الثابت الوحيد المستمر في معادلة الصراع السورية، هو عدم القدرة على إزاحة نظام الأسد الاستبدادي، هذا الثابت، قد يكون يستمد استمراريته من تعقيدات الصراع ذاتها، باعتبار أنها ليس تعقيدات صراع داخلي فحسب، بل تكثيف عن صراع أجندات إقليمية ودولية، غيّبت أهداف الثورة السورية في الانتقال من نظام دولة استبداد إلى نظام دولة ديمقراطية.
موقع “غلوبال جستس سيريا نيوز” أراد إنارة المشهد السوري في هذه المرحلة، وفي هذا السياق طرح “أسامة آغي” أسئلته على الدكتور برهان غليون الأستاذ في جامعة السوربون ورئيس مركز أبحاثها، ورئيس المجلس الوطني سابقاً.
نظام الأسد يرفض التفاوض:
غلوبال جستس سيريا نيوز: يبدو المشهد السوري بعد محاولات عربية للتطبيع مع نظام أسد وكأنه عاد لمربعه الأول. هل فشل التطبيع سببه ارتهان النظام سياسياً واقتصادياً وأمنياً لحليفيه الروسي والإيراني؟ وهل تعتقدون أن ارتهانه أكبر وأشمل لإيران؟ وهل تقف إيران وراء إفشال التطبيع العربي مع أسد خشية تمدد الدور العربي في الصراع السوري؟
غليون: يعتقد الاسد وهو على حق في ذلك ان اي انخراط في عملية تفاوضية مع اي طرف كان داخلي او عربي او دولي يعني تغيير قواعد اللعب التي تقوم منذ انقلاب حافظ الاسد عام 1970 على الحكم الفردي المطلق الذي لا يقبل فيه الحاكم اي شروط ولا يخضع فيه لأي مساءلة أو محاسبة من اي طرف كان. هو الوصي الوحيد على الدولة والقوى العسكرية والامنية والسياسة والفكر والثقافة وعالم الأعمال ورجال الدين والإيمان الصحيح وهو المالك الأوحد للعبيد. ووسائل اعلامه لم تخف ذلك فقالت ان عبقرية الاسد ظهرت في هذه المناسبة لأنه أدرك الفخ الذي نصب له من قبل لحكومات العربية لتوريطه في حوار معها حول الأوضاع السورية يمكن ان يفتح المجال امام تدخل المجتمع الدولي لفتح ملف الاصلاحات السياسية وتدريجا المفاوضات حول مصير البلاد وفي ما وراء ذلك مصير نظام حكمه ايضا.
لكن لا اعتقد ان الكلمة الاخيرة لا تزال اليوم في سورية للأسد او للحاشية المحيطة به والمستفيدة من نظامه. لديه اليوم شركاء كبار هم من يضمن بقاءه، لا اجهزته العسكرية والأمنية وحدها كما كان عليه الحال قبل الثورة. وبعض هؤلاء يتطلعون الى أموال إعادة الإعمار العربية. واعتقد ان الحوار حول المبادرة العربية سوف يستمر من وراء الكواليس للوصول الى تسوية ليس حول المسألة السورية ولكن حول التطبيع العربي مع الأسد الذي لا يخفي انه يريد مقابل إعطاء دور وموقع للعرب في سورية الراهنة اعتراف دول الجامعة بانتصاره على الشعب وتكريس نظامه وشرعنته وإرسال مليارات الدولارات له لإنقاذ اقتصاده المنهار. وهذا هو ايضا وبالأساس مطلب طهران المفاوض الرئيس من ورائه. ونحن نأمل ان لا يفرط أشقاؤنا العرب بحقوق الشعب السوري في انتقال سياسي لا يتوقف عليه مصير ملايين السوريين جميعا فحسب وانما اعادة بناء التفاهم والسلام الاقليميين أيضا.
الكبتاغون لن يحسّن الأوضاع:
غلوبال جستس سيريا نيوز: لو تتبعنا هبوط قيمة الليرة السورية أمام باقي العملات، هل تعتقد أن هذا الهبوط المريع لليرة سيفجّر انتفاضة جديدة في مناطق حاضنة النظام الموالية له؟ وهل تصنيعه للكبتاجون وتهريبه إلى الخارج وتحديدا دول الخليج العربية سيساعده على الاستمرار في الحكم وتأمين مستلزمات حربه ضد الشعب السوري؟ وكيف سيواجه موالو النظام من العلويين جوع بطونهم الذي قادهم إليه نظام أسد؟
غليون: لا شك ان استمرار التدهور السريع في الاوضاع المعيشية ومن ضمن ذلك الانخفاض المريع كما ذكرت في قيمة الليرة السورية يثير تململا كبير في جميع أوساط الشعب السوري بما فيها اوساط الموالين للنظام. ولن تساعد تجارة الكبتاغون في تحسين هذه الأوضاع لأنها، كأي تجارة مافيوية، لا تنعكس الا بشكل محدود جدا على دخل الناس ومعاشهم، بمن فيهم الموالين للنظام من السنة والعلويين والمسيحيين وغيرهم، ولكنها تغذي حسابات اعضاء المافيا ومن يعمل في خدمتهم فحسب. وهذا ما يجعلني اشك في ان يكون حديث رئيس النظام الموتور على سكاي نيوز العربية هو الكلمة الأخيرة للنظام الذي لم يعد كما ذكرت نظام الاسد وحده وانما شركة مساهمة ايرانية روسية اسدية. وما تزال اموال الخليج تثير شهية الجميع. من هنا سننتقل من معركة التغيير والانتقال السياسي الى معركة التطبيع بين العرب والاسد، ورهانها تحديد الثمن المالي والسياسي والاستراتيجي لهذا التطبيع، الذي هو تطبيع غير مباشر مع طهران. واذا دخلنا بالفعل فيها فسوف ينتظر السوريون طويلا قبل ان يحصلوا على خفي حنين.
لا بديل عن سورية التي لا تزول:
غلوبال جستس سيريا نيوز: إذا قلنا إن النظام عاجز عن الانتصار على إرادة التغيير السياسي المطلوبة في البلاد، وإذا قلنا أن المعارضة هي الأخرى خارج قدرة التغيير السياسي للوضع في البلاد، كيف يمكن أن تتم عملية إزالة الاستبداد؟ هل ذلك ممكن عندما تخسر روسيا حربها في أوكرانيا؟ أو ربما يخسر بوتين حكم روسيا لأسباب داخلية؟ هل يمكننا الانتظار والركون إلى إرادة دولية لتنفيذ القرار 2254؟ أم أن قدر السوريين هو زوال سورية كدولة من خارطة المنطقة؟ أيهما الأقرب لحركة الواقع؟
غليون: لا هذا ولا ذاك. الحرب الروسية الاوكرانية حرب طويلة هدفها تقويض قوة روسيا واستنزافها بجهود الاوكرانيين. وخسارة بوتين الحكم في روسيا حلم بعيد التحقيق، والإرادة الدولية لم تنجح في تنفيذ اي قرار، وهي تكاد تكون الصامت الأكبر في المعركة الجديدة بعد ان فقدت اوراقها وصدقيتها بسبب تهاون مبعوثيها وتواطئهم عن طيبة خاطر او نتيجة اليأس مع سياسة النظام السوري لكسب الوقت. وسورية لن تزول من الخريطة لأنه لا يوجد بديل لها يرضي جميع الاطراف المتورطة في النزاع ويضمن مصالحها. الوضع القائم هو اكثر ما يعبر عن تقاسم هذه المصالح. وهو وضع يسير بالسوريين من سيء الى أسوأ ويحرمهم جميعا من امكانية اعادة بناء اقتصاد منتج وسلطة قانون ودولة وحد ادنى من التواصل والتضامن والثقة في المستقبل ويدفع بهم الى التخبط المتزايد في أزمة شاملة لا قعر لها ولا مخرج منها.
إمكانية عقد اجتماع وطني شامل:
غلوبال جستس سيريا نيوز: إذا اجتمعت إرادة السوريين بحدها الأدنى للبحث في خارطة طريق للخروج من استعصاء الحل السياسي، هل تعتقدون أن هذا الاجتماع ممكن؟ وهل يحتاج إلى ظروف تساعد على انعقاده؟ وما هي هذه الظروف؟ وهل سيكون التمثيل في هذا الاجتماع مناطقي ام سياسي أم طائفي؟
غليون: لن تجتمع إرادة السوريين، حتى في حدها الأدنى، للبحث في خارطة طريق طالما لم ينجحوا في نزع الأشواك التي زرعت في اجسادهم وجعلتها تنزف منذ عقود. ولن يتمكنوا من ذلك ما لم يتعرفوا على اسباب فشلهم وانقساماتهم ويستخلصوا دروس هذا الفشل ويعيدوا بناء فكرهم وايديولوجيتهم على اسس جديدة تمكنهم من التواصل والتفاهم ومد الجسور لتكوين ارادة جامعة واحدة. عندئذ ينفتح الباب أمام مواجهة التحديات التي ذكرت، وأولها انطلاق التفكير والعمل السياسيين بدل المماحكات والردح وندب المصير الذي لا نزال نشهده في صفوف المثقفين والسياسيين الفاشلين منذ أكثر من عقد من الزمن. كما لن يكون هناك حينئذ مشقة كبيرة في رسم خارطة الطريق وتذليل العقبات أمام الاجتماع ولا في التغلب على ازمة التمثيل الذي يخيم بظله الأسود، المناطقي او السياسي او الطائفي، اليوم، على مستقبل أي لقاء.
الضغط على مستثمري الصراع السوري:
غلوبال جستس سيريا نيوز: إيران وروسيا استثمرتا في الصراع السوري عسكريا واقتصاديا. هل يمكن الضغط دولياً عليهما لاحقاً لإخراج قواتهما من سورية؟ وهل تعتقدون أن تسوية سياسية للصراع السوري لا يمكنها إغفال مصالح حليفي النظام (روسيا وإيران) اقتصادياً؟ وهل هذا السيناريو سيرتبط بهزيمة الروس عسكريا في أوكرانيا؟
غليون: لا أعتقد أن هناك من بين الدول من يعتبر نفسه معنيا بالضغط على الدول التي استثمرت في الصراع السوري خاصة روسيا وطهران. ولن تخوض اي دولة مهما كانت حربا مع دولة اخرى من اجل سورية والسوريين. ووجود هذه الدول والمصالح التي اصبحت تملكها في سورية هي التي تحول دون التوصل لتفاهم سوري وليس دولي فحسب. لذلك اذا لم يعتمد السوريون على انفسهم ويسعوا الى قلع اشواكهم بايديهم ويعضوا على جروحهم فلن ينقذهم احد، ولا احد يهتم بمصيرهم. هذا كان اعتقادي وموقفي منذ بداية الثورة في المجلس الوطني ولم يتغير. وهذا ما تؤكده الايام كل يوم. فعندما تسقط البقرة تنهال السكاكين عليها لاقتطاع أجزاء منها، ولا تهرع اي بقرة لإنفاذها. هذا ما يحصل في الطبيعة. ولا يزال عالم العلاقات الدولية أقرب اليه بكثير منه الى نظام المدنية والقانون.
* كاتب وصحفي سوري
المصدر: غلوبال