. وكل دم جدید يراق على تراب الجزائر لا بد أن يشترك عبد الناصر في حمل اثمه ووزره».
وتعرضت صحيفة ثالثة صباح 6 أيلول بمقالها الافتتاحي المعنون بـ «مدرسة التقسيم» للأزمة على الرغم من إعلان انتهائها واتفاق الطرفين المتنازعين، وكان مما قالته «.. ولكن رجلاً واحداً عمل منذ أن ظهر على مسرح السياسة العربية على تفريق شمل العرب.. أراد في هذه المرحلة الدقيقة الخطرة من تاريخ القطر الجزائري الغالي أن يتحيز لفريق دون فريق وأن يحرض فئة على فئة، وأن يقيم في البقعة المستقلة حديثاً من الشمال الافريقي مجزرة أقسى من مجازر الاردن والعراق ولبنان».
حرصنا، كما هي خطتنا في هذه الظروف، على نقل النصوص السابقة نقلاً حرفياً عن أكثر ثلاث صحف من صحافة دمشق انتشاراً، لأنها تعبر عن وجهات قطاعات معينة من الجهاز السياسي السوري وغيره من الأجهزة، حرصنا على ذلك لأن مواقف الجهاز السياسي السوري بعامة والصحافة السورية خاصة هي من الغرابة في هذه الأيام بحيث قد يثير تلخيصها الاتهام بالتحريف، فلتفادي مثل هذا الاتهام لا بد من اللجوء إلى النصوص نفسها.
فالاختلاف في المواقف تجاه الأزمة الجزائرية متوقع، وأن يوجد من يؤيد هذا الجانب أو ذاك غير مستغرب، ولكن المواقف تتخذ في مثل هذه الأحوال وبخاصة بالنسبة لثورة الجزائر، على أساس النظرية أو الرأي الذي يتبناه الإنسان أو الجهاز السياسي ومطابقته أو عدم مطابقته لتصريحات الجانبين أو لرأيه فيهما على الأقل. أما أن يوجد من يقول عن بن بله، أو عن أي من قادة ثورة الجزائر ورجالها من صحب بن بلة أو من خصومه، أن عبد الناصر عرَضه مرفوع اليدين في شرفات قصور القاهرة، ومن يقول أن بن بلة استراح من الحرب والنضال خلال سجنه في فرنسا ولذلك نراه الآن متوفزاً للقتال، ومن يجرؤ على أن يقول: يخشى أن تكون ثورة الجزائر لمصلحة سوكوني فاكوم- فذلك ما لا يتوقعه إلا ذو خيال ووجدان مريضين.
بن بلة الذي قال مع ثمانية من رفاقه- وبعضهم كان خصماً له في الازمة- إن ثورة مسلحة في الجزائر ممكنة وواجبة وهي وحدها طريق الخلاص، حين لم يكن على الأرض من يقول هذا القول، ثم يمضون فينفذون الثورة ويقودونها حربا وسياسة، من السجن وفي المعركة، في مواجهة “ماسو” وتجاه “سوستيل” و”ديغول”، في مؤتمرات الشعوب وفي هيئة الأمم.. – يوجد في العرب من يجرؤون على التهجم عليه واتهامه وفي مثل ذلك المستوى! ومن هم هؤلاء بعد كل حساب؟ خلقٌ لو نظرَ إليهم صغير من صغار المباحث نظرة شزراء ما ناموا ليلتهم خوفاً وجزعاً.
4- أما الموقف الرسمي فيتجلى في الوساطة السورية. فقد أعلن في 1 أيلول. أن السيد رئيس الجمهورية العربية السورية أرسل رسالة إلى كل من بن بلة وبن خدة وفارس وبلقاسم وقادة الولايات الست. وفي هذه الرسالة نقرأ:
«.. إن الظرف الدولي الحاضر ووجود الجيوش والجاليات الأجنبية على أرضكم سيجعل أي خطة ومبدأ مهما كان خاطئاً أذا نفذ بوحدة الصف واتفاق الكلمة أكثر نفعاً وأوفر ثمرة لحاضر الجزائر والعروبة ومستقبلها من أي خطة وأسمى مبدأ ينفذ بالقوة وإراقة الدماء واقتتال الشعب، لأن ذلك سيُخلف أحقاداً وحزازات يصعب على الزمن محو آثارها، ويتيح للمصالح الأجنبية المتربصة والمنتهزة للفرص أن تجعل من هذا الخلاف والاقتتال وضعاً مخيفاً مدمراً يفوق أضعاف الأضرار والدمار التي يظن أي من الطرفين أن تنفيذ طريقة الآخر ستوقعه في الجزائر ..» .
وصرح، بعد نداء رئيس الجمهورية، مصدر مطلع في وزارة الخارجية السورية بأن الأوساط المختصة المتتبعة لأنباء الجزائر، وما يخشى منها على هذا القطر العربي العزيز، تقوم باتصالات مع الدوائر المسؤولة في الأقطار العربية الأخرى لتدارك استفحال الامر وبذل كل ما في الوسع من أجل الجزائر ..
ويظهر أن المساعي السورية لقيت القبول والترحيب من الملك سعود، فقد أذاع هذا الملك في ۲ أيلول نداء إلى الجزائريين نذكر منه ما يلي: «.. إن الخلاف الشديد بين وجهات النظر في الجزائر اليوم يكاد يطيح بكل المعاني النبيلة السامية والمثل الرفيعة للكفاح والجهاد والمبادئ الكبرى التي ضربتها الثورة الجزائرية… وإننا ونحن نتلقى أنباء اندلاع الحرب الأهلية في الجزائر لا يسعنا إلا أن نهب كل امكانياتنا وقدرتنا للعمل الجدي المخلص المجرد على اطفاء الفتنة العارمة وعلى تقريب وجهات النظر بين الاخوة المتخاصمين. ونحن في سبيل ذلك نهيب بالجزائريين أنفسهم الذين ذاقوا مرارة الالم وشدة العذاب ولوعة القتال بأن يحكِموا العقل والمنطق في هذا الوقت العصيب ليحافظوا على نتائج ثورتهم الباسلة مهما لحق أشخاصهم من تضحيات.. كما أن من الواجب أن نذكر إخواننا الجزائريين بأن العدو يتربص بهم الدوائر ولا يزال لهم بالمرصاد ..». کما أعلن أنه قرر إيفاد بعثة إلى الجزائر برئاسة وزير دفاعه، وأنه وجه دعوة إلى الجامعة العربية للانعقاد بشكل استثنائي تدرس فيه الوسائل التي ينبغي ايجادها للتغلب على هذا الموقف العصيب.
سعود وسيط خير، جلالة الملك بين الثوريين العتاة. مكان جميل نتمناه للملك سعود! ولكن هذه الوساطة لم تأت في حينها. لقد أتت والرجحان في جانب المكتب السياسي، وكل وساطة تعني وقف المكتب السياسي عن حل الأزمة حلاً جذرياً. ولم يصدق أحد بجدوى هذه الوساطة، وأنها ستجد النجاح الذي وجدته خطة ابن العاص في رفع المصاحف على رؤوس الرماح. ولا سعود نفسه توقع من بن بلة والمكتب السياسي الاستماع إلى نداءاته ونصائحه الحكيمة والقبول بوساطته. ولكن أراد هو أيضاً أن يكون له دور في معركة التخذيل عن بن بلة والدعاية ضده وتصويره بصورة المتعنت المستهتر بسفك الدماء. غير أن الرؤوس التي تتأرجح طرباً لنداءات سعود هي الرؤوس ذاتها التي يرى الشعب العربي أنها تتأرجح حقاً … وأنها لقليلة العدد بعد كل حساب.
وبعد، هذا موقف من مواقف الجهاز السياسي السوري. وليس وحيداً بل إنه مثال لمواقف هذا الجهاز جميعاً منذ ۲۸ أيلول 1961. مثال نموذجي اخترناه عن قصد. لأن ثورة الجزائر تتمتع باحترام إنساني وتقديس عربي خاص، ولقادتها حرمة في قلوب العرب أجمعين. فأياً ما كانت مواقفهم فالاعتدال والقصد لا بد أن يسما الآراء والمواقف العربية تجاههم، وإذا تبادل هؤلاء القادة التهم فيما بينهم- ولم يخرجوا بصورة عامة وفي كل الأزمة عن حدود اللياقة والاحترام المتبادل رغم عنفهم وعنف الأزمة- فهذا مكان حرام، لهم وحدهم حق الدخول فيه، وليس لأحد من العرب غيرهم مثل هذا الحق . ذلك أقل ما تفرضه على أبناء الأمة العربية ثورة السبع السنوات والمليون شهيد والمليوني مشرد، ثورة العذاب والتضحيات الرهيبة يزحف في طريقها عشرة ملايين من العرب ويخوضون في دمائهم. للعربي الحق في أن يكون له رأيه وأن يتحيز إلى هذا الجانب أو ذاك، ولكن ليس له أن يتجاوز الحد فيجرح الثورة وقادتها.
غير أن الجهاز السياسي السوري لم يتورع في التهجم والاتهام. وليت من تورطوا كانوا من صغار الساسة أو من اليمين. إنهم قادة اليسار(كما يدعون) وزعماؤه. ولكن، لماذا؟ الجواب في بياناتهم وتعليقاتهم. فالكلمة الأولى الأخيرة فيها عبد الناصر. أنى توجه فهم في الاتجاه المعاكس، وأي مسلك سلك فهم لنقيضه سالكون. ارتكاس تملكَ الجهاز السياسي السوري لا يستطع منه خلاصاً. كالمرأة المُطلقة، حديثها من الصباح إلى المساء ومن المساء إلى الصباح، بل أحلامها، تدور حول زوجها السابق. ألم يهن أنوثتها !؟ وتأمل بعد ذلك في جهاز سياسي، كل فلسفته السياسية تقوم على الرفض والنفي والسلب، وفي دولة يمكن أن ينهض بها مثل هذا الجهاز الساسي.
أما أن بن بلة عربي اشتراكي، وأن الجهاز السياسي السوري لا يخيفه شيء بمقدار العروبة والاشتراكية، ولا يستمسك بحبل لإنفاذه بمقدار ما يستمسك بالكيانات المقدسة الأزلية والأوضاع الرجعية، فذلك ما يحتاج إلى بحث بأكمله.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
يتبع.. الحلقة الثامنة بعنوان: الستالينية والمسألة القومية؛ (1). مقدمة.. بقلم الأستاذ “الياس مرقص”