عثمان أمكور *
تقول المؤرخة تومسون إن البريطانيين والفرنسيين لجؤوا إلى مقاربة عنصرية لتسويغ احتلالهم سوريا الكبرى والعراق بعد الحرب العالمية الأولى، لقد جادلوا بأن العرب المسلمين اتسموا بالتعصب الديني وأن ذلك تجلى في استباحتهم دماء المسيحيين العرب على غرار مذبحة الأتراك ضد المسيحيين الأرمن.
غالبا ما تجنح النظرة المعهودة عن وضع الديمقراطية في الأوطان العربية إلى عدّ العرب غير مؤهلين للديمقراطية والحداثة السياسية، وهي نظرة دعمها موقف المستشرقين النمطي من المنطقة العربية والإسلامية عموما.
ولكن المؤرخة إليزابيث ف. تومسون (Elizabeth F. Thompson) التي تعمل أستاذة كرسي محمد فارسي للسلام الإسلامي في كلية الخدمة الدولية بالجامعة الأميركية (بواشنطن) والمختصة بدراسة بالشرق الأوسط الحديث تقدم صورة مغايرة لتلك الصورة النمطية، في كتابها المهم الصادر سنة 2020 المعنون بـ”كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب :المؤتمر العربي السوري عام 1920 وتدمير تحالفه الليبرالي الإسلامي التاريخي” (HOW THE WEST STOLE DEMOCRACY FROM THE ARABS :The Syrian Arab Congress of 1920 and the Destruction of Its Historic Liberal-Islamic Alliance).
ترى تومسون أن العرب عرفوا تجربة ديمقراطية مميزة تجسدت في سوريا، وبالضبط في الثامن من مارس/آذار 1920، إذ أصدر البرلمان السوري إعلان الاستقلال باسم الشعوب الناطقة بالعربية القاطنة في سوريا الكبرى (التي تضم اليوم لبنان وسوريا والأردن وفلسطين).
وخلال الحرب العالمية الأولى، انضم السوريون العرب إلى الحلفاء في حربهم ضد الدولة العثمانية، كما احتضنوا مبادئ ويلسون للحرية، وكان إعلان استقلال سوريا حسب رؤية المؤرخة متوافقا مع قيم المساواة والحرية، وسعت سوريا بذلك إلى كسب مكان لها داخل “المجتمع الدولي” إلى جانب بولندا وتشيكوسلوفاكيا ودول قومية أخرى نالت استقلالها وتمكنت من تأسيس دولة حديثة.
وترى المؤلفة في كتابها أن الغرب استنكر مجهودات سوريا في تأسيس تجربة ديمقراطية ليبيرالية داخل المنطقة العربية. ويستكشف حوار الجزيرة نت مع المؤرخة إليزابيث ف. تومسون مضامين كتابها القيم، محاولا فهم دور رشيد رضا في تشكيل تجربة سوريا الديمقراطية، وكيف أجهض الغرب الاستعماري تجربة سوريا الديمقراطية الرائدة حينئذ، ويعرض لأبرز الدروس المستفادة اليوم من هذه التجربة التاريخية المهمة، فإلى الحوار:
o في كتابك قدمت صورة غير معهودة لرشيد رضا صاحب “المنار” وعلاقته بالدولة العربية في سوريا، فذهبت إلى أنه مرن مع التصور المدني للدور الذي يمكن أن تجسده سوريا بوصفها دولة مستقلة، كيف ذلك؟
◉ ما أدهشني وألهمني لكتابة هذا الكتاب هو الشيخ رشيد رضا ناشر المجلة الإسلامية “المنار”، الذي ترأس البرلمان السوري وذلك عام 1920. فتحت إشرافه صادق البرلمان السوري على دستور لـ”ملكية برلمانية مدنية”، وكان معظم نواب البرلمان السوري من سياسيي العصر العثماني، ممن دعموا الثورة الدستورية العثمانية عام 1908. وهنا يجب أن ينظر إلى الدستور السوري لعام 1920 على أنه محاولة لإحياء الحكومة الدستورية بعد فترة الحكم العسكري الذي قامت به تركيا الفتاة 1913-1918.
ومع ذلك، كان دستور 1920 أيضا نسخة مختلفة جذريا عن الدستور العثماني، ويتجلى ذلك في مجموعة من النقاط؛ أولا، منح دستور 1920 سلطة أكبر للهيئة التشريعية في حين قلل سلطة الملك، كما أن سلطات الملك فيصل حينئذ كانت مستمدة من البرلمان السوري ولم تستند إلى شرعية الدم أو الدين.
ثانيا، ألغى الدستور أي ربط بالإسلام باعتباره دينا للدولة أو مصدرا للتشريع، وكان الأمر الملزم للملك فيصل هو احترام “الشرائع الدينية” فقط، وكتب رضا وآخرون في عام 1920 أنهم يسعون إلى المساواة الكاملة بين جميع المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية. وفضلا عن ذلك، اعتقد رضا أن هناك حاجة إلى تشريع علماني بخصوص الأمور المرتبطة بالمصلحة العامة، وعلى عكس الإسلاميين الذين تلوه لم يكن رضا يعتقد أن الشريعة الإسلامية تشمل جميع مجالات القانون.
أدركتُ من خلال دراستي أن رشيد رضا قد حقق في عشرينيات القرن الـ20 الغاية التي سعى إليها العرب عبر انتفاضاتهم عام 2011؛ المتمثلة في الديمقراطية، وقد أنجز رشيد رضا ذلك بفعل تعاونه مع الفقهاء بدل قمعهم. وفي الواقع، التناقض بين سوريا وتركيا مذهل جدًّا، ففي الوقت الذي لم يعد السوريون ينظرون فيه إلى الإسلام على أنه دين للدولة وفق مقاربة توافقية انتظم فيها الفقهاء في عام 1920، فإن تعامل مصطفى كمال (أتاتورك) مع الإسلام في ظل جمهورية تركيا كان قائما على قمعه وصدامه مع الزعامات الدينية بتركيا.
واليوم، بعد هزيمة الربيع العربي والإقصاء الذي واجهته جماعة الإخوان المسلمين، من المفيد التفكير في تجربة عام 1920 على أنها “طريق ممكن”، وهو ما يجعلنا نطرح سؤالًا من قبيل: هل يمكن أن يلهم عبرها إسلام رشيد رضا الليبرالي المتمثل في دستور 1920 نوعا جديدا من السياسة الإسلامية اليوم؟
o في كتابك أكدت زيف الادّعاء الفرنسي والبريطاني الرامي إلى إظهار سوريا على أنها منطقة غير متحضرة، وبيّنت أن هذا الأمر ما هو إلا تسويغ يمهد احتلالهم للدول العربية بما فيها سوريا، كيف ذلك؟ وهل حقا كان دافعهم إلى هذا الموقف عنصريا؟
◉ يجادل النصف الثاني من الكتاب بأن الأوروبيين لم يدمروا فقط المملكة العربية السورية بوصفها دولة؛ وهي سردية متداولة عند العديد من المؤرخين، ولكن الأوروبيين سعو أيضا إلى تدمير الديمقراطية في المنطقة العربية جمعاء؛ إذ أثبتت الحكومة التي أسّست في دمشق أن العرب تمتعوا بالقدرة التامة على حكم أنفسهم بطريقة ديمقراطية حديثة، وهو ما شكل تهديدا للإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية.
فالتجربة السورية دحضت ادّعاء القوى الإمبريالية التي كانت تزعم أن سبب احتلالهم للعرب والمسلمين (وشعوب آسيا وأفريقيا الأخرى) قائم على فرضية خاطئة مفادها أن غير الأوروبيين ليسوا مؤهلين لحكم أنفسهم وفق منهج ديمقراطي.
تواطأ البريطانيون والفرنسيون بغية رفض مطالب السوريين الرامية إلى امتلاك الحق نفسه والقدرة السياسية ذاتها على غرار التشيك وبولندا ويوغوسلافيا، باعتبارها دولا حصلت على استقلالها في مؤتمر باريس للسلام.
نظر السوريون إلى أنفسهم على أنهم أناس متحضرون يتمتعون بخبرة سياسية حقيقية كمواطنين داخل السلطنة العثمانية؛ إذ انتُخِب ممثلون لهم في البرلمان العثماني وشغلوا مناصب مهمة ضمن جهاز الحكم والبيروقراطية داخل الدولة العثمانية.
صدم السوريون بنظرة الأوروبيين إليهم، وسعيهم لمحاولة وضعهم تحت نظام انتداب داخل عصبة الأمم، وجعلهم على قدم المساواة مع رعايا الإمبراطورية الألمانية في أفريقيا والمحيط الهادي، الذين لم يعرفوا وجود جهاز دولة من قبل، على عكس السوريين الذي عاشوا داخل دولة حديثة مثل الدولة العثمانية.
أنا أحاجج في كتابي بأن البريطانيين والفرنسيين لجؤوا إلى مقاربة عنصرية لتسويغ احتلالهم سوريا الكبرى والعراق بعد الحرب العالمية الأولى. لقد جادلوا بأن العرب المسلمين اتسموا بالتعصب الديني، وأن ذلك تجلى في استباحتهم لدماء المسيحيين العرب على غرار مذبحة الأتراك ضد المسيحيين الأرمن. كانت مساعي الملك فيصل ترمي إلى دحض هذا الادّعاء في باريس، مؤكدا أن المسلمين والمسيحيين العرب واليهود تعايشوا بسلام مدة طويلة.
o أشرتِ إلى كون ما حدث عام 1920م هو لحظة ديمقراطية ليبيرالية نادرة الحدوث في الوطن العربي أجهز عليها الاحتلال الأوروبي، ما أبرز سمات تلك اللحظة الديمقراطية في سوريا؟ وكيف تم القضاء عليها؟
◉ أعتقد أن ما حدث عام 1920 كان حقا “لحظة ديمقراطية” في دمشق؛ تظاهرت فيها حشود شعبية غفيرة مؤيدة للبرلمان السوري وإعلانه الاستقلال. تمتع التيار الليبرالي بقاعدة دعم شعبية واسعة، ووعد البرلمان السوري بوضع دستور يمكن اعتباره “سلاحا مدنيا” ضد الاستعمار.
أثبت السوريون بذلك جدارتهم وتحضرهم لالتجائهم إلى المقاربة التشريعية بدل استخدامهم السلاح (وهي استراتيجية جيدة بحكم أن السوريين لم يملكوا جيشا على عكس مصطفى كمال). وزعم المؤتمر أن تشكيل حكومة دستورية سيكسب سوريا حقها الدولي في تقرير المصير وامتلاكها عضوية بين الدول المتحضرة التي شكلت عصبة الأمم.
كان الدستور السوري لعام 1920 أكثر الدساتير ديمقراطية في العالم العربي على الإطلاق؛ احتوى على حزمة من الحقوق، ووعد بحماية حق التعبير والتجمع والرأي والتعليم والملكية الخاصة، واتسع نطاق الاقتراع ليشمل كل الذكور الذين تبلغ أعمارهم 20 ربيعا فما فوق. وفي هذه التجربة كادت النساء تحصل على حق التصويت، إذ أيّدت أغلبية أعضاء البرلمان حق المرأة في التصويت، لكن المعارضة الشديدة التي أبداها المحافظون أجبرت البرلمان السوري على تأجيل هذه المسألة.
تم إقرار المساواة بين المسلمين والمسيحيين وبقية الأطياف الدينية؛ ولم يتجلّ ذلك فقط بعدم النص على الإسلام في الدستور على أنه دين للدولة (الدستور كان يوصي بإسلام الملك فقط)، ولكن أيضا من خلال ضمان مقاعد في الهيئات التشريعية لغير المسلمين. وكانت الهيئة التشريعية مستقلة عن السلطة التنفيذية؛ حيث لم يكن من الممكن للملك حل المجلس التشريعي إلا في حالات الطوارئ القصوى، وكان رئيس الوزراء مسؤولا أمام الهيئة التشريعية بدل أن يكون مسؤولا أمام الملك.
أخيرا، كانت الدولة السورية لا مركزية؛ تمتعت فيها المحافظات باستقلالية كبيرة تنتخب مجالسها التشريعية مستقلة عن دمشق.
ولكن احتلال فرنسا لدمشق عام 1920 قوّض الدعم الشعبي لليبرالية؛ وبسبب الاحتلال الفرنسي فقد السوريون إيمانهم بالليبرالية باعتبارها ضامنا للحقوق العالمية للإنسان في عام 1920. فبعد فرض الانتداب في سوريا ولبنان والعراق وفلسطين وشرق الأردن، أصبحت الليبرالية أيديولوجية النخب التي تعاونت مع البريطانيين والفرنسيين فقط.
أنا أزعم أن تدمير التجربة الديمقراطية في سوريا عام 1920 وكذلك تعاون النخب الليبرالية السورية مع الفرنسيين والبريطانيين هو ما مهد لتشكل الجماعات السياسية الإسلامية داخل شرائح واسعة في سوريا؛ حيث أدارت الليبرالية النخبوية ظهرها للمساواة والحقوق الاجتماعية، في حين قام القادة الإسلاميون الذين دعموا مؤتمر 1920 بمعارضة النخب العلمانية في عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته.
o كيف يمكن لسوريا اليوم أن تتعلم من دروس التاريخ؟ هل تظهر هذه التجربة التاريخية أن هناك إمكانية لتحقيق الديمقراطية داخل سوريا؟
◉ الدروس المستفادة مما شهدته سوريا سنة 1920 أقسمه إلى شقين؛ الشق الأول أريد أن أقول فيه إنه لا يوجد شيء في الثقافة السورية/العربية يعيق تحقق الديمقراطية؛ ومرد الافتقار إلى الديمقراطية يعود أساسا إلى العوائق السياسية، ولا سيما ما خلفته فرنسا فقد كان كارثة على سوريا تجسدت أساسا في تأسيس دولة أمنية ورثتها النخبة السياسية والعسكرية في سوريا بعد عام 1946.
أما الشق الثاني فيتمثل في ضعف المعارضة الديمقراطية للاستبداد بسبب الانقسام بين الأطياف العلمانية ونظيرتها الإسلامية، وهذه المقابلة بين ما هو إسلامي ومدني مستحدثة وليست متجذرة طبيعيا أو ضروريا في الثقافة السورية/العربية.
هذا الانقسام حدث كردة فعل لمنع أوروبا الحكم الذاتي وتدميرها تجربة الديمقراطية في 1919-1920 في سوريا.
والدرس المستفاد هنا هو ضرورة فهم أن النقاش الدائر بشأن تعارض الديمقراطية مع الإسلام ليس إلا إرثا استعماريا يقوم على افتراضات وقراءة خاطئة للتاريخ. آمل أن يسمح هذا الفهم التاريخي لجيل جديد “بالتفكير خارج الصندوق”، وبناء تحالف ديمقراطي أقوى في المستقبل.
* كاتب مغربي وباحث في الشبكة السورية لحقوق الإنسان
المصدر : الجزيرة