نيفين مسعد *
لن تكتمل لديك الصورة عن هذا الكتاب المدهش الذي يحمل عنوان “أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي”، إلا إن التقيتَ شخصياً بمؤلّفه الشاب “كريم جمال”، فمن دون هذا اللقاء سوف تظل دهشتك ناقصة.
شاب وُلِد بعد وفاة أم كلثوم بستة عشر عامًا لكن حديثه عنها فيه من الانبهار والتدفق والصدق والحرارة والتفاصيل ما يجعلك تقتنع تمامًا بأنه كان موجودًا على أيامها، وتتصوّر أنه كان يدّخر ويضع القرشْ على القرشْ حتى لا تفوته حفلة من حفلات ثومة على الأقل في داخل حدود القُطر المصري. وقد قُدّر لي أن أرى ‘كريم’ في ندوة مكتبة تنمية التي صدر عنها الكتاب بنادي مدينتي، والتي أدارتها بوعي وفهم عميقين دكتورة غادة لبيب، فكانت الندوة حافزًا لقراءة الكتاب الذي كنتُ قد سمعتُ عنه كلامًا جميلًا جدًا من قامات ثقافية رفيعة.. وبذلك اكتملَت دهشتي.
قلتُ له: أكاد أرى فيك أحمد رامي القرن الواحد والعشرين، كلاكما توحّد معها من خلال الأداة التي يجيد استخدامها، هو الشعر وأنت النثر، فابتسم. وأظن أن هذا التوحّد هو الذي يميّز ما كتبه ‘كريم’ عن كل ما كُتِب عن ثومة على كثرته وتنوّعه وعمقه، فالمشاعر تكاد تفّط من بين السطور ومنها إلى قلب القارئ، حتى إن تلعثمَت أم كلثوم حين غنّت “الله معك” قبل النكسة مباشرةً طارت كلمات النشيد الرائع من الذاكرة، وإن هي سألت فدائيي فتح في تأثّر وفخر إن كانوا يحسبوها واحدةً منهم وأجابوها بنعم سرَت القشعريرة من بدنها لكل بدن، وإن هي اعتزلَت الدنيا وما فيها ونزلَت إلى بدروم ڤيلا الزمالك لا تُكلم أحداً ساد المكان صمت رهيب، أما حين التاثت وأجهشَت بالبكاء كما لم تبكِ أبداً عندما علمَت بوفاة الرئيس عبد الناصر فحدّث عن الأثر البليغ ولا حرج.
- • •
التقطَ ‘كريم’ خيطاً واحداً من خيوط المسيرة السبعينية لأم كلثوم واشتغل عليه ولم يفلته أبدًا على مدار ستمائة صفحة هي حجم سِفره الضخم. هذا الخيط هو كيف استطاعت أم كلثوم أن تتجاوز بسرعة فائقة ما حدث في حزيران/ يونيو ٦٧ وأن تحوّله إلى طاقة أمل وعمل وبناء، وهنا لا ينبغي أن نستهين بهذه القدرة الفذّة على التعافي وامتصاص الصدمة.. لا ينبغي أبدًا أن نستهين، فأكثر أبناء جيل الأربعينيات الذين تفتّح وعيهم على ثورة تموز/ يوليو ولامسَت معها أحلامهم أعلى طبقات السماء، أتت النكسة لتقصم ظهورهم، أما هي فلا، نهضَت وتماسكَت وصلَبت عودها وشدّت إلى دائرتها مصريين وعرباً وأدمجتهم معها في دائرة المستقبل. إنها امرأة إن سقطَت قامت، فعندما جثم أحد مجاذيبها على قدميها يُقبّلها وهي تغنّي على مسرح الأولمبيا بباريس واختّل توازنها، تمالكَت نفسها بسرعة واستوعبَت الموقف وأكملَت غناء الأطلال.
كانت تدرك أن الجماعات الصهيونية تتحيّن فشل “الحفل” بعدما لم تتمكّن من تعطيله ابتداءً بكل الطرق الممكنة، وبالتالي كان قيامها جزءاً من طريقتها في إدارة المعركة. وهكذا هي دائمًا تذيب الفوارق بين الفن والسياسة وتلغي كل الحدود والمسافات، حتى إذا سألها محمد حسنين هيكل كيف تأتّى لها ذلك؟ أجابته ببساطة إنها لا تلعب سياسة وتتصرّف كمواطنة.
وفي الكتاب متابعة حثيثة لهذا الدمج بين ما هو فني وما هو سياسي في رحلات أم كلثوم، إذ يتنقّل بنا قلم “كريم جمال” من دمنهور حيثُ أحيت ثومة أولى حفلاتها لدعم المجهود الحربي في أغسطس ١٩٦٧ إلى آخر حفلاتها في أبي ظبي في تشرين الثاني/ نوڤمبر ١٩٧١. وعلى مدار تلك الفترة الممتدّة لم يترك شاردة ولا واردة إلا وسجّلها: من أين أتت الدعوة، تشكيل الوفد المرافق لها، رحلة الطائرة، المستقبلون، اسم المطار والفندق وكل تفاصيل الحفل من سعر التذكرة إلى المسرح والفرقة الموسيقية وكبار الشخصيات الحاضرة عرباً وأجانب والأغاني المختارة والوقت الذي استغرقه كلٌ منها في الوصلتين والثلاث، إلى الشينيون والمنديل والمروحة والفستان.. وفوجئتُ على المستوى الشخصي بارتداء أم كلثوم فستانًا أحمر في حفل طنطا فلم أكن قد شاهدتها أبدًا باللون الأحمر، وفهِمت أن هذا كان لغرض تصوير لقطات لفيلم يخرجه يوسف شاهين عن حياتها ولم يتّم.
كما أنَّ الكتاب يقدم لنا كشف حساب لكل حفل وما يُدخله من أموال إلى خزينة الدولة، ويزوّدنا بمعلومات جديدة كمعلومة دور أم كلثوم مع المهجّرين من مدن القناة، ومعلومة حفل زفاف الأمير طلال ابن عبد العزيز الذي كانت ستحييه ثومة لولا اعتراض الملك سعود، بل ويصحّح لنا الكتاب بعض المعلومات غير الدقيقة من خلال عرضها على عشرات المصادر الموثوقة، وتلك فرصة للقول إن طريقة التوثيق التي اتبعها ‘كريم’ في الكتاب لا تختلف أبدًا عن تلك المتبَعة في الرسائل العلمية. وكم احترمته حين قال في الندوة إنه استبعد أي معلومة ذائعة لكن غير موثقّة.
- • •
بين كثيرٍ جدًا مما يستوقف قارئ هذا الكتاب في صفحاته الستمائة، أركّز على نقطتين لفتتا انتباهي بشكلٍ خاص. النقطة الأولى هي المنهج المُركّب الذي اتبعّه ‘كريم’ في العمل، والنقطة الثانية هي لغز الجمهور المسحور بفن أم كلثوم. نحن نظلم هذا الكتاب إن تعاملنا معه كمحض توثيق أمين لرحلات أم كلثوم المكوكية بهدف تمويل شراء السلاح وإزالة آثار العدوان، لأن الكتاب في الواقع يتجاوز ذلك بكثير، فالقارئ يجد نفسه في قلب السياق الاجتماعي والسياسي للمرحلة التاريخية الممتدة من ١٩٦٧ وحتى ١٩٧٥.
وهكذا نجد ‘كريم’ وهو يتناول تلك الرحلات يعطينا نُبذًا عن الدور النشط للحركة النسائية في مصر والكويت، وعن تطوّر الحركة الفنيّة في لبنان.. هذا البلد الذي فرش يومًا ما السجادة الحمراء لسيارة ثومة تتهادى عليها. ونلقاه يعرّج بنا في تونس على تاريخ مقهى المرابط وجامع الزيتونة وفرقة الإنشاد الديني، ويعرّفنا على طَعم التاي بالبندق أي الشاي بالصنوبر. ونلقاه في المغرب ينبهر بفن العمارة الأندلسية وزخارفها فيما ثومة تطير من مدينة مغربية لأخرى، وفي السودان وليبيا يربط هجوم بعض الأصوات النشاز على أم كلثوم بصراع عبد الناصر مع الإخوان والشيوعيين، وفي الإمارات يرصد جهود الشيخ زايد وزياراته العربية تمهيداً لإعلان قيام الدولة الاتحادية.
إن الكتاب عبارة عن سبيكة يتشابك فيها المجتمع مع السياسة والناس مع النخبة والداخل مع الخارج، وهو لوحة فيها انكسار ومعافرة وجنيهات ذهب وعُملة صعبة وقلائد وأوسمة وجوائز وخروف أهداه لها الملك الحسن الثاني حين حلّ موعد عيد الأضحى وهي في المغرب.. ثم أن في اللوحة تأوهات الملايين من عشّاق فن أم كلثوم واستلاب تام تنطق به عيونهم قبل حناجرهم.
- • •
وتأخذني الجملة الأخيرة إلى نقطتي الثانية التي تتعلّق بسحر ثومة ووقعه على معجبيها. هي فنانة عظيمة وصوت نادر وذكاء متقّد وشخصية قوية لا شك في ذلك، وسمعنا كثيراً عن مجنون سعاد حسني وعن الفتيات اللاتي حاولن الانتحار عند وفاة العندليب الأسمر وعن المتيّمات بصوت فاروق شوشة وغيرها من قصص تعلّق المعجبين بالفنانين والشعراء والأدباء، لكن أيضاً هناك شيء مختلف في علاقة أم كلثوم مع معجبيها.. شيء يتجاوز كل تلك المظاهر بكثير. وهذا الشاب الجزائري الذي جثا على قدميها وتشبَث بها في باريس ليس وحده، فهناك والي نابل في تونس الذي ما إن حانت له الفرصة بعد انصراف الرئيس بورقيبة من الحفل حتى قام ورقص وهو المعروف بالجدّية والصرامة، وهناك الزعيم الدرزي الذي لا يسمع الغناء ولا يحبه لكنه يحيدُ طوعاً عن رأيه طالما تعلَق الأمر بصوت أم كلثوم، وهناك الشيخ العربي الذي خيّر صاحب المسرح بين المال والمسدس كي يعثر له على تذكرة لحفل الست، وهناك نفرٌ من المستمعين في السودان الذين انتحوا ركنًا في الحفل وأقاموا الصلاة، ومثلهم في المغرب جماهير راحت من فرط نشوتها تنشد “صلاة وسلام على رسول الله ولا جاه إلا جاه سيدنا محمد”، هناك مَن طلب منها أن تفعل في جمهورها “كيف ما تحب”، ومَن خطف يدها وانهال عليها تقبيلًا حتى إذا أحاط به رجال الأمن لم يهتم فحسبه أن قبّل يد الست، وهناك بالطبع الحاج حافظ التاجر السكندري الذي لا يفوّت لها حفلة. لديها في البلدان العربية نهج أي شارع وتمثال وجمعية لمستمعيها لا ينضّم إليها إلا كل كلثومي أصيل، بل لها تقدير عظيم يصل إلى حد اعتبار زيارتها هي ثاني أهم حدث بعد الاستقلال كما قيل في تونس. ويكمن جزء من تفسير هذه الظاهرة الفريدة في حديث “كريم جمال” خلال الندوة التي أقامتها مكتبة تنمية، حين قال إن نظرة محبّي أم كلثوم لها فيها شيء من التصوّف، وهذا تحديدًا هو الذي يفسّر لنا إقامة الصلاة في حضورها أو الإنشاد الديني في خلفيتها، كما أنه يفسّر لنا تلك الكرامات التي كان يربطها بها جمهورها حتى إذا حطّت حمامة على المسرح وهي تغني تأكد الحضور أن ثومة فيها شيء لله. وساعد على تثبيت هذه الصورة، النشأة المحافظة لأم كلثوم وتلاوتها القرآن مع والدها، فضلًا عمّا يقول عنه كريم إنه غناء ذو طابع مشيخي أي على طريقة المشايخ، وحين سألته كيف استخلص ذلك؟ ردّ: تحرص أم كلثوم مثل المشايخ على إنهاء جُملها الغنائية بقفلاتْ حرّاقة من أجل الاحتفاظ بالمستمعين في حالة طرب/خشوع/تسليم. ومثلها مثل المشايخ لها قدرة فذّة على الارتجال في تنغيم الأغنية/التلاوة. ثم إنها مثلهم ما أن تخرج خارج المقام حتى تعود إليه.
هذا التفسير منطقي جدًا فالمُحّب لصوت أم كلثوم يمكنه أن يلحظ بكل سهولة كيف تتلاعب بنطق كلمات أغانيها مطّاً وتشديدًا وتتحكّم في صوتها رفعًا وخفضًا، حتى لا يكاد هذا المُحبّ يسمع مقطعًا بديعًا كمقطع “هل رأى الحب سكارى مثلنا؟ كممممممم بَنَينا من خيال حولنا” بنفس طريقة الإلقاء مرتين. هل يُصدّق أحد أن تغني ثومة “فات الميعاد في حفلة الكويت” على مدار ٨٥ دقيقة؟!
- • •
في الندوة أجاب ‘كريم’ عن سؤال حول علاقة أم كلثوم بالسلطة فقال إن أم كلثوم كانت ناصرية الهوى بحكم أصولها الريفية ولذلك كان طبيعيًا أن تنحاز لما أحدثه عبد الناصر من اختلاف نوعي في حياة الفلاح المصري، وكونها غنّت لفاروق فهذا لا يجعل منها فنانة السلطة.. أي سلطة لأن بدايات فاروق ليست كنهاياته، ولو كانت كذلك لاقتربَت من السادات ولم تَمُتْ نفسياً وفنياً مع موت عبد الناصر، أقنعني ردّه.
وأجاب عن سؤال حول علاقة أم كلثوم بأحمد رامي بأنها كانت علاقة المُلهِمة بشاعر عبقري، وهذا الردّ لم يقنعني فتلك العلاقة بالذات سبَبت لي قلقًا دائماً بسبب توزّعي بين حبّى لأم كلثوم وعدم ارتياحي لما اعتبرته نوعاً من التوظيف لموهبة رامي، وما من مرة سمعت فيها أغنيتي المفضلّة “هجرتك” حتى عاودني الشعور غير المريح إياه.
عمومًا يا أستاذ ‘كريم’ يقولون إن “عين الرضا عن كل عيب كليلةٌ، لكن عين السخط تبدي المساويا”، وهل من شك في رضاك عن ثومة الرضا كله ومحبّتك لها الحب كله؟ أما ملاحظتي الأخيرة فهي إنني تمنيّت وقد بُذِل كل هذا الجهد المحترم لإخراج أهم كتاب في رأيي عن أم كلثوم، تمنيتُ لو التقى كريم بالأستاذ “محمد فائق” وزير الإرشاد القومي في عهد عبد الناصر والذي كانت تعود له أم كلثوم بعد كل جولة لتحكي له تفاصيلها الدقيقة، فلدى هذا الرجل العظيم الكثير الذي يقال، وربما يُغيّر ما عنده بعض استخلاصات الكتاب.
* كاتبة سياسية وأكاديمية مصرية
المصدر: الشروق