معقل زهور عدي
لم يكن العهد الفيصلي طويلاً في عمره, فهو لم يُعمر أكثر من اثنين وعشرين شهراً, لكن التجارب التاريخية لا تقاس بطول المدة التاريخية أو قصرها, فبينما بقيت أوربة غارقة في ظلام العصور الوسطى من القرن الخامس الميلادي وحتى القرن الخامس عشر كانت الحياة فيها تسير وفق نمط ثابت وأفكار لا تتغير, نجد بعد ذلك نهوضاً متصاعداً في التجارة والاقتصاد والفكر خلال حوالي مئتي عام ثم جاءت الثورة الفرنسية لتقلب المفاهيم الاجتماعية والسياسية السائدة رأساً على عقب خلال عشر سنوات بدأ بالعام 1789؛ وبالمثل كان العهد الفيصلي شديد الأهمية من حيث طبيعة الإنجازات التي شهدها ودلالات تلك الإنجازات, ويمكن اعتباره مهداً للوطنية السورية مثلما كان تجسيداً وتجلياً مادياً للفكرة القومية العربية لأول مرة, ومُختبَراً لأول ديمقراطية حداثية عربية حقيقية.
كتب “محمد رشيد رضا” في مجلة المنار عام 1922 بعد خروجه من سورية واستقراره بمصر يصف العهد الفيصلي: “وكانت الحرية بجميع أنواعها ولا سيما حرية الاجتماع والخطابة والنشر مما تحسدنا عليه سائر البلاد السورية (يقصد غير المنضوية تحت جناح العهد الفيصلي ومنها لبنان وفلسطين) ومصر وزال من دمشق ما كانت مشهورة به في الحفاوة والتعظيم للحكام والوجهاء وشَعرَ الشعب بحريته وكرامته).
ما يعنيني هنا هو التركيز على ذلك التفاعل الخلاق بين العروبة والإسلام المستنير والحداثة, والذي يكفي للدلالة على أن اجتماع تلك العناصر الثلاثة ليس من قبيل اجتماع الأضداد, والشرط هنا هو توفر نُخب كتلك التي شهدها العهد الفيصلي, أما حين لا يتوفر تيار إسلامي مستنير, أو علماني مرن متلائم مع البيئة الاجتماعية والثقافية, أو قومي عربي ديمقراطي فمن الطبيعي أن لا نتوقع وجود إمكانية لاستعادة تلك التجربة التاريخية.
في بدء العهد الفيصلي كانت الريادة السياسية للتيار القومي العربي الذي سبق أن تكوّن مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بصيغة الجمعيات العربية خاصة جمعية العربية الفتاة التي استطاعت تأسيس قاعدة لها في دمشق بعد أن نقلت مقرها من باريس عُقب مؤتمر باريس عام 1913 والذي كان مرحلة فاصلة في صياغة المطالب القومية العربية وفق برنامج سياسي واضح المعالم أصبح فيما بعد البرنامج المشترك لكل القوى والتجمعات القومية العربية حتى العام 1916 حين خرجت للوجود فكرة الاستقلال التام عن الدولة العثمانية بفعل الحرب العالمية الأولى والأخطاء الجسيمة التي ارتكبها جمال باشا خلال مدة حكمه لبلاد الشام بين 1915- 1917 ببطشه بالمثقفين والناشطين السياسيين العرب وعوائلهم, ونقل وبعثرة الضباط العرب نحو الجبهات البعيدة, وفرض التتريك بالقوة, وكان يتم كل ذلك والدولة العثمانية بأضعف حالاتها, والحديث حول انهيارها وتركتها ملء المسامع والآذان, وخلال المقدمات لثورة الشريف حسين في الحجاز, وما قام بالتحضير له من الاتفاق مع الدولة البريطانية.
دفعت العوامل السابقة مجتمعة الجمعيات القومية العربية إلى طلب الاستقلال التام ووضع يدها في يد الشريف حسين, وبعد أن دخل جيش الشمال العربي دمشق عام 1918 برفقة جيش الحلفاء, تحولت جمعية العربية الفتاة فعلياً لحزب حاكم, بالرغم من أن لجنتها الإدارية فضلت الاستمرار السري بالعمل وإنشاء واجهة حزبية تحت اسم حزب الاستقلال العربي.
لكن ذلك الحزب لم يحكم كحزب قائد للدولة والمجتمع كما فعل حزب البعث بعد العام 1964 مُقصياً بذلك كل الأحزاب والقوى السياسية الأخرى, وعلى النقيض من ذلك فقد أطلق حياة سياسية نشطة وفعالة في البلاد, ولم يكن لديه أي مانع في رؤية رجل كـ”محمد فوزي باشا العظم” عُرف بمعارضته الشديدة لثورة الشريف حسين والدعاية ضدها رئيساُ منتخباُ لأول مؤتمر سوري عام اعتبر كجمعية وطنية تأسيسية مثلت السوريين تمثيلاً حقيقياً ديمقراطياً.
في أيلول من العام 1919 ومع اتفاق بريطانيا وفرنسا على سحب الجيش البريطاني من سورية وإحلال الجيش الفرنسي مكانه في إشارة واضحة للعزم على تطبيق اتفاق سايكس بيكو, جاء لدمشق “مجمد رشيد رضا” الشيخ المعمم الطرابلسي تلميذ المُصلح الإسلامي الكبير “محمد عبده” وأحد أقطاب حزب الاتحاد السوري ومقره مصر لينخرط في العمل السياسي بدمشق باسم حزبه وبتنسيق وتفاهم مع جمعية العربية الفتاة القومية, وسرعان ما دخل المؤتمر السوري ثم انتخب رئيساً للمؤتمر السوري وشارك بفعالية في صياغة الدستور السوري. وقد لعب دوراً رئيسياً في إيجاد توافق وطني بين التيار القومي العربي العلماني والتيار الإسلامي العربي, وفي حل الخلافات التي ظهرت أثناء مناقشة الدستور بطريقة توافقية بحيث يكون كل طرف مستعداً لشيء من التنازل للطرف الآخر بهدف الوصول لصيغة توافقية مشتركة.
ومن تلك المسائل التي شهدت تجاذباً مسألة طرحها النائب “إبراهيم الخطيب” النائب عن جبل لبنان بخصوص تضمين الدستور حق المرأة السورية بالتصويت, وفي ذلك النقاش برز بعض رجال الدين مؤيدين لذلك الحق من وجهة نظر إسلامية, بينما اعترض نواب آخرون باعتبار المجتمع السوري ليس مؤهلاً لتقبل ذلك وأن وضع مثل تلك العبارة في الدستور يمكن أن يُحدث فتنة نحن بغنى عنها في الوقت الراهن, وحسم “محمد رشيد رضا” النقاش بترك تلك المسألة دون إنكارها, ربما على أمل العودة إليها في المستقبل بظروف مناسبة.
أما أكثر ما يستدعي التوقف عنده فهو قبول التيار الإسلامي لعدم ذكر أن دين الدولة الإسلام رغم المطالبة بذلك أول الأمر, وجرى تضمين ذلك بعد إرضاء التيار الإسلامي بعبارة تنص على أن دين الملك هو الإسلام, وواضح أن تلك العبارة لا تغير في شيء من علمانية الدولة.
إذن فقد استطاع العهد الفيصلي تقديم نموذج حي لاحتواء المؤتمر السوري العام لتيار إسلامي معتدل وإصلاحي بل وانتخاب أبرز ممثليه رئيساً للمؤتمر, كما استطاع إنجاز دستور سوري مدني علماني ديمقراطي متقدم بتوافق وطني ضم أجنحة سياسية واجتماعية متعددة أبرزها التياران القومي العلماني والإسلامي الاصلاحي.
فإذا استطاع السوريون اجتراح مثل ذلك التوافق منذ أكثر من مئة عام, فلماذا يُصر البعض على تصوير التيار الإسلامي كبعبع لا يمكن التفاهم معه بأي شكل من الأشكال؟
ألا يدفع مثل ذلك الموقف العدائي التيارات الاسلامية المعتدلة للتطرف ويصب الماء في طاحونة أكثر الفئات تشدداً؟
في المقابل لا بد من وجود تيار إسلامي معتدل يتبنى الديمقراطية بوضوح, ويقبل بتداول السلطة, بصورة مشابهة لتفكير وممارسة الإصلاحي “محمد رشيد رضا” مما نفتقده في الساحة السورية حتى الآن.
فمازالت مسألة الديمقراطية صعبة الهضم بالنسبة للفكر الإسلامي السائد, لكن وضع فيتو مسبقاً على أي تيار إسلامي مهما كان لا يخدم تشجيع ظهوره بل العكس.
وهنا يمكن استعادة تجربة المجلس الوطني السوري في العام 2011 وما بعده, فقد أدى عدم وضوح أساس ذلك التحالف بين علمانيين وإسلاميين إلى تسيُد الطرف الثاني ودفعه باتجاه أسلمة الثورة الوطنية الديمقراطية, لكن ما يجب قوله هنا أن عجز الطرف الوطني الديمقراطي عن قيادة الحركة الشعبية وتنظيمها منح الفرصة للإسلاميين للتسيُد ضمن أهداف خارجة عن أهداف الثورة السورية.
ولعل ذلك أهم سبب في الممانعة التي نشهدها اليوم لدى النخب الثقافية والسياسية في تكرار مثل تلك التجربة الفاشلة.
لكن معالجة تلك المسألة لا يكون بإقصاء تام لكل ما هو إسلامي, لكن بإفساح المجال أمام تيار إسلامي متنور ومعتدل وديمقراطي وتحديد الهدف المشترك بالوصول لدولة المواطنة الديمقراطية المدنية بعلمانيتها المرنة التي لا تقف موقفاً عدائياً من أي دين, ولا تسعى لفرض الإلحاد أو التبشير به, وتحترم ثقافة الشعب وتراثه.
وعلى أية حال تكفي التجربة التاريخية للعهد الفيصلي لتوضح بما لا يدع مجالاً للشك أن توافقاً بين ليبرالية اسلامية متنورة وعلمانية وطنية ليس أمراً مستحيلاً, بل هو ممكن ومطلوب أيضاً.
المصدر: صفحة الكاتب على وسائل التواصل