سمير ناصيف *
غالبية الخبراء في شؤون الشرق الأوسط يدركون الدور السلبي الذي لعبته بريطانيا وفرنسا في مطلع القرن العشرين، وخصوصاً بعد الحرب العالمية الأولى، لمنع نشوء دولة عربية مستقلة تعتنق المبادئ الديمقراطية في سوريا بقيادة الأمير فيصل، نجل الشريف حسين، حليفهما الرئيسي في المنطقة، الذي قلَبَ الأمور لمصلحتهما ضد ألمانيا وحلفائها في تلك الحرب مقابلَ وعدٍ من بريطانيا بالموافقة على نشوء ما سمي الدولة العربية السورية الكبرى.
ولدى دخول الأمير فيصل الهاشمي إلى دمشق عام 1918 وبدء إنشاء دولة سوريا الكبرى تراجع الحليفان الفرنسي والبريطاني عن الوعد وجرى تعطيل إمكانية تحقيقه.
إلا أن الأمر اللافت في كتاب المؤرخة الأمريكية “اليزابيت. ف. تومسون” بعنوان «كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب» هو مدى تركيزها وتوضيحها للدور الأمريكي «الإيجابي» لمواقف الرئيس الأمريكي الراحل “وودرو ويلسون” في محاولة معارضة الدور التعطيلي الاستعماري لمحاولات إنشاء مثل تلك الدولة في سوريا، ومدى سعيه لوصول الديمقراطية بشكل يتوافق مع المبادئ الأخلاقية المعتمدة في بعض دول الغرب إلى دول العالم الأخرى، من خلال نجاح التجربة الديمقراطية في دولة سوريا الحرة بقيادة الأمير فيصل. وبالتالي، يمكن الاستنتاج عبر هذا الكتاب الغني بالمعلومات التاريخية المفيدة والموثقة بأن أمريكا في عهد ‘ويلسون’ كانت تحبذ تعاون القيادات العلمانية مع القيادات الدينية الإسلامية لإنشاء مثل هذه الدولة في العالم العربي، ولكن الاستعمار الفرنسي والبريطاني فضّلَ تعطيل ذلك المشروع خشية من تهديده مصالح الدولتين الاقتصادية وعملية فرض هيمنتهما على ثروات المنطقة الطبيعية وتحقيق ما وعدتا به في اتفاقية «سايكس- بيكو» و«وعد بلفور».
فعندما أعلن الأمير فيصل استقلال دولة سوريا من جانب مجلس شعبها في 8 آذار (مارس) 1920 وتنصيبه ملكاً، رفضت الدولتان الاستعماريتان ذلك وفرضتا بالقوة العسكرية مشروع انتداب في سوريا ولبنان والعراق وفلسطين بحجة عدم استعداد العرب لتقرير مصيرهم آنذاك. وفشلت الولايات المتحدة والوفود والبعثات التي أرسلتها إلى مؤتمري فرساي في باريس في أواخر عام 1918 وسان ريمو في إيطاليا في عام 1920 في منع هيمنة فرنسا وبريطانيا على القرار، لأن أمريكا في تلك المرحلة لم تكن تملك القوة العسكرية والسياسية لفرض موقفها.
“اليزابيت تومسون” أستاذة في تاريخ الشرق الأوسط الحديث في القسم المخصص لقوات الخدمات الدولية العامة في الجامعة الأمريكية في الولايات المتحدة، عاشت فترة في سوريا وأجرت أبحاثاً معمقة هناك وأهدت كتابها هذا إلى الشعب السوري وإلى ثوراته السابقة واللاحقة التي سعت (برأيها) وتسعى نحو الديمقراطية والاستقلال الفعلي.
تؤكد في مقدمة كتابها ان مجلس الشعب السوري عندما أطلق دستوره الديمقراطي في عام 1920 وأعلن استقلال سوريا كان يتحدث عن استقلال «سوريا الكبرى» التي تضم سوريا ولبنان والأردن وفلسطين وأنه استوحى بعض قيم هذه المبادرة من النقاط الأربع عشرة، الواردة في إعلان الرئيس “وودرو ويلسون” في تفسيره لأهداف دخول أمريكا في الحرب العالمية الأولى.
وقد حضرَ ‘ويلسون’ مؤتمر فرساي في باريس الذي صدرت قراراته في مطلع عام 1919 محاولاً التبشير بالسلام في العالم، بعد أربعة أعوام من المذابح، بينما كان القادة البريطانيون والفرنسيون الذين حضروا (حسب المؤلِفة) في واردٍ آخر، ألا وهو تنفيذ التقسيم الجغرافي للمنطقة وتقديم الوعود الكاذبة للأمير فيصل ولمشروع الدولة العربية تحت قيادته. وقدّم الرئيس الأمريكي ويلسون بعض التنازلات لدول «التحالف» الاستعمارية (برأي تومسون) من أجل تأمين دعمهم لمشروع «عصبة الأمم» الذي كان في طور انطلاقه من أجل ضبط عدم وقوع الحروب المدمرة في المستقبل. وتركيز هذا المشروع كان على الاستقلال وتقرير المصير لشعوب العالم. وقد أرسل ‘ويلسون’ بعثة «كرين- كينغ» إلى سوريا لاستطلاع رأي الشعب السوري حول هذا الموضوع في عام 1919 ولكن إصابة الرئيس الأمريكي بجلطة في تلك السنة أثرت سلباً على مشروعه ما سهل الغزو العسكري الفرنسي لسوريا عام 1920 وخصوصاً بفضل تواطؤ بريطانيا معها مقابل تنازل فرنسي عن هيمنة بريطانيا في العراق وفلسطين.
وتؤكد المؤلِفة ان القيادتين الفرنسية والبريطانية آنذاك استخدمتا «مشروع عصبة الأمم» لتبرير احتلالهما وانتدابهما المفروضين بالقوة على سوريا وباقي المناطق التي كانت تحت حكم الدولة العثمانية ولمواجهة الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت ضد المشاريع الاستعمارية. وبالتالي، تحول مشروع الأمير فيصل التوحيدي بين العلمانيين والإسلاميين الديمقراطيين إلى مشروع انقسام قطفتْ ثماره النخب العسكرية الديكتاتورية التي حكمت معظم دول المنطقة منذ أربعينيات القرن الماضي وحتى الساعة.
وتشير ‘تومسون’ إلى أن أبحاثها التي تمخضَ عنها هذا الكتاب ساهمت في فهمها «الربيع العربي» في المنطقة حالياً، فالتعاون بين رجال الدين على شاكلة رجل الدين الإصلاحي رشيد رضا، الذي كان رئيساً لمجلس الشعب في سوريا عام 1920 مع القياديين العلمانيين والمحافظين في دمشق، جرى إجهاضه مثلما يجري إجهاض مثل هذا التعاون حالياً بهدف بث الانقسام بين العلمانيين والإسلاميين في شتى أنحاء العالم العربي والإسلامي.
من أهم فصول هذا الكتاب، الفصل الحادي عشر، حيث تتحدث ‘تومسون’ عن «تطويق» مبادئ الرئيس “وودرو ويلسون” من قِبَل بريطانيا وفرنسا وحلفائهما وعن شن الصحف الفرنسية والبريطانية آنذاك حملة تشهير لمشروع الأمير فيصل العربي، خلال وبعد مؤتمر سان ريمو فيما حاولت جهات أمريكية إعلامية وأكاديمية دعم مشروع فيصل وبينها عائلة رئيس «الكلية السورية البروتستانتية في بيروت» (لاحقاً الجامعة الأمريكية) “هوارد بلس”. فقد مَثَل وشهد “هوارد بلس” أمام الكونغرس الأمريكي داعماً مشروع تقرير المصير في الدولة السورية الناشئة (وذلك عام 1919) فيما كتبَ شقيقه فردريك جونز بلس مقالات في صحيفة «نيويورك تايمز» لدعم المشروع السوري وعبّر عن ثقته بأن الأمير فيصل سيُنشئ دولة عصرية ديمقراطية في المنطقة.
كما وقف الحزب الاشتراكي الفرنسي ضد مشاريع قيادة بلاده من الأحزاب الاستعمارية المحافظة وعلى رأسها رئيس الوزراء (الذي أصبح رئيساً للجمهورية عام 1920) الكسندر ميليران، ورئيس الوزراء جورج كليمنصو (الذي خضع لمشاريع نظيره البريطاني لويد جورج بعدما حاول طرح مشروع تفاوضي لسوريا) والمسؤول الفرنسي في وزارة الخارجية “روبير لاكيه” الذي عطّل أي مبادرات تفاوضية مع دولة الأمير فيصل العربية والجنرال هنري غورو الذي قاد الغزو الفرنسي لسوريا وعملية احتلال دمشق عام 1920.
صعوبة المشكلة للرئيس “وودرو ويلسون” كانت أن الكونغرس الأمريكي الذي أصبحت أكثريته من الجمهوريين، (بينما هو من الحزب الديمقراطي) رفض في تصويت 19 آذار (مارس) 1920 الاتفاقية التي وُقّعت في فرساي، والتي قدمت الوعود (التي تبين انها كاذبة لاحقاً) بدعم الدولة السورية العربية الجديدة بقيادة فيصل.
كما حولت بريطانيا (حسب المؤلفة) طبيعة «عصبة الأمم» إلى مجموعة دول تتخذ قراراتها السيادية بدلاً مما رغب فيه ويلسون بان تكون أداة دولية ضابطة ومانعة للحروب. (ص 183).
كما كان “روبرت لانسينغ” (وزير الخارجية في حكومة ويلسون) قد أشار إلى رئيسه بان مشروع انتداب الدول العظمى الكبرى المنتصرة في الحرب لم يحدد هوية الجهة التي تمسك فعلياً بالسلطة في الدول المنتدب عليها، وهذا إخفاق خطير وكبير، إذ ظلت فرنسا (الاتفاق مع بريطانيا) تستخدم هذا الغموض المشروع كحجة للهيمنة على نظام دولة الأمير فيصل العربية والأنظمة الأخرى التي فُرضَ الانتداب عليها.
بالتالي، طرح “اللورد كيرزون” (المسؤول البريطاني) بالاتفاق مع الجهات الفرنسية المؤيدة لاستمرار الهيمنة الفرنسية ـ البريطانية تساؤلات حول الاعتراف بسلطة الأمير فيصل كملك على سوريا، وشكك البريطانيون والفرنسيون بقرار الاستقلال السوري في آذار (مارس) 1920 معتبرين أنه سبباً مبرراً للمواجهة العسكرية الفرنسية مع الدولة السورية الوطنية وهزيمتها عسكرياً واغتيال مناضليها وقادتها الميدانيين. الواقع (برأي المؤلِفة) أن فرنسا وبريطانيا كانتا تطبقان اتفاقية «سايكس بيكو» و«وعد بلفور» من وراء ظهر الرئيس الأمريكي ويلسون وقيادته.
وتقول انه في أول نيسان (ابريل) 1920 وجّه الأمير فيصل رسالة إلى الرئيس ويلسون ناشده فيها بمساعدة سوريا على الخروج من المأزق الذي وضُعت فيه، ولكن ويلسون لم يستطع الاستجابة لمطالبه، فقد أدت إصابة الرئيس الأمريكي بالجلطة إلى وضع ملف «لجنة كرين ـ كينع» على الرفوف وخصوصاً بعد مناسبة تصويت الكونغرس الأمريكي ضد مقترحات ويلسون حول حق تقرير المصير وتطويق مبادراته الديمقراطية في «مشروع عصبة الأمم».
وحاول مساعدو الأمير فيصل (وبينهم معاونه اللبناني “رستم حيدر”) الاتصال باللورد “كيرزون” (المسؤول في وزارة الخارجية البريطانية) لتعديل الموقف البريطاني من الدولة السورية لكون فرنسا ربطت اعترافها بفيصل بموافقة بريطانيا. ولكن هذه المبادرات لم تحقق أي نتائج وخصوصاً بعدما أصبح القرار الفرنسي بيد الرئيس “ميليران”. (ص 187). ورأي “ميليران” أن «نظاماً عسكرياً تتحكم به قوة أجنبية أصبح مفروضاً في سوريا». ولم تعارض بريطانيا هذا الموقف الفرنسي المنحاز بشدة برغم استمرار الحديث مع مندوبي الأمير فيصل غير المؤدي إلى نتيجة.
وكل ذلك كان يجري قبل أيام من انعقاد مؤتمر سان ريمو في منتصف وأواخر نيسان (ابريل) 1920.
ولسوء الحظ، توفي “هوارد بلس” خلال تلك الفترة ونعاه كبار قادة سوريا كأحد أصدقاء الدولة العربية السورية في أمريكا (حسب المؤلفة) وخسرت دولة سوريا مؤيداً بارزاً لها. كما لم يحضر الأمير فيصل مؤتمر سان ريمو، ورفض الشريف حسين (والده) أي صلات من جانب عائلته مع ذلك المؤتمر. ولم يعد لمن حضروا من الجانب العربي أي صفة رسمية. كما ركزت أجندة المؤتمر على قضية التهديد التركي للأرمن وقضايا أخرى متعلقة بتقسيم الثروة النفطية العربية بين الدول الكبرى الاستعمارية. وطُرح موضوع «وعد بلفور» للبحث فأكد اللورد “كيرزون” على استمرار التمسك بوعد بريطانيا لليهود بإقامة دولة لهم في فلسطين (ص 192). كما عارض “كيرزون” حضور الأمير فيصل حتى بعد اتخاذ المؤتمر قراراته بشأن إنشاء الدولة اليهودية في فلسطين خشية من استخدام فيصل «السلبي» لهذه القضية. (ص 193).
وتقول الكاتبة أن الصهاينة احتفلوا بقرارات مؤتمر سان ريمو، كما احتفلت فرنسا بترجيح القرار لمواقفها في الشأن السوري، علماً بان الحاخام “صموئيل وايز” كان قد ساهم (حسب قولها) في تسهيل حدوث مقابلة غير مثمرة جرت في كانون الثاني (يناير) عام 1919 بين الأمير فيصل مع الرئيس ‘ويلسون’، والتقى الأمير فيصل بعدها مع “حاييم وايزمان”، أحد كبار قادة الحركة الصهيونية العالمية. واعتبرت الكاتبة ان دوافع الأمير فيصل آنذاك كانت لإمكان ربط اعتراف الولايات المتحدة بالدولة السورية العربية باعترافها المتوقع بإقامة دولة يهودية في فلسطين. أما تريث ‘ويلسون’ في مقابلة فيصل (قبل ضوء ‘وايز’ الأخضر) فكان لإرضاء اللوبي الصهيوني المؤيد (منذ ذلك الحين) للحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية وانتخابات الكونغرس الأمريكي.
والسؤال الآن، هل هناك تشابه لما يمكن أن يحدث حالياً بين القيادات الفلسطينية والعربية مع رئاسة “جوزف بايدن” للولايات المتحدة الأمريكية؟ أي هل أن الاعتماد على مبادرات القيادة الأمريكية الديمقراطية الحالية سيكون مجدياً أو مشابهاً لاعتماد العرب سابقاً على قيادة الرئيس “وودرو ويلسون” الديمقراطية والليبرالية؟ وهل سيذهبون إلى التفاوض مع خصومهم الذي ربما قد لا يؤدي إلى نتيجة في مصلحتهم، أو هل سيقومون بخيارات أخرى؟
– إليزابيث ف. طومسون: «كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب»؛ جروف برس ، لندن 2020؛ 466 صفحة.
Elizabeth F. Thompson: «How the West Stole Democracy from the Arabs«, Grove Press, London 2020
, 466 pages.
* كاتب لبناني
المصدر: القدس العربي