الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كتاب «في الفكر السياسي»؛ (الجزء الأول).. الحلقة السادسة

 (الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة السادسة من الجزء الأولالمرحلة الثانية(1/2).. بقلم الأستاذ “عبد الكريم زهور”

المرحلة الثانية (1/2)

كل السلطات للمكتب السياسي

    قبل ثلاث ساعات من دخول بن بلة والمكتب السياسي العاصمة أذاع بن خدة بياناً حلل فيه الموقف في الجزائر وبين أسباب الأزمة وطرق المعالجة. وهذا البيان من أقوى البيانات والتصريحات التي ظهرت في الأزمة وأعمقها. وقد نفذ فيه بن خده بصورة مباشرة جريئة وذكية إلى نقاط في غاية الخطورة والتأثير على الدولة الجزائرية الناشئة وعلى مستقبلها. ومن ذلك ما ذكره عن نظام الولايات ومكان الجيش في السلطة:

    «.. لقد تعرض هذا النظام (نظام الولايات) لتجارب قاسية خلال الحرب الجزائرية فأثبت مرونة وقدرة فائقة ضد العدو بالاستناد إلى أسلوبه اللامركزي في العمل والتنظيم والقيادة والقتال.

    «ومما لاشك فيه أن هذا النظام أصبح ليس فقط غير صالح للتطبيق بالنسبة لأجهزة الدولة الجزائرية المستقلة، بل لقد غدا مناقضاً لاستتباب هذه الأجهزة وتنظيمها بالذات. هذا عدا عن أن وحدة الجزائر التي كانت الهدف الأساسي للثورة الجزائرية يقضي بلا هوادة بقيام الدولة الجزائرية على أساس من الوحدة المركزية.

    «.. لقد كانت الثورة تستند إلى الشعب الجزائري برمته ولم يكن جيش التحرير إلا الدرع الظاهري للثورة. إن شعب الجزائر كان جوهر الثورة وعنصرها المحرك وهو صانع الاستقلال.

    «.. هناك التباس خطير بين القوة المسلحة ومصدر حقوق السيادة والسلطة. إن مصدر السلطة لا يمكن أن يكون إلا الشعب، وهذا مبدأ أساسي خطير من مبادئ ثورتنا كما أنه أساس لكل ديمقراطية. وأن الواجب يقضي حالياً بأن ينسجم جيش التحرير الجزائري مع الشروط الجديدة الناشئة في البلاد بعد الاستقلال، وذلك يقضي بقيام الجيش النظامي لدولة الجزائر المستقلة».

     ولم تسكت قيادة الولاية الرابعة، بل ردت على بيان بن خدة رداً سريعاً وعنيفاً. فقد صرح في 4 آب ناطق بلسان الولاية الرابعة: أن جيش التحرير وجبهة التحرير يجب أن يظلا الأمناء على الثورة الجزائرية حتى وضع الدستور… إن جيش التحرير حقيقة قائمة، وعلى المسؤولين الجزائريين أن ينطلقوا في أعمالهم كلها من هذا الأساس..

    وعمل المكتب السياسي من جانبه وبدون ارجاء على تحقيق الهدفين اللذين أشار إليهما بن خدة: فصل السلطات العسكرية عن السلطات السياسية ووضع جيش التحرير تحت اشراف الحزب، الانتقال من نظم الولايات إلى النظام المركزي؛ والهدفان بعد هدف واحد والسبيل المؤدية إليهما واحدة. ولما كان المكتب السياسي هو الجهاز السياسي الشرعي الأعلى، فكل السلطات إذن يجب أن ترتد إليه.

     لذلك لم يتلبث بن بلة إلا قليلاً بعد دخوله العاصمة حتى مضى إلى قسنطينة ليبحث مع قادة الولايتين الأولى والثانية مسألة اقامة تنظيم المكتب السياسي يشمل الوطن كله، توطئة لمناقشة هذه المسألة مع قيادة الولاية الرابعة ثم مع قادة الولاية الثالثة. وقد صدر بلاغ عن قيادة الولاية الثانية بأن قراراً بتحويل جبهة التحرير إلى حزب، وفصل السلطات السياسية عن السلطات العسكرية، قد اتخذ في اجتماع عقده مجلس الولاية برئاسة بن بلة. كما صرح بن بله نفسه على أسلوبه في التصريح بوضع الأهداف الملحة في إطار الأهداف الأبعد بأن جبهة التحرير ستتحول إلى حزب سياسي، وان مؤتمراً لهذه الجبهة سينعقد قبل آخر العام ليضع الخطة المذهبية النهائية للحزب، وأن هذا الحزب سيكون القوة الأساسية التي ستضع الخطة الأساسية للدولة وتراقب تنفيذها، وأن معظم اعضاء المكتب السياسي سيظلون خارج الحكم، وأن هذا المكتب سيعمل في كل مستويات الدولة والأجهزة الادارية، وأن جيش التحرير سيكون تحت إشراف الدولة أي الحزب وأنه ستكون له مهمتان: الدفاع عن الحدود والمساهمة في البناء.

    ما الذي لقيه المكتب السياسي من مقاومة من قبل قادة الولايات؟ وهل حاولت قيادة الولاية الثانية أن تفسر القرار الذي اتفقت عليه مع بن بله على نحو يسمح لها بممارسة صلاحياتها السابقة ولكن بأسلوب جديد؟ هل بدر من قيادة الولاية الرابعة ما يشعر بامتناعها عن تنفيذ الاجراءات التي أعلن بن بلة وجوب تنفيذها؟ أن في رد هذه القيادة العنيف على بيان بن خدة ما يهيئ الأذهان إلى قبول أنها ستمتنع على بن بله كما امتنعت على بن خدة.

    يقول بن خدة في بيانه:« لقد وردتنا ألوف الشكاوي ولكننا مع الأسف لم نتمكن من التحقيق فيها بسبب الموقف القائم. وإنه من المؤسف أن نشير إلى الاجراءات التي اتخذتها بعض العناصر من المنتسبين حديثاً إلى جبهة التحرير الوطني الجزائرية، الذين لم تتوفر لديهم أية خبرة سياسية أو عسكرية. كان من تلك الاجراءات فرض الضرائب المالية على الناس واختطاف الأشخاص والسيارات واحتلال المباني بالقوة والاعتداء على حرمة الأشخاص والأموال، حتى لقد وصل الأمر إلى الاعتداء على كرامة بعض الأسر..»

    ولكن المكتب السياسي لا يريد أن يستبدل بعجز حكومة بن خدة عجزه، بل يريد أن يمسك فعلاً بكل السلطات. ولذلك أعلن أمينه خيضر، في خطاب ألقاه في ۱۰ آب، على نحو حاسم لا يقبل التراجع والمساومة: أنه بات محظوراً على جيش التحرير الوطني: ۱- أن يصادر الممتلكات، ۲- أن يعتقل الأشخاص، 3- أن يجبي طوعاً أو كرهاً الضرائب والتبرعات، 4- أن يشغل أية عقارات غير ثكناته المخصصة له.

    وفي ۱۳ آب أذاع المكتب السياسي بياناً أعلن فيه: أن اتفاقاً قد تم بين القادة السياسيين وقادة الولايات حول وضع قائمة المرشحين لانتخابات الجمعية التأسيسية وأنه قد شكلت هيئتان: الأولى برئاسة رابح بيطاط لتنظيم الحزب، والثانية من ضباط جيش التحرير برئاسة العقيد الحاج بن العلاء وتتولى تنظيم الجيش، وأن مهمة جيش التحرير ستوضح قريباً وستؤخذ رواتبه من ميزانية الدولة.

    هذا الحزم من المكتب السياسي بدأ يدفع الصراع المكتوم بينه وبين بعض قادة الولايات وبخاصة قادة الولاية الرابعة إلى أن يطفو ويبرز على السطح شيئاً فشيئاً. ففي 14 آب صدر بيان عن قيادة الولاية الرابعة اعترضت فيه على برنامج المكتب السياسي في توزيع السلطات العسكرية والمدنية. وبعد يومين حصل اصطدام هين في قسنطينة نتيجة الخلاف حول تطبيق قرارات المكتب السياسي في توزيع السلطات المدنية والعسكرية، ولكن بيطاط وبن العلاء بادرا في اليوم الثاني إلى السفر الى قسنطينة لحل الخلاف.

    وفي ۱۸ آب أعلن الاتفاق بين المكتب السياسي والقادة العسكريين على قوائم المرشحين لانتخابات الجمعية التأسيسية التي ستجري في ۲ ايلول.

    ويبدو أن المكتب السياسي لم يألُ جهداً كعادته في حل الأزمة سلمياً دون التراجع عن خطة سيره الأساسية، فقد سمح لقادة الولايات أن يكون لهم رأيهم في المرشحين، فكان للعسكريين بالتالي النصيب الأوفى في قوائم المرشحين. ولكن بعض قادة الولايات، وبخاصة قادة الولاية الرابعة، كانوا يبغون، على ما يظهر، اغراق المكتب السياسي، كما أغرقوا حكومة بن خدة، في بحر رملي من تقسم البلاد إلى ولايات وتوزع السلطات وتبعثر المسؤولية. فلم يجد المكتب السياسي بُداً من اللجوء إلى الشعب. فأذاع خيضر في ۲۰ آب خطاباً يعلن فيه أن المكتب السياسي سيحافظ على النظام، كما يعلن تشكيل لجان الانتخابات ولجان المراقبة. وتبدأ في اليوم نفسه التظاهرات المتنافسة في شوارع العاصمة. ويدعو المكتب السياسي إلى مؤتمر شعبي، فتتشكل في ۲۲ آب تظاهرة ضخمة ترفع شعارات «أيها الجيش عد إلى ثكناتك»، «نريد سلطة مدنية»، فتتصدی لها قوات الولاية الرابعة، ولكن قسماً منها يصل إلى دار البلدية، حيث يلقي خيضر وبجانبه بن بلة خطاباً يندد فيه بسلوك قيادة الولاية الرابعة ومقاومتها هذه التظاهرة، وينادي بضرورة عودة الجيش الى ثكناته.

    وبهذا الخطاب تنتهي الفترة الأولى من المرحلة الثانية من الأزمة، فترة الصراع الخفي بين المكتب السياسي وبعض قادة الولايات، والهجوم السياسي من قبل هذا المكتب، وتسربه سياسياً وشعبياً وعسكرياً الى مواقع القيادة الرابعة، لتبدأ مرحلة الاصطدامات المكشوفة.

    وفي هذه الفترة الهادئة الظاهر المضطربة الأعماق لم يجد الجهاز السياسي السوري منفذاً إلا الدس والبحث الموسوس عن الخلافات لإبرازها ونشر تحقيقات الصحافة الغربية المليئة بالمكر والتي تصر على أن الخلافات في الجزائر شخصية. ففي 7 آب ظهر في الصحافة السورية عناوين ضخمة «تطورات جديدة في الخلاف الجزائري» «تبادل التحذيرات بين المكتب السياسي وبن خدة وقيادة منطقة الجزائر» وفي ۱۸ آب ظهرت عناوين من نوع «وقوع اشتباكات بين قوات جيش التحرير في قسنطينة».

   قلنا إن يوم ۲۲ آب كان يوماً فاصلاً انتقل فيه الصراع بين المكتب السياسي وبين قيادة الولاية الرابعة المدعومة بقيادة الولاية الثالثة من الخفاء إلى العلن. وأخذ هذا الصراع المكشوف أوجهاً مختلفة ومر سريعاً في عدد من الأطوار نستطيع أن نلخصها على النحو التالي:

    1ً- كانت التظاهرات الشعبية في مدينة الجزائر التي ابتدأت منذ ۲۰ آب أول مظاهر الصراع. فتظاهرات تخرج وبخاصة من «القصبة» تؤيد المكتب السياسي، وأخرى جوابية تحاول قيادة الولاية الرابعة أن تنظمها. واستمرت التظاهرات الشعبية الى أن انتهت الأزمة. وكانت أخطرها تاك التي ذكرناها والتي جرت في ۲۲ آب وكانت البادرة الأولى للاصطدام المكشوف بين الجانبين، إذ عمدت بعدها قيادة الولاية الرابعة إلى مراقبة الصحافة والإشراف على الإذاعة والتلفزيون وحددت ساعات التجول ثم نظمت في اليوم الثاني تظاهرة جوابية.

    ۲ً- وكانت البيانات السياسية المظهر الثاني الصراع، وقد بدأها خيضر ببيانه المشهور في ۱۰ آب وظلت تتابع الى آخر الأزمة. فقيادة الولاية الرابعة لم تكتف تظاهرات يوم ۲۳ آب ولا بالإجراءات التي اتخذتها بل شفعتها ببيان مشترك مع قيادة الولاية الثالثة، انتقدت فيه الولايتان، في 24 آب، قرار المكتب السياسي بتحويل جيش التحرير إلى جيش نظامي، وطالبتا بأن يتم تنظيم الجيش وتعريب الاداة الحكومية تحت الإشراف المباشر لقادة الولايات، لأن جيش التحرير إنما هو جيش من الأنصار وهو الضمانة الوحيدة للمحافظة على أهداف الثورة؛ کما أكدنا أن القادة العسكريين لن يتخلوا عن الميدان للوصوليين وجميع النفعيين القدماء من بقايا العهد الاستعماري.

    فأصدر المكتب السياسي في اليوم الثاني بياناً وجهه إلى الشعب الجزائري، اتهم فيه قيادة الولاية الرابعة بمثل ما اتهمها به من قبل بن خدة، وأعلن فيه أنه قرر تأجيل الانتخابات العامة عن موعدها المقرر حتى يتم تأمين السلام الحقيقي في البلاد.. وأن المكتب السياسي لم يعد في وضع يسمح له بممارسة مسؤولياته بسبت الثورة المكشوفة التي أعلنتها قيادة الولايتين.. وأن حفنة من الضباط يريدون أن يفرضوا بقوة السلاح سلطتهم المطلقة في مدينة الجزائر.

    ولكن القيادتين ردتا على هذا البيان ببيان ألقاه في اليوم الثاني وبحضور قائدي الولايتين علي علوش الناطق بلسان قيادة الولاية الرابعة، اعترفت فيه بأنها قامت بجمع بعض الأموال من أشخاص أصبحوا أثرياء خلال الحرب، ومصادرة منازل اعضاء منظمة الجيش السري الفرنسية ومؤيديها؛ واتهمت المجلس التنفيذي و رئيسه عبد الرحمن فارس بالسير في ركاب الاستعمار والخونة، كما اتهمت المكتب بخيانة الثورة، وطالبت بعقد اجتماع طارئ للمجلس الوطني..

    3ً- لقد مضى المكتب السياسي ينفذ توصيات بن خدة في بيانه المشهور، فماذا كام موقف بن خدة وحكومته ؟ إن أقطاب حكومة بن خدة من أمثال بلقاسم و بوضياف، بدل أن يأخذوا ناصر المكتب السياسي فيكون موقفهم منطقياً من جهة وسليماً نزيهاً من جهة أخرى ما قد يؤدي بالتالي إلى لقاء جديد مع المكتب السياسي- انهم بدل هذا الموقف أرادوا أن يفيدوا من الخلاف، إن لم يكونوا غذوه وهذا ما يؤكده موقف قيادة الولاية الثالثة الموالية لبلقاسم، ليعودوا الى مراكز النفوذ التي تخلوا عنها كرهاً و موقتاً.

    ففي ۲۸ آب اتهم بلقاسم بتصريح له بن بلة بالتمهيد لنفسه بحكم الجزائر حكماً ديكتاتورياً. ودعا إلى مؤتمر على مستوى عالِ يضم الزعماء السياسيين للقيام بمباحثات تهدف الى إجراء الانتخابات العامة على وجه السرعة وقال: دعونا، بدلاً من ركوب المغامرات الخطرة، ندخل في مباحثات لإيجاد حل سريع لأزمة الحكم وتشكيل جيش شعبي وطني والاستعداد لعقد مؤتمر لجبهة التحرير يقوم على أساس ديمقراطي.. وناشد كلاً من بن بلة وخيضر وبيطاط ادراك الواجبات الملقاة على عواتقهم تجاه الشعب والتاريخ، رغم مسؤولياتهم الجسيمة في الأزمة التي سادت في الأشهر الخمسة الاخيرة..

    وفي نفس اليوم حين سلم خيضر الصحفيين بيانه الموجه إلى قيادة الولاية الرابعة وهو آخر بيان من المكتب السياسي اليها قبل الاصطدامات العسكرية وقد قرعها فيه تقريعاً عنيفاً لاستيلائها على الاذاعة وفرضها الرقابة على الصحف ومنعها نشر بلاغات المكتب السياسي- سلمهم أيضاً رسالة علنية موجهة إلى بوضياف يتهمه فيها صراحة بتحريض الولاية الرابعة على التمرد.

    وفي ليل ۲۹ آب، بعيد الصدام بين قوات الولاية الرابعة وقوات المكتب السياسي في حي القصبة، أذاعت رئاسة حكومة الجزائر الموقتة بلاغاً رسمياً ذكرت فيه أن بن خدة قد وجه الى كل من المكتب السياسي ومن مجلس قيادة الولاية الرابعة رسالة تضمنت مشروع اتفاق ينطوي على مقترحات لحل الأزمة بين المكتب السياسي وقيادة الولاية الرابعة ومنع اللجوء إلى العنف والتعجيل في ارساء دعائم الأجهزة الرسمية في دولة الجزائر المستقلة. وكانت مقترحاته ما يلي:

    أولاً۔ تتألف لجنة من ثلاثة عشر عضواً: سبعة منهم من أعضاء المكتب السياسي والستة الآخرون هم قادة الولايات الست.

    ثانياً- تمارس هذه اللجنة صلاحية اجراء الانتخابات.

    ثالثاً- تعلن لائحة المرشحين للانتخابات التي أعدها المكتب السياسي والتي أعدتها قيادة الولاية الرابعة.

    رابعاً- يعين موعد الانتخابات في التاسع من أيلول القادم.

    خامساً- تعتبر مجالس الولايات منحلة اثر تشكيل الحكومة الجزائرية المنبثقة عن الجمعية التأسيسية.

    سادساً- تبت الجمعية التأسيسية في موضوع تحويل جيش التحرير الى جيش نظامي.

    فكان جواب المكتب السياسي على لسان خيضر اتهام بن خدة بأنه مسؤول عن الازمة الراهنة وانه يرغب في العودة إلى مركز السلطة عن طريق التظاهر بالقيام بدور الوسيط، وان المكتب السياسي عازم على ان يعرف الناس الحقيقة، وانه سيبدأ بنشر آرائه الخاصة من مدينة الجزائر..

    4ً- حين فتحت قيادة الولاية الرابعة في ۲۸ تموز العاصمة الجزائرية لكل الزعماء السياسيين لم تكن هذه الحركة حسماً لصراع بل نهاية لصراع وبداية لصراع آخر حول السيطرة على العاصمة. فحكومة بن خدة اعتمدت، ما بينا، على العقيد عز الدين وعمر أوصديق لتأمين السيطرة لها عليها، غير أن قسماً كبيراً من قوات الأمن التي نظمتها الحكومة، قد يبلغ ۱۲۰۰، انضم الى قوات الولاية الرابعة، فأدى الى انهيار نفوذ الحكومة في العاصمة وتسليمها بمطاليب المكتب السياسي. فحاولت قيادة الولاية الرابعة أن تجعل من مركزها الممتاز في العاصمة مستنداً المشاركة في السلطة على نحو ما، فاصطدمت بالمكتب السياسي الذي رفض رفضاً باتاً وان لم يكن جامداً ازدواج السلطة. وكي لا يترك العاصمة تحت السلطان المطلق لقيادة الولاية الرابعة، وكي لا يجد نفسه مكرها على المرور في الممر الخطر الذي مرت فيه حكومة بن خدة تحت رحمة مدفعية قوات الولاية الرابعة، أوكل الى العقيد آصف السعدي، الخبير بشؤون القصبة وقائد كفاحها ضد حملة الجنرال ماسو، تنظيم قوات المكتب السياسي فيها، ففعل بعد أن نقل اليها ۸۰۰ من قوات الولاية الخامسة، وجعل من القصبة العاصمة الحصينة للمكتب السياسي في قلب قوات الولاية الرابعة. وحين بدأ الصدام الصريح بين المكتب السياسي وقوات الولاية الرابعة خلف بن بلة أمين المكتب السياسي خيضر في القصبة ليدير معركتها ومضى هو الى وهران ليقود معركة الزحف الى العاصمة، فلما اجتمعت الدلائل على أن المكتب السياسي مصر على الزحف إلى العاصمة، التفتت قيادة الولاية الرابعة الى القصبة تريد أن تصفي هذا الجيب الخطر وبخاصة أنه لم يتركها لحظة واحدة خلال الأزمة كلها تستقر في العاصمة أو تستريح. ولكن قوات الولاية الرابعة التي هاجمت القصبة في الساعة الخامسة والنصف من مساء 28 آب ارتدت عنها دون أن تنال منها شيئاً، كما أخفقت كل محاولاتها التي استمرت حتى نهاية الأزمة في 4 أيلول. وقد لعبت معركة القصبة دوراً أساسياً في حل الأزمة لصالح المكتب السياسي.

    5ً- ذلك جانب من الوضع العسكري، فما هو الوضع العسكري بعامة؟  لقد أعلنت قيادة الولاية الثالثة، كما رأينا، تضامنها مع قيادة الولاية الرابعة وفيما عدا هاتين القيادتين أجمعت كل قيادات جيش التحرير على تأييد المكتب السياسي، مع بعض التردد من قيادة الولاية الثانية.

    ففي اليوم الثاني من خطاب خيضر في ۱۰ آب أعلن المقدم سلمان أن هيئة الأركان العامة تؤيد الكتب الساسي في ما عزم على تنفيذه من اجراءات. ولما صرح الخلاف وغادر بن بلة مصحوباً بالعقيد بن العلاء الجزائر إلى وهران، أصدرت قيادة الولاية الخامسة بياناً حثت فيه سكان الولاية الرابعة على أن يعيدوا إلى قيادة الولاية صوابها، واقترحت عقد مؤتمر بين قادة الولايات لدراسة التدابير الواجب اتخاذها لتأمين السلامة العامة، وانعقد فعلاً مؤتمر لقادة الولايات الأربع في ضاحية بو سعدي قرب وهران، وأصدروا في ۲۸ آب بياناً استنكروا فيه موقف قادة الولاية الرابعة وتحديهم الذي لا يمكن التغاضي عنه للسلطات الشرعية، وناشدوا الشعب وقوات الولاية الرابعة تأييد موقفهم وانشاء الهيئات المسؤولة التي تستطيع تجنب البلاد مغامرات بعض العناصر كما ناشدوا المكتب السياسي اتخاذ جميع التدابير الضرورية التي تساعد على عودة السلام والأمن نهائياً إلى الجزائر عامة والى مدينة الجزائر خاصة . فكان جواب قيادة الولاية الرابعة أن تحدت المكتب السياسي وقادة الولايات الأربع ودعت السكان إلى اجتماع حاشد في الملعب البلدي، وصرح الملازم علوش بأننا لن نتراجع عن موقفنا.. وأن الولاية الرابعة تريد أن تجد حلاً سليما عن طريق عقد مباحثات مع جميع الأطراف.

    وعندئذ أعلن بومدين المستقر في صطيف أن جيش التحرير مستعد للزحف الى العاصمة حالما يتلقى أمراً بذلك من المكتب السياسي. ولم يعتم المكتب السياسي أن أصدر في ۳۰ آب قراراً طلب فيه من الجيش الزحف الى مدينة الجزائر لإقرار النظام. فدعت القيادتان الرابعة والثالثة إلى مقاومة شاملة، وقالتا: إننا سندافع عن مواقعنا بجميع الوسائل.. وأن الولايتين ترفضان رفضاً باتاً سلطة الأركان العامة.. وان المكتب السياسي مسؤول عن دم الجزائريين.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

يتبع.. الحلقة السابعة بعنوان: المرحلة الثانية(2/2).. بقلم الأستاذ “عبد الكريم زهور”

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.