الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كتاب «في الفكر السياسي»؛ (الجزء الأول).. الحلقة الخامسة

 (الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة الخامسة من الجزء الأولالمرحلة الأولى(3/3) بقلم الأستاذ “عبد الكريم زهور”

(3/3)..

    لقد أطلنا بعض الشيء في مناقشة البيانين، وقصدنا أن نكشف الأسس التي أقام عليها الجهاز السياسي السوري واليسار منه بخاصة بناءً سياسياً كاملاً أو هيكلاً لم يُقبر العقل السليم مرة في السياسة السورية كما قُبر فيه، ولم تُضيع القضية العربية مرة كما ضُيعت تحت قبابه وفي أروقته وأقبيته. فلنمضِ الآن بعد هذه المناقشة المطولة إلى الأزمة الجزائرية نلاحق تطورها:

    دخل بن بلة الجزائر من المغرب في ۱۱ تموز، بعد أن سبقته إليها كما بيّنا قوات الحدود من جيش التحرير، فاستُقبل استقبال الأبطال. وبعد أن عقد اجتماعاً في وهران، أقام مقره الموقت في تلمسان. وبدخوله تبدأ الفترة الثانية من المرحلة الأولى من الأزمة، وتنتهي هذه الفترة بإعلان بن بلة في ۲۲ تموز تشكيل المكتب السياسي.

    وقد تبين منذ الوهلة الأولى أن بن بلة يتمتع بتأييد كامل من قوات الولايات الأولى والخامسة والسادسة (الصحراء)، إلى جانب تأييد قوات الحدود، بينما لا تتمتع حكومة بن خدة إلا بتأييد الولاية الثالثة، أما الولايتان الثانية ( قسنطينة) والرابعة فقد كان موقفهما بعدُ غامضاً.

    وتمتاز هذه الفترة بالظواهر الآتية:

    ا – محاولة كل جانب تمكين قواعده في الجزائر. فجانب بن بلة يجري تنقلات عسكرية في الولايات الثلاث المذكورة آنفاً. وبن خدة و بعض أعضاء حكومته يقومون في ۱۲ تموز بزيارة تيزي أوزو مركز ولاية القبائل ومعقل كريم بلقاسم.

   ۲ – إعلان جانب بن بلة رسمياً أنه السلطة الشرعية الوحيدة في الجزائر، كما في تصريح أحمد بو منجل الناطق بلسان هذا الجانب في 14 تموز، الذي حذر فيه الدول الأجنبية من التدخل في شؤون البلاد الداخلية.

   ٣ – النشاط الدبلوماسي والهجوم في المستوى النظري من جانب بن بلة. ففي هذه الفترة صدرت عدة تصريحات عن بن بلة أهمها تصريحان لصحيفة الاكسبرس الفرنسية وصحيفة النيوستيتسمان البريطانية. وفي هذين التصريحين يكشف بن بلة عن آرائه في الثورة والحزب الثوري والاشتراكية والعروبة ونظام الحكم:

    أ- ليست هذه الخلافات شخصية، بل «هناك خلافات جذرية بيني وبين أعضاء الحكومة، وأن نضالي ضدها إنما يرمي إلى انقاذ الثورة قبل كل شي. ما هو المحتوى العقائدي (الايديولوجي) الذي يجب إعطاؤه للثورة الجزائرية؟ هذا سؤال رأينا إن الوقت قد حان لطرحه».

    ب – وللجواب على هذا السؤال اجتمع المجلس الوطني للثورة وأقر بالإجماع البرنامج الذي قدم إليه. وقد حدد هذا البرنامج ملامح جزائر المستقبل، وهي السير في الطريق الاشتراكي الثوري. فخشيةً من الوقوع في نطاق الاستعمار الجديد، لا بد من التنهيج الاقتصادي وتطبيق الإصلاح الزراعي وتأميم المصارف وشركات التأمين. وقد أدان المجلس الوطني النهج البورجوازي الذي يفسح للبورجوازية في الدول المتحررة حديثاً مجال احتلال القطاعات المحررة من غير أن تجري تبديلاً في البنية الاجتماعية.

    جـ – وبن بله لا يؤيد على الإطلاق إقامة حكم عسكري أو سلطة فردية، بل يريد أن تتحول جبهة التحرير إلى حزب ثوري يراقب الحكم ويراقب تطبيق هذا الحكم لمبادئ الثورة ويسيطر على الجيش، لأن «الحزب هو الفكر السياسي للأمة». وقد كان موقفه دائماً ديمقراطياً مؤمناً بالقيادة الجماعية. « عندما كانت تجري المفاوضات وأنا في السجن، كان لي موقفي وكنت أعارض بعض النواحي، ولكنني وافقت في النهاية على الرأي الذي أقرته الأكثرية ولقد أعطيت تفويضاً لبن خدة ليفيد من صوتي في اجتماع المجلس الوطني للثورة عند اقراره لاتفاقيات ايفيان. إن في هذه الاتفاقيات على ما أرى نوعاً من التسوية، ويجب أن تتخذ نقطة انطلاق، لا هدفاً في ذاتها. إنني أؤيد هذه الاتفاقيات كخطوة استقلالية ولكن لا يجوز التوقف عندها. فالثورة يجب أن تستمر ويجب أن تقاد الجزائر بمنطق الثورة».

    د- أما بعض أعضاء الحكومة فقد كانوا على العكس يسعون لإقامة دكتاتورية ضد مجاهدي جبهة التحرير بواسطة جهاز بوليسي مما يناقض الثورة. وفي مؤتمر طرابلس بدا الخلاف واضحاً حين «انتقلنا إلى تعيين أعضاء المكتب السياسي. إن أكثر رفاقنا في الداخل كانوا مستائين من إدارة الحكومة المؤقتة. ولقد رفضوا قبول ترشيحات بعض أعضاء هذه الحكومة للمكتب السياسي. لقد كانت هناك أكثرية كبيرة منسجمة، ولكن الأقلية انسحبت وعطلت الاجتماع بدلاً من أن تتابع المناقشة. وتابعتُ جهودي للتوفيق وقدمت اقتراحاً بقائمة لقيادة الحزب، ولكن بلقاسم وبوضياف احتفظا بهذه القائمة..».

    هـ – أن هذه الأزمة مفيدة، «لقد كانت كاشفة للنوايا والاتجاهات». وهو يأمل بحلها حلاً سلمياً. فالمجلس الوطني للثورة يجب أن يدعى ليعالج القضية بطريقة ديمقراطية. أما إذا رفضت حكومة بن خدة دعوة المجلس الوطني «فسوف اتصرف وأنا متأكد من أن للثورة من القوة الكافية ما يساعدها على تجاوز الأزمة».

    و- «إننا عرب، وأنا اؤمن بوحدة مصير الأمة العربية. ونحن نعمل لوحدة المغرب العربي، ولكننا نريد وحدة شعبية حقيقية… وحين قلت في تونس نحن عرب عرب وعرب فان لهذه الجملة مدلولاً سياسياً دقيقاً.. والفكرة العربية كما أومن بها ليست بالفكرة العنصرية».

   4- وتمتاز هذه الفترة بتحرك العسكريين ومحاولتهم التدخل في الصراع السياسي. ولا نعني بالعسكريين قادة قوات الحدود، فقد كان موقفهم منذ البدء واضحاً ضد حكومة بن خدة. وقد أكدوا من جديد موقفهم هذا حين صرحت في 14 تموز قوات الحدود الغربية في عجدة التصريح الذي سبق أن ذكرنا معظم ما فيه، والذي ورد فيه أيضاً: أن الأزمة لا يمكن أن تنتهي إلا إذا دعي المجلس الوطني إلى الاجتماع وأفرجت الحكومة عن بعض أعضائه المعتقلين وألغت المراسيم غير الشرعية.

    فنحن اذن لا نعني بتدخل العسكريين قيادة قوات الحدود، بل قيادات القوات الداخلية، قيادات الولايات التي كان كل منها، تحت ضغط الضرورات العسكرية ونتيجة لانحلال القيادات السياسية في الداخل منذ سنة 1956، يتمتع باستقلال داخلي واسع. ولكن مواقف هذه القيادات من النزاع السياسي لم تكن سواء. فقيادات الولايات الأولى والخامسة والسادسة قد اتضح موقفها إلى جانب هيئة الأركان العامة، وقيادة الولاية الثالثة قد انحازت هي أيضاً إلى جانب الحكومة المؤقتة. فلم يبق إذن إلا قيادتا الولايتين الثانية والرابعة. بيد أن قيادة الولاية الثانية لم تكن منسجمة في داخلها، فبينما يقف قائدها العقيد صوت العرب موقفاً غامضاً إذا بمساعده المقدم سي العربي يقف في صف هيئة الأركان العامة. أما قيادة الولاية الرابعة فكانت منسجمة فيما بينها تحت قيادة العقيد حسن (يوسف الخطيب)، وبذلك أصبحت مهيأة أكثر من سواها للقيام بالدور السياسي، خاصة وأنها القيادة المسيطرة على منطقة العاصمة، وأن العاصمة تتمتع بوضع خاص يمنحها استقلالاً عن كل القيادات العسكرية الداخلية.

    وبالفعل، بدأت قيادة هذه الولاية تظهر على مسرح الأحداث منذ 15 تموز حين وجهت نداء إلى الشعب دعت فيه إلى عقد مؤتمر شعبي.. وأعلنت أن برنامج جبهة التحرير الذي تبناه بالإجماع المجلس الوطني في آخر اجتماع له يجب أن يكون الأساس الذي يقوم عليه البناء الجديد للثورة والذي تعتمد عليه الديمقراطية الصحيحة.

    ولا ندري إن كان هذا النداء نتيجة لمساعٍ قامت بها قيادة الولاية الرابعة لجمع قيادات القوات الداخلة في مؤتمر تصدر عنه الكلمة الفصل في النزاع، أو أن مؤتمر القيادات الداخلة كان بتشجيع من قبل بن بله لأنه إن لم يكن يضمن فيه الأكثرية فهو يضمن على الأقل نصف الأعضاء. كل ما نعلمه أن مؤتمراً لقيادات الولايات الست انعقد في ميدان من أعمال الأصنام في 17 تموز. وأن موقف بن بله من المؤتمر كان ايجابياً، بينما أعلن بوضياف أن حل الأزمة لا يمكن أن يأتي عن طريق المجلس الوطني ولا عن طريق مؤتمر قيادات الولايات..

    وينتهي مؤتمر الولايات في ۲۱ تموز إلى وفد وساطة بين الجانبين المتنازعين مؤلف من ثلاثة قادة بينهم العقيد مهند ولد الحاج قائد الولاية الثالثة. ولم يكن وفد الوساطة هذا يحمل حلاً بل رأياً بالموافقة على تشكيل المكتب السياسي المقترح من قبل على المجلس الوطني للثورة مع بعض التعديل. والذي جعل وفد الوساطة لا يحمل حلاً جاهزاً رغم اتفاق رأي الأكثرية في المؤتمر على موقف واحد، لأن ممثلي قيادة الولاية الثانية انقسموا على أنفسهم وانحاز نصفهم إلى جانب ممثلي الولايات الأولى والخامسة والسادسة- أن قيادة الولاية الرابعة اشترطت منذ البدء انعقاد الاجماع حتى يصدر قرار عن المؤتمر.

  فهل وراء هذا الشرط تحضير لدور سياسي تريد أن تلعبه هذه القيادة؟

    5 – بدأ اتحاد عمال الجزائر واتحاد طلابها ينشطان، فقد صدر عنهما في هذه الأثناء بيانان يحثان على حل الأزمة، ويدعمان مساعي وفد الوساطة العسكري.

6 – ساد جو تفاؤل بقرب انفراج الأزمة، وأيد هذا التفاؤل اطلاق سراح المقدم سليمان معاون بومدين المعتقل منذ بدء الأزمة.

    ولكن بن بلة بدأ من جانبه يهيئ الجو لظهور المكتب السياسي، فقد صرح في 16 تموز أي قبل انعقاد مؤتمر قادة الولايات، بأنه يصر على مطالبه الأساسية بالنسبة لإنشاء المكتب السياسي وتحقيقاً للرغبات التي أبداها المجلس الوطني، كما عاد وصرح في 21 تموز أي بعد وساطة الوفد العسكري بأنه لن يعود إلى العاصمة إلا إذا سويت جميع المسائل المعلقة.. وأنه سيلجأ إلى الشعب الجزائري إذا لم تحل الأزمة .

    في هذه الفترة كان موقف الجهاز السياسي السوري بعامة معتدلاً. نعم إن بعض العناوين في الصحف وطريقة نقل الأخبار توحي بالتحيز، ولكن لم يكن هناك موقف حاد في الاتهام، ربما اعتقد هذا الجهاز أن موقف بن بلة هو الأضعف، لأن قيادة تلمسان كانت تبدو من بعيد كأنها «حكومة منفى» على حد تعبير إحدى الصحف اللبنانية.

    ولكن موقف هذا الجهاز اختلف منذ ۲۲ تموز، بدء الفترة الثالثة من المرحلة الأولى. ففي هذا التاريخ قدر بن بلة أن الظروف قد نضجت للقيام بوثبة واسعة إلى الأمام. فأعلن بومنجل تشكيل المكتب السياسي على الصورة الآتية: أحمد بن بله، محمد خيضر، محمد بوضياف، حسين آية أحمد، رابح بيطاط، محمد سعيد محمدي، العقيد الحاج بن العلاء.

    لقد مد بن بله سلطانه ووطده على أكثر من نصف الجزائر؛ بينما لا تمتلك الحكومة الموقتة إلا سلطة محدودة في النصف الآخر، إذ أنها تقتسمها مع قادة الولايات اقتساماً جائراً بالنسبة إليها. وجانب بن بله متراص الصفوف، رغم التشكيك الدائم بموقف بومدين الذي كانت تثيره الدعاية الاستعمارية دائماً، وقد اندغم فيه معظم العسكريين: جيش الحدود وقوات ثلاث ولايات، ومعظم السياسيين من أعضاء المجلس الوطني وحكومة فرحات عباس؛ بينما صفوف حكومة بن خدة مفككة: فحسين آية أحمد رغم خلافه الشديد مع بن بله اتخذ موقف المترفع عن الدخول في الخلافات دأب نوع من المثقفين يعتور دائما ثوريتهم نقص في الجرأة والاستمرار يغطونه بالترفع السلبي؛ وسعد دحلب وزير الخارجية ومحمد يزيد وزير الأنباء سحبا نفسيهما من الخلاف وتوقفا عن النشاط ؛ ورابح بيطاط نائب رئيس الوزراء لم يكن يخفي تحيزه إلى جانب بن بله وإن اتخذ الموقف المعتدل إلى حين، ومحمد سعيد محمدي اتخذ موقفاً شبيهاً بموقف بيطاط؛ فلم يبق مع بن خدة في موقف واضح جازم إلا بوضياف الذي يتمتع بنفوذ حسن في منظمات العمال والطلاب في فرنسا، وإلا قيادة الولاية الثالثة والثلاثي بلقاسم بوصوف بن طوبال الذين استبدوا على ما يظهر بالسلطة بقسوة أثارت عليهم النقمة في جيش التحرير وفي جبهة التحرير. كما أن بن بله كشف نظرياً وسياسياً دعوى الشرعية ومن ورائها دعوى الديموقراطية اللتين تستند إليهما حكومة بن خدة، وطرح بدون هوادة مسألة الاشتراكية واستمرار الثورة، أي بينما كانت منطلقات بن بلة النظرية ثورية واضحة وشرعية أيضاً لأنها تعتمد على البرنامج الذي أقره المجلس الوطني؛ إذا بموقف حكومة بن خده النظري غامض وإذا بها لا تحير جواباً مباشراً على اتهامها بالتآمر على الثورة وعلى أداة الثورة: جيش التحرير. وكان آخر كسب حصل عليه بن بلة حين وجه بكياسة مؤتمر قادة الولايات إلى موضوع تحويل السلطة إلى المكتب السياسي فاتجه هذا المؤتمر إن لم يكن إلى قرار فإلى توصية بتشكيل هذا المكتب.

    هذا هو الوضع الذي هيأته قيادة تلمسان بجرأة وحرص حين وجهت ضربتها القوية فأعلن بومنجل تشكيل المكتب السياسي متهماً الحكومة بالتخلي عن أعمال المجلس الوطني قصد اختلاس السلطة التي أجمعت أكثريته على تحويلها إلى المكتب السياسي.. فتشكيل هذا المكتب جاء تلبية لقرار أكثرية أعضاء المجلس.. الذي يعتبره المكتب السياسي الجديد المرجع الأعلى لجبهة التحرير وللثورة.. ولينهض هذا المكتب السياسي الآن بأعباء المسؤوليات الوطنية وسيظل يقوم بها إلى أن يجتمع المجلس ثانية.

    وكان رد الفعل في الجانب الآخر عنيفاً. فقد رفض بوضياف وآية أحمد الاشتراك في هذا المكتب، كما نعت بلقاسم في تصريح له هذا القرار بأنه «انقلاب يهدف إلى إقامة ديكتاتورية فردية»، وأن المكتب الذي شكله بن بله غير شرعي لأن عدداً من الولايات لم يشترك في الاجتماع الذي أسفر عن تشكيله، وناشد القوى الثورية أن تقف ضد هذه المحاولات.

    ولكن الضربة كانت على ما يظهر مُحكمة بحيث أن الحكومة أرادت أن تتفاداها أو تخفف من أثرها بالعمل الدبلوماسي، فأرسلت محمد سعي محمدي وسيطاً إلى بن بلة يبلغه موافقة الحكومة على إقامة مكتب سياسي شريطة أن تكون الموافقة النهائية من قبل المجلس الوطني.

    غير أن ضربة أخرى كانت في الطريق، وكانت في هذه المرة عسكرية تهدف إلى تحطيم التوازن الظاهري في توزع السلطة على أرض الجزائر. فقد زحفت قوات بومدين على قسنطينة فاحتلتها واعتقلت العقيد صوت العرب والاخضر بن طوبال، وانزلت قوات أخرى من البحر في ثغر عنابة. كما أن بن بله بدأ زحفاً سياسياً باتجاه العاصمة، فاستقبل استقبالاً حافلاً في تياريت الواقعة في منتصف الطريق إلى الجزائر.

    وردَ بوضياف وبلقاسم مرة أخرى بعنف على هذا الإجراء العسكري، فاتهما بن بله بمحاولة اقامة حكم ديكتاتوري، وناشدا القوات المسلحة أن تقف بوجه بن بلة، وذهبا فعلاً إلى تيزي أوزر لينظما المقاومة في منطقة القبائل.

    ولكن المكتب السياسي مضى في سبيله: يضرب بحرص في الميدان العسكري فقد تابعت القوات الزاحفة من الشرق أعمالها العسكرية واحتلت من البحر ثغري سكيكدة وجيجل في ۲۸ تموز، ويفتح في الميدان السياسي الباب للمفاوضات والاتفاق، فقد أوقف بن بله زحفه السياسي عند تياریت، واطلق المكتب السياسي سراح بن طوبال والعقيد صوت العرب، وأعلن خيضر في ۲۹ تموز: أننا قررنا العودة إلى الجزائر بصفتنا أعضاء في المكتب السياسي، ولكن العودة ستكون على مراحل، وأنه شخصياً سيصل الجزائر بعد ظهر الغد، وسيسعى فيها إلى حل بعض المسائل.. ولكن بوضياف وبلقاسم اتخذا موقفاً لا يمكن تفسيره إلا أنه دعوة إلى حرب أهلية، «ونحن لا نريد اللجوء إلى القوة المسلحة ولم نفكر قط في الاستيلاء على الجزائر بالقوة، وإلا فإن أربعين ألفاً من الجنود الجزائريون كانوا قادرين على شق الطريق إلى الجزائر».

    وقد وصل خيضر بالفعل إلى الجزائر واتصل ببن خدة الذي اتخذ موقفاً معتدلاً. ولكن بلقاسم وبوضياف ظلا مصرين على موقفها، فقد صرح بلقاسم بعد منتصف الليل في ۲۸ تموز: أن هناك محاولتين انقلابيتين جرتا مؤخراً، الأولى عندما أعلن بن بله تشكيل المكتب السياسي والثانية الحوادث الدامية في قسنطينة.. وأنه لا مجال للاتفاق عندما تستباح دماء الجزائريين.. وأنه حتى يمكن بحث أي اتفاق يجب أولاً أن تنسحب من قسنطينة القوات التي احتلت شمال الولاية.. وأن الحل الوحيد الممكن يجب أن يقوم على أساس الشرعية، والشرعية تتمثل بالمجلس الوطني..

    لقد رجع المتطرفون في الحكومة الموقتة أخيراً إلى المجلس الوطني، ولكن المكتب السياسي قد خلف وراءه بعيداً هذه المرحلة ولم يعد في الإمكان التراجع. ولذلك كان تصريح بومنجل: إن قسنطينة من الولايات التابعة للمكتب السياسي، والمكتب السياسي هو أعلى جهاز سياسي في الجزائر، ولكنه لا يتمكن حالياً من تأمين التمثيل الخارجي الذي سيبقى من اختصاص الحكومة الموقتة.

    ويتابع محمد خيضر، في نفس الوقت، اتصالاته ببن خدة، الذي يذيع بياناً بضرورة انعقاد المجلس الوطني للموافقة على تشكيل المكتب السياسي. ويحصل أول لقاء منذ بدء الأزمة بين خيضر وبلقاسم في ۲۸ تموز. وفي اليوم الثاني يسافر خيضر إلى باريس لإقناع آية أحمد بالعدول عن استقالته، ويصرح أن اتفاقاً قريباً أصبح متوقعاً.

    ولكن حادثين اعترضا سير هذه اللقاءات والمفاوضات. الأول، وهو ذو خطورة خاصة وقد كان بدءاً لمرحلة جديدة في الأزمة، هو احتلال قوات الولاية الرابعة مدينة الجزائر. هل كان هناك سباق بين قوات الولايتين الثالثة والرابعة لاحتلال العاصمة؟ هل كانت مظاهر الإتفاق بين بلقاسم وخيضر ستاراً نشره بلقاسم لإخفاء عملية عسكرية جوابية على احتلال قسنطينة باحتلال العاصمة؟ لقد لاكت الألسن أموراً من هذا النوع، ولكن الذي وقع بالفعل هو أن العقيد حسن عقد في مساء ۲۸ تموز مؤتمراً صحفيا في مقر قيادته في بليدا شرح فيه موقف قواته المحايد في النزاع، وضرورة فتح العاصمة لكل القادة ليلتقوا فيها بحرية، وأنه لتأمين ذلك كان لا بد لقواته المحايدة من احتلال مدينة الجزائر؛ وفي الساعات الأولى من يوم ۲۹ تموز كانت قوات الولاية الرابعة قد احتلت العاصمة.

    والحادث الثاني هو اعتقال بوضياف في ۳۰ تموز وهو يزور عائلته في مسيلا من أعمال الولاية الأولى. ولكن سريعاً ما سوي هذا الحادث حين أمر بن بلة في اليوم الثاني بإطلاق سراح بوضياف، فزالت الآثار التي تركها هذا الاعتقال على بن خدة، وبخاصة على بلقاسم، وفي مطلع آب اجتمع خيضر ببلقاسم و بوضياف وحضر الاجتماع العقيد مهند ولد الحاج. وفي ٢ آب أعلن الاتفاق وتحديد صلاحيات المكتب السياسي وهي كما جاء في تصريح خيضر ثم في بيان بن خدة:

 1- تهيئة الإنتخابات للجمعية التأسيسية، ۲- تولي القيادة الموقتة لجبهة التحرير، 3- مثول المكتب السياسي أمام مجلس الثورة بعد اسبوع من الانتخابات. وفي الثالث من آب وصل بن بلة مع المكتب السياسي إلى العاصمة الجزائرية، وفي اليوم الثاني عقد أول اجتماع له فيها، وفي 5 آب وزعت الأعمال على أعضاء هذا المكتب كما يأتي: خيضر للأمانة والشؤون المالية، الحاج بن العلاء للشؤون العسكرية، بيطاط لتنظيم جبهة التحرير، بوضياف للتوجيه الحزبي والشؤون الخارجية، محمد سعيد محمدي لشؤون التربية والتعليم والصحة العامة، أما آية أحمد فقد أصر على موقف الرفض والعزلة. وهكذا انتهت المرحلة الأولى من الأزمة الجزائرية.

    ونعود إلى موقف الجهاز السياسي لنقول: إن الاعتدال النسبي الذي بدا على هذا الجهاز خلال الفترة الثانية أخلى مكانه، منذ ما أعلن تشكيل المكتب السياسي، للعداء الصريح لبن بلة. ولكن الأحداث كانت تجري جرياً سريعاً تتخلله تقلبات ومباغتات غير متوقعة بحيث لم يتح لا للصحافة ولا للمنظمات السياسية الأخرى أن تستعمل إلا أسلحة الدس وتوجيه الأنباء وبعض التعليقات السريعة:

    فالعناوين الكبيرة والصغيرة في الصحف كانت تدور جميعاً، بعد إعلان المكتب السياسي، حول «خطورة الموقف في الجزائر بعد قيام بن بلة بحركته الانقلابية»، «الموقف في الجزائر ينذر بالخطر» .«حركة بن بلة تنسف المساعي التي بذلها مجلس القادة العسكريين لحل الخلاف». أما بعد احتلال قسنطينة فأخذت العناوين صورة الإنذار بسوء المصير «فرنسا تهدد بالتدخل عسكرياً لحماية أرواح وممتلكات الفرنسيين»، «شرارة الحرب الأهلية تشتعل في الجزائر وفرنسا تنذر بالتدخل المسلح». ولم تتورع بعض الصحف عن توجيه الاتهام بتلميح واضح « دخلت قوات بن بله عنابة من البحر، مما أثار عشرات نقاط الاستفهام». ذلك بينما كانت هذه الصحافة تصور بن خده وقد ارتفع إلى مستوى المصلحة الوطنية العليا «بن خده يحاول تجنيب الجزائر الحرب الأهلية». وحتى عندما بدا الاتفاق كأنه قيد الإعلان وامتلأ الجو بالتفاؤل، لم تتورع إحدى الصحف عن التزييف فنشرت تحت عنوان «أحمد بن بله وناصر»، النبأ التالي: «كتبت مجلة نيوزويك في أحد أعدادها الأخيرة أن عبد الناصر أرسل إلى الحكومة الأمريكية يطمئنها أن أحمد بن بله هو تحت أمرته وتوجيهه..». ومع أن الخلاف وأسبابه كانت قد اتضحت، بل ربما لهذا السبب، عادت بعض الصحف إلى تصوير الخلاف على أنه خلاف شخصي، كما فعلت إحدى الصحف في مقالها الافتتاحي في ۲۷ تموز. وبعد أن اعترفت حتى حكومة بن خدة حتى بوضياف وبلقاسم بالمكتب السياسي نجد حكومتنا تعلن «أن سورية لا تنحاز إلى جانب في سياستها تجاه الجزائر الشقيقة»، كما صرح مُطلع في وزارة الخارجية في 7 آب.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

 

يتبع.. الحلقة السادسة بعنوان: المرحلة الثانية(1/2).. بقلم الأستاذ “عبد الكريم زهور”

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.