(الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة الرابعة من الجزء الأول– المرحلة الأولى(2/3) بقلم الأستاذ “عبد الكريم زهور”
(2/3)..
3- إن الحديث في العهود الثورية عن الشعب بإطلاق حرية الكلمة حديث هو في أحسن الفروض لغو لا معنى له، وقد يكون في كثير من الأحيان مقصوداً لإخفاء نوايا معادية للثورة. فأي الفرَضين ينطبق على حديث الفريق البزري عن الشعب الجزائري؟ في العهود الثورية يكون البدء بتحليل بنية المجتمع، ومن ثم تطلق كلمة الشعب على الطبقات الثورية، أما ما عداها فخارجة عن الشعب لأنها خارجة على الثورة أو على الأقل خارجة عنها. لا يوجد بالتأكيد شعب تجعله بنيته الاجتماعية أقرب إلى الإجماع على الثورة من شعب الجزائر. فالمستعمر هو المستعمر والاقطاعي والرأسمالي في آن، لأنه هو المالك لأكثر من نصف الأراضي الزراعية الخصبة ولأكثر من تسعة أعشار الرأسمال الصناعي والتجاري. ولكن هناك، مهما قل العدد، طبقتين جزائريتين مستغلتين: طبقة اقطاعية، وأخرى بورجوازية استغلت لمصلحتها أيضاً ظروف حرب التحرير. لقد كانت الطبقة الأولى حليفاً للاستعمار قبل الثورة وأثناءها، أما الثانية فقد كانت في أحسن حالاتها ذات نشاط ثوري متردد منقطع. ومن المقدر أن تفيد الطبقة الثانية من ظروف الاستقلال، كما أفادت من ظروف الثورة، لتزداد ثراء. وأشد خطراً من ثرائها المتزايد، أنها تحت ضغط مصلحتها ستندغم بالمستوطنين الفرنسيين الباقين، وقد أعدت اتفاقيات ايفيان الجو لمثل هذا الاندغام أو التحالف، وسيكونان الجسور التي سيعبر عليها الاستعمار الفرنسي الجديد إلى الجزائر. وقد انتبه الثوريون الجزائريون لكل هذه الأخطار المقبلة، فحللوا بواقعية ثورية لا تهاب بنية المجتمع الجزائري، وانتهى بهم التحليل إلى أن كلمة الشعب لا تعني إلا الفلاحين والعمال والمثقفين الثوريين الذين ربطوا مصيرهم نهائياً بمصير هاتين الطبقتين المستغلتين الثوريتين.
4- يلح الفريق البزري على أن القيادة الثورية لشعب الجزائر هي حكومته المؤقتة، أي أن الطرف الآخر برأيه تنقصه إلى حد كبير أو صغير الصفة الثورية التي تتمتع بها حكومة بن خدة. ذلك مع أن الطرف الذي يدعمه مهما كانت التكاليف بورقيبة وهو من لا يتكتم على سياسته الغربية، والذي عملت فرنسا على تأييده على نحو إن لم يكن بارزاً فلم يكن خافياً، والذي لم تكن أمريكا بعيدة عن تأييده- هو طرف حكومة بن خدة. والطرف الذي كان مصمماً على حل جيش التحرير، وهو الأرفع في مستواه الثوري من كل أجهزة الثورة الجزائرية- هو طرف حكومة بن خدة. بينما الطرف الآخر هو الذي عارض أو نقد اتفاقيات ايفيان لما فيها من نصوص تحمل على متنها إلى الجزائر الاستعمار الجديد، وهو الذي ثار على اتفاقيات مصطفاي- سوزيني لأنها تعطي المستوطنين ضمانات أخرى فوق ضمانات ايفيان، وهو الذي حظي بتأييد المجلس الوطني للثورة بينما ولت الحكومة الموقتة هرباً منه. فما هو، يا تری، المقياس الذي يوزع على أساسه السيد الفريق الصفة الثورية؟.. إنه « عبد الناصر عميل الاستعمار الأمريكي » وسنحاول فيها بعد تحليل هذا المقياس الذي اكتشفه بل اخترعه الجهاز السياسي السوري.
(۲) ثم ينتقل البيانان كلاهما إلى الذكريات يسترجعانها. أما ذكريات الفريق البزري فكانت مختصرة لم تتجاوز ثلاثة أرباع العمود، وأما ذكريات الأستاذ الحوراني فكانت مُطولة مُفصلة شغلت أكثر من ثلاثة أعمدة ونصف العمود وهذه الذكريات جميعاً الموجزة والمسهبة ترجع إلى أمرين:
1ً)- لقد أساء عبد الناصر معاملة الحكومة الجزائرية الموقتة، وأوكل أمرها إلى ضابط في مخابراته، وأخذ يوقع بين الثائرين ويحاول أن يشتري « الممرضات » للتجسس لحسابه، « ولو لم يُرحِل هؤلاء القادة وينقلوا مركز حكومتهم إلى تونس التي كان عبد الناصر يشن عليها الحملات سنين متتالية لقضي على الثورة »- كما يقول الأستاذ الحوراني. هذه خلاصة ما جاء في البيانين حول هذا الموضوع . ولكن الاستاذ الحوراني يفصل في ذكرياته تفصيلاً: فينجز الوعد المقطوع في التعليق المذكور سابقا، ويذكر تشكي فرحات عباس من سوء معاملة عبد الناصر وتلطفه الشخصي مع عبد الناصر كي يحمله على «حسن السلوك» مع حكومة الجزائر الموقتة، كما يذكر أموراً تتصل بحفلات ودعوات، ولا يغفل اسم فتحي الديب ضابط المخابرات الذي علقت أمور حكومة الجزائر به «هذا الضابط الذي أوقع فتنة بين قوات جيش التحرير في تونس عام 1956 ذهب ضحيتها مئات القتلى»، الخ هذه الذكريات.
2ً)- ولقد منع عبد الناصر أيضاً عن الحكومة الموقتة المعونات، أو كان يعطيهم إياها أرزاً وملابس الخ، كما يذكر الفريق البزري. ولكن الاستاذ الحوراني يفصل القول أيضاً حول هذا الموضوع، فيتحدث عن تبرعات الشعب في سورية لثورة الجزائر وكيف منع عبد الناصر هذه التبرعات عنهم، وعن توجيهات عبد الناصر لمندوبه في الجامعة العربية بأن تكون حصة دول النفط العربية من موازنة الجامعة لثورة الجزائر هي الحصة الكبرى، وعن مماطلته في دفع حصة الجمهورية العربية المتحدة حتى إذا انتهى إلى الموافقة لم يوافق إلا على صرف جزء من هذه الحصة، وعن إلغائه صفقة الأسلحة التي عقدتها سورية مع تشيكوسلوفاكيا قبل الوحدة بعشرة ملايين ليرة لمصلحة الجزائر.
لا نريد أن نُذكِّر بطرائق الاتحاد السوفياتي في معاملة وفود الأحزاب الشيوعية « الشقيقة » وممثلي الثورات الشيوعية في موسكو، وربطه الوحدات العسكرية للشعوب الأوربية المحتلة خلال الحرب العالمية الثانية بالمخابرات السوفياتية إلى جانب الإشراف عليها مباشرة من قبل الضباط السوفيات، ولا نريد أن نتعرض للأساليب اللاأخلاقية التي كانت تتبعها المخابرات السوفياتية للتجسس على زعماء الشيوعية والايقاع بهم أو بينهم (انظر كتاب جيلاس « محادثاتي مع ستالین»)، لا نريد أن نُذكر بهذه الطرائق والأساليب التي تتبعها الأجهزة السرية في الدول لنبرر ما ذكره الفريق البزري، والاستاذ الحوراني عن مواقف عبد الناصر من حكومة الجزائر الموقتة، لأننا لا نوافق قطعاً على هذه الطرائق والأساليب إذا هي استعملت مع شعب شقيق أو حزب شقيق أو ثورة تحررية اشتراكية.
ولكننا نريد أن نُذكر بأن الخلافات في ثورة الجزائر، وبخاصة بين الجهاز السياسي والجهاز العسكري- والخلافات على كل حال طبيعية في الثورات، ولم تنجُ منها ثورة- قديمة ترجع إلى ما قبل اعتقال القادة الخمسة. وأنها اشتدت وبخاصة بين القادة العسكريين والقادة السياسيين، قبل تشكيل الحكومة المؤقتة الأولى وحين تشكيلها. وأنها بلغت غاية الشدة واحتدمت أثناء المفاوضات مع فرنسا. ويذكر بن بلة، كما سبق، أنه حاول وهو في سجنه حل هذه الخلافات. ونكتفي هنا باستباق الحوادث وإيراد خلاصة عن البيان الذي أذاعته في 14 تموز هيئة أركان جيش التحرير في عجدة، وحمَّلت فيه حكومة الجزائر الموقتة مسؤولية تغذية الخلاف وإخراجه من السرية إلى العلنية:
جاء في هذا البيان: أن المصاعب الحالية التي تمر بها الجزائر تعود جذورها إلى عام 1957 عندما اتخذت حكومة الجزائر الموقتة (أي الجماعة التي أصبحت الحكومة الموقتة) سلسلة من الاجراءات التي تهدف إلى الاستئثار بالسلطة، ومن بين هذه الاجراءات: حل أول مجلس وطني للثورة الجزائرية، حل اللجنة الثلاثية للثورة، تشكيل حكومة لم توافق عليها أية منظمة جزائرية مشروعة، حل تلك الحكومة في شهر تموز من عام 1959 وهو الإجراء الذي أعلن عنه عقب اجتماع المجلس الوطني للثورة في طرابلس عام 1960. واتهم البيان بن يوسف بن خدة بأنه حاول منذ عام 1961: ايقاع الانقسام بين وحدات جيش التحرير المرابطة على الحدود الشرقية والغربية للجزائر، إثارة القوات الجزائرية العاملة في داخل الجزائر ضد بقية وحدات جيش التحرير المرابطة على الحدود، كما منع إرسال المؤن والذخائر إلى قوات الحدود في شهر آذار الماضي، وألغى في شهر أيار ميزانية جيش التحرير التي وافق عليها المجلس الوطني.
كل ذلك كان معروفاً حتى قبل ظهور الأزمة. كان يحاط بالكتمان ولكن الشفاه الإنسانية لا بد أن تهمس. وكان معروفاً أيضاً أنه قد جرت محاكمات وصدرت أحكام بالإعدام (محاكمة قيادة الولاية الرابعة للعقيد عز الدين وعمر أو صديق بتهمة التعاون مع فرنسا، مثلاً) وحصلت تصفيات عنيفة (تصفية عبان رمضان في تطوان سنة 1958 من قبل بلقاسم وبوصوف وبن طوبال، مثلاً أيضاً)، ووقعت اصطدامات ذهب ضحيتها المئات بل أكثر من المئات (معارك التصفية التي وقعت في الولاية الرابعة بعد محاكمة العقيد عز الدين وقضى فيها أكثر من أربعمائة ضحية، الاصطدامات التي وقعت في الولاية الثالثة ووقع فيها أكثر من ألفي ضحية، أمثلة أخرى).
وكان معروفاً أيضاً أن جهات مختلفة كانت من وراء هذه الخلافات تغذيها، منها: جماعة مصالي الحاج (وقصة أحمد مزغنة معروفة) وبورقيبة ومصلحة الحرب النفسية التابعة للجيش الفرنسي. ولكن اتجاهين في الثورة كانا يتضحان شيئاً فشيئاً: الاتجاه السياسي، والاتجاه الثوري، وكان يتضح أيضاً أن الاتجاه الغالب على السياسيين ينطوي على نزعات مغربية غربية ديمقراطية بورجوازية، وأن الاتجاه الثاني الغالب على العسكريين ينطوي على نزعات عربية افريقية اشتراكية.
وكان معروفا فوق ذلك أن عبد الناصر متحيز للاتجاه الثاني، وأنه إن كان يتجهم لممثلي الاتجاه الأول ويقبض يده فقد كان يبسط وجهه وصدره ويده للاتجاه الثاني. هل هذا خطأ، هل هذا صواب؟ ذلك ما تجب مناقشته لا شيء آخر من نوع ما ذكره صاحبا البيانين.
ذلك رأينا.. وأياً ما كان الرأي فان بن خدة وبوضياف وبلقاسم وبوصوف وكل فئة الحكومة الموقتة لم يكونوا لا أغبياء ولا جهلاء ولا ليني العريكة. إن من يقرأ بيانات بن خده يجد نفسه أمام عقل لم يصطبغ بالثقافة بل تشربها تشرباً، وان من يتعرف آراء أحمد بوضياف وأعماله يعلم أنه نموذج المثقفين المتأثرين بالاتجاهات اليسارية الديمقراطية الغربية وأنه إنما يعمل عن وعي وقناعة وبإقدام، وأن من يكشف له عن أعمال بلقاسم وبخاصة عن عنفه في التصفيات وبراعته في المفاوضات يتأكد أنه أمام رجل يجمع في شخصه القسوة المتدافعة والدهاء الملتوي. إن هؤلاء أولى الناس وأقدرهم على كشف عبد الناصر ومواقفه من الثورة لو وجدوا إمكانا أو على الأقل ضرورة، وليس في أمزجتهم ما يحول بينهم وبين مثل هذا الكشف، خاصة وأن عبد الناصر لم يكن يخفي لا قبل الأزمة ولا بعدها تحيزه للطرف الآخر، كما أن بن بلة وخيضر وبومدين لم ينوا ينددون ببورقيبة وبالملايين الفرنسية والأمريكية. لقد سكت كل أولئك وتكلم الفريق البزري والاستاذ الحوراني، أليس هذا شيئاً عجيباً يدعو إلى كثير من التأمل?
(۳) ثم يمضي البيانان إلى عقد المقارنة بين موقف عبد الناصر من أزمة الجزائر ومواقفه من أزمة العراق وفتنة حلب. فاذا انتهيا من المقارنة يكونان قد انتهيا إلى أن بن بلة ناصري، ولما كان عبد الناصر عميلاً لأمريكا، فلا بد أن وراء بن بلة الأمريكان الطامعين بنفط الجزائر:
يقول الفريق البزري: «ليس من قبيل الصدفة أن يأتي بن بلة إلى القاهرة بعد خروجه من السجن في ظروف عربية لا تستدعي هذه الزيارة. وليس من قبيل الصدفة أن ينتهي عبد الناصر إلى أن يأخذ طرف بن بله..
«لقد اجتمع عبد الناصر بعبد السلام عارف في أعقاب ظفر ثورة 14 تموز فدب الشقاق بين قادة هذه الثورة بعد هذا الاجتماع، ثم ظهر أن عبد الناصر كان يعمل في السر والعلانية على اجهاض الثورة العراقية وتحويلها إلى مد انتهازي يسمح له بابتلاع العراق، وكان الأمريكان يساندونه طمعاً- بتشليح- الانكليز حصتهم من بترول العراق… ثم إننا إذا نظرنا إلى ما يحدث في الجزائر حالياً، على ضوء ما قلناه آنفاً، نجد أن عبد الناصر يحاول تكرار ما فعله بالعراق، فهو طيلة سنوات الكفاح الجزائري الدموي لم يوفر جهداً في مضايقة قادة هذه الثورة وفي الدس بين رجالها.. أما صلاته بالأمريكان فهي معروفة من كل الناس كما أن المطامع الأمريكية في بترول الجزائر واضحة كل الوضوح. فلم يبقَ إذن إلا أن نستبدل العراق بالجزائر والانكليز بالفرنسيين لنرى بوضوح كيف حاول عبد الناصر اجهاض الثورة الجزائرية لحساب الاحتكارات البترولية الأمريكية».
ويقول الأستاذ الحوراني: «إنه لمن الغريب فعلاً أن يقول عبد الناصر اليوم في خطابه عشية استقلال الجزائر نفس العبارات التي قالها منذ ثلاثة أشهر عشية الفتنة الدموية التي اشعلها في حلب. إن المواطنين العرب في سورية وجفت قلوبهم واستعاذوا بالله من الشيطان والفتنة وتذكروا الصورة الدامية الرهيبة التي وقعت في حلب حين استمعوا إلى عبد الناصر وهو يقول: .. لا أخفي عليكم قلقي للتطورات التي تقع في الجزائر…
«ألا ما أشبه الليلة بالبارحة.. عبد الناصر الذي بذل كل جهد لبث الفرقة والشقاق بين قادة الثورة، يقف ليزف إلى العالم، في عيد انتصار الثورة، خبر أكبر جريمة يرتكبها انسان في حق شعب بذل مليون شهيد حق حقق هذا العيد»:
ولكن الاستاذ الحوراني، لأنه أنفذ فهماً في السياسة من الفريق البزري، لم يتماد إلى أن يتهم باسمه الشخصي بن بله بالناصرية والعمالة لأمريكا، واكتفى بالربط اللطيف بين بن بله وبين عبد الناصر وبالربط الصريح بين عبد الناصر وبين أمريكا:
« ان هذا الرجل (عبد الناصر) يمكن أن يقف بعد حين ليدعو للفتنة والسحل والقتل علناً في الجزائر بواسطة أجهزة اعلامه دون أن يرف له جفن…
«واذا كانت الثورة الجزائرية قد نجت من خطط عبد الناصر التدميرية قبل أن تصل إلى يوم اعلان انتصارها، وذلك بفضل نقل مقر حكومتها من القاهرة إلى تونس، فإن العقل يقضي بأن لا يكون الرجوع إلى سيد القاهرة وسيلة من وسائل الوئام وجمع الكلمة…
« إن عبد الناصر سيجعل من أرض الجزائر مسرحاً للفتنة والاضطرابات، وهي أحوج ما تكون إلى الهدوء والسلم ومعالجة مشاكلها الكثيرة الضخمة، وإن أي انشقاق بين قادة الجزائر سيفسح المجال للنفوذ الاجنبي أن يلعب دوراً خطيراً للغاية من حيث لا يريد أحد من قادة الجزائر أو يفكر في أن يفسح المجال للنفوذ الأجنبي الذي يحاول عبد الناصر أن يفتحه على مصراعيه..»
ولكن الاستاذ الحوراني حين امتنع شخصياً عن اتهام بن بله صراحة لم يكن امتناعه عن عفة بل عن حذر شخصي، واكتفى بالإيعاز إلى كتبته أن يقوموا بهذا الدور، وبفظاظة من لا يشعر بالمسؤولية. فقد جاء في التعليق الذي ذكرناه سابقاً، والتعليق والبيان من معدن واحد، ما يلي:
«وخشي بعض الناس أن يجهض هذا الجبل وان يفرق الأجنبي وعملاء الأجنبي بين ثوار الجزائر فتكبو الثورة وتفتح ذراعيها لاستعمار جدید.
«والناس على حق في هذه المخاوف لأنهم رأوا بأم أعينهم كيف يحل الاستعمار الأمريكي محل كل استعمار يخرج من كل بلد.
«والناس في بلاد العرب رأوا كيف لعب الأمريكان بثورة 14 تموز وكيف لعبوا من وراء عبد الناصر بالاتجاه الوحدوي عام 1957..
«ولو كانت الثورة تتوقف على بن بله وبو مدين لما بلغت النجاح الذي سمقت إليه. ولكن الثورة في الجزائر تعتمد على الشعب وحده، وفيها من القادة من يعوضون ذهاب بن بله وبو مدين.
«ولذلك فان الثورة ستسير دائماً إلى الأمام. وليذهب بن بله إلى القاهرة، لأن القاهرة وكل دسائس قصر القبة لا تستطيع أن تجهض ثورة الجزائر، ولا تستطيع أن تلحق الجزائر بالتبعية الأمريكية بعد أن تخلصت من الانتداب ( كذا ) الفرنسي..»
ليذهب بن بله وليذهب بومدين، ليذهبوا جميعاً، ولتتخطفهم سباع الأرض وجوارح الجو، لتتخطفهم الشياطين! دعوات خرجت من «سويداء» قلب الجهاز السياسي السوري. بن بله يزور القاهرة «في ظروف عربية لا تستدعي هذه الزيارة»- كما يقول الفريق البزري. كأنه لا يعلم أننا في معركة حياة أو موت مع القاهرة، وأن مستقبلنا السياسي بل مصيرنا الشخصي معلق بنهاية هذه المعركة. لماذا لم يلجأ إلى تونس «التي كان عبد الناصر يشن عليها الحملات سنين طوالاً»- كما يقول الأستاذ الحوراني? أنها حتماً لحملات ظالمة، وبورقيبة لا شك مظلوم «ظلم» الحسين وسعود وشمعون وقاسم. بورقيبة غربي الهوى! ولكن ماذا في ذلك؟ إنه على الأقل «عصري» يفهم معنى السوق الأوربية المشتركة والنظام الديمقراطي البرجوازي، بينما سعود وحسين غربيان ولكنهما من مخلفات العصور الوسطى، ومع ذلك التجأنا إليهما. كل شيء يبرره «حق الدفاع المشروع عن النفس» أمام اخطار «الناصرية».
إن بن بله على ما يظهر لم يكن يشعر بهذه الأخطار، ولم تكن تهمه مصائر الجهاز السياسي السوري، بل يبدو أنه من قسوة القلب بحيث لم يستشعر الرحمة لهذا الجهاز يسخره عبد الناصر ويذله ويعبث به ويهينه ويطوح به كل مطوح.
لقد سَقتّه الثورة فاشتد حتى لا يلين، ووثق بنفسه فوجهه لا ينقبض أمام الأعاصير. إنه ليس من طراز أولئك الذين ينبحون من وراء الأسوار والجدر.
وتحضرني هنا ذكرى: حين زار الأستاذ أكرم الحوراني سنة 1955 مع الوفد البرلماني القاهرة واجتمع لأول مرة ساعات بعبد الناصر، سألناه بعد عودته ما رأيه بعبد الناصر فقال: زعيم العرب، وأثناء الحديث ذكر هو رأي عبد الناصر ببن بله: «إنه الرجل العربي الوحيد الذي قابلته ويملك صفات الزعامة».
هذا الرجل وإخوانه قد حصنتهم الثورة من أن يكونوا أدوات أو يعبث بهم العابثون، وتهرهم مع ذلك المعابث! «إن المقارنات والتشبيهات صارت زياً. لقد شبهوني مرة بالشيوعيين الروس ومرة بالشيوعيين الصينيين وقالوا تارة إنني أشبه عبد الناصر وتارة أخرى إنني اشبه كاسترو، إنني لست أحداً من هؤلاء جميعاً، ولكنني افيد من افكارهم جميعاً». هذا ما يقوله بن بلة في تصريح له لمجله «التايم» الأمريكية. أما رأي ميشيل دوبري رئيس وزراء فرنسا الأسبق فهو «أن بن بلة أشد زعماء الجزائر تطرفاً»، ورأي لوي جوكس وزير الدولة للشؤون الجزائرية «إن اندفاع بن بلة الثوري قد خف وأن اعجابه بفرنسا قد ازداد… رغم سجنه في فرنسا». ولذلك شرقَ باتفاقيات ايفيان، ورفض اتفاقيات مصطفاي- سوزینی، وأصر على الاتجاه الاشتراكي، السبيل الوحيدة لتصفية ركائز الاستعمار الفرنسي وكل استعمار.
«انظر مثلا إلى نظام عبد الناصر: إنه بالرغم من المدة الطويلة التي مرت عليه لم يستطع حتى الآن أن ينطلق انطلاقة سليمة. لماذا؟ لأن العقلية البيروقراطية وروح الوظيفة تحرك المسؤولين. إنني لا أشك في إخلاص عبد الناصر لقضية الشعب، ولكن الثورة هي مسألة جماهير وتعبئة شعب. والشعب لا يمكن أن يُعبأ عن طريق الأوراق والأوامر الصادرة من المكاتب». وهذا ما يقوله بومدين، فيضع بكلمتين يده بإنصاف وبدون رحمة على احدى النقاط القتالة من نظام عبد الناصر. بومدين الذي تصفه مجلة الإيكونوميست البريطانية بأنه عقيد متهور «حاول أن يحبط محادثات ايفيان، وكان يفضل أن يرى الدمار يحل بمدينتي الجزائر ووهران على أن يعقد اتفاقاً مع منظمة الجيش السري». وتُذكرنا هذه الشهادة بشهادة أخرى وردت في بیان الاستاذ الحوراني «أن جميع المواطنين يعلمون أن عبد الناصر قد جن جنونه عندما بدأت مفاوضات السلام بين فرنسا وبين الحكومة الجزائرية المؤقتة. وأراد بواسطة صحفه في القاهرة ولبنان أن يحمل حملة شعواء علنية على هذه المفاوضات ليحبطها..» وتقول مجلة نيوزويك الأمريكية أيضاً «بومدين الطالب السابق في الأزهر، أراد أن يجعل من جيشه البالغ عدد أفراده أربعين ألفا قوة ثورية، أي أن يتدرب ويعمل في الحقول نهاراً، ويُعلم الفلاحين أفكار الثورة ليلا.. بومدين وصف بن خده بأنه الفرنسي في صفوفنا.. وأنه وجماعته باعونا للفرنسيين وخانوا الثورة». كما تقول الأوبزرفر البريطانية: «إن ما يهدف إليه بومدين هو القيام بثورة شاملة أساسها الاصلاح الزراعي، ويكون فيها جيش التحرير القوة الدافعة وتكون الثورة ذاتها أساساً لدولة عربية لا مكان فيها لأقلية أوربية ذات امتيازات واسعة النطاق».
لو وقف الجهاز السياسي السوري عند حد اتهام بن بلة وإخوانه بالناصرية لقلنا: أخطأوا في تقويم هؤلاء القادة الثوريین، ظنوهم كمثلهم فعمموا عليهم التجربة التي عانوها مع عبد الناصر. ولكنهم تجاوزوا الحد حين صوروا أزمة الجزائر على أنها صراع بين الاستعمارين الأمريكي والفرنسي. وكأن قدراً شيطانياً فرض المصائر على البلاد العربية والبلاد المتخلفة بعامة: إنها متعلقة بنتائج الصراع الاستعماري. «والناس.. رأوا بأم أعينهم كيف يحل الاستعمار الأمريكي محل كل استعمار يخرج من كل بلد». والمعنى: ما دام الاستعمار الأمريكي هو الأقوى والأحدث فأولى للشعوب المتخلفة أن تقنع بمساومة الاستعمار القديم، البريطاني أو الفرنسي..
لقد ناقشنا من قبل هذه الفكرة الخاطئة الخطرة المدمرة. ونكتفي الآن ببيان الكفة التي وضعت فيها أمريكا ثقلها في أزمة الجزائر. يضع بومدين في تصريح له الاستعمارين الأمريكي والفرنسي في صف واحد حين يتهم الملايين الفرنسية والأمريكية معاً. ونشرت جريدة الاكسبريس الفرنسية: أن مصلحة المخابرات الأمريكية قد ذهبت إلى مدى بعيد في تأييد الاتجاه المعادي لبن بله… وقد أكدت في تقاريرها انتصار حكومة بن خدة وطلبت دعمه وأصرت على ضرورة محاربة بن بلة.. وتتهم هذه التقارير بن بلة بأنه إن لم يكن شيوعياً فهو سيوثق العلاقات السياسية والاقتصادية بين الجزائر والدول الشرقية..
ويبقي أخيراً ملاحظتان: الأولى أننا، بالنسبة لأحداث نبسان في حلب، لا نتمنى شيئاً بمقدار ما نتمنى كشف كل الأيدي التي لعبت في الخفاء لتوليد هذه الأحداث وكل ما تلاها من أحدات في سورية أيضاً- ولا بد أن يحصل هذا الكشف في يوم على كل حال- وعندئذٍ تتحدد المسؤوليات ويبرز قرن الشيطان الخفي.
والثانية أننا، بالنسبة لأحداث الموصل وكركوك وكل الأحداث الدامية التي عمت العراق بعد 15 تموز، نسأل: من ذا الذي حول معركة الوحدة الشديدة حقاً إلى الإرهاب والعنف والاغتيال والسحل والشنق على الأشجار وأعمدة الكهرباء وقبر الناس أحياء والقتل الجماعي؟ من الذي اكتشف هذه الطرائق الثورية على حد قول الرفيق شوان لاي? أن في تصريحات اللواء عبد الكريم قاسم وبكائه «الحنون» وفي النقد الذاتي الذي نشره الحزب الشيوعي العراقي وفي اختيار الموصل الوحدوية الاتجاه الناجية حتى ذلك الحين من حرب الشوارع وحشد عشرات الألوف ورميهم في شوارعها بحجة مؤتمر للسلم وفي مقال رئيس حزب «البارتي» في سورية المنشور دون أي حذر في إحدى الصحف الدمشقية أن في ذلك بعض الجواب، ولندع جانباً مصادر الأنباء الأخرى. ونُذكر بالمناسبة بتصريح الاستاذ الحوراني بعد تلك الأحداث للصحفي الأمريكي المشهور السوب، وقد جاء فيه: أن الشيوعية أشد خطراً على العرب من الاستعمار. وأما بالنسبة لمعركة الوحدة في العراق ونعتها بأنها صراع بين الاستعمارين الأمريكي والبريطاني، فنُذكر الفريق البزري وكل الآخرين أمثاله بإنزال القوات الأمريكية والبريطانية في لبنان والأردن غداة 14 تموز. إنها لم تنزل بالتأكيد لتقتتل فيما بينها، ولا لتجر العراق إلى الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة، على الرغم من آراء الفريق البزري، ومن رسالته حينذاك إلى اللواء قاسم التي حملها العميد النفوري لتصبح حجة لقاسم على دعاة الوحدة. والمعلومات التي لدينا تؤكد أيضاً أن أمريكا قد عرضت دعمها لكل عملية تطيح باللواء قاسم شريطة أن لا تلحق بها الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة، وحين وجدت هذه الطريق مسدودة فضلت الإبقاء على اللواء قاسم رغم ما يحمله حكمه من انذارات بالشيوعية، أي أن أمريكا وازنت بين الخطرين: خطر الشيوعية وخطر الوحدة العربية فابتلعت الأول حين غصت بالثاني.
(4) وأخيراً تأتي الخاتمة في البيانين على هيئة نصيحة «مخلصة» بوحدة الصف والرجوع إلى النظام الديمقراطي الكفيل بحل كل العقد والمشكلات..
يقول الفريق البزري: وهي (الجزائر) بحاجة إلى وحدة الصف ووحدة جميع القوى الوطنية، سيما منها التي اشتركت في قيادة الثورة الجزائرية من أولها إلى نهايتها.. إلا أن تفرق كلمة قادة الثورة الجزائرية قبل توطد استقلال بلادهم يوقع الجزائر في مهالك تكلفها الكثير من التضحيات الاضافية. ففي هذه الحالة تسهل إقامة ديكتاتورية خائنة يسندها الاستعمار الامريكي، أو إقامة حكومة ممالئة للاستعمار الفرنسي.. أضف إلى هذا، أن تفرق الصف الوطني يفتح الباب على مصراعيه لإيجاد تسويات بين الاستعمارين الأمريكي والفرنسي على حساب شعب الجزائر..»
ويقول الأستاذ الحوراني. «أن عبد الناصر سيجعل من أرض الجزائر مسرحاً للفتنة والاضطرابات وهي أحوج ما تكون إلى الهدوء والسلم ومعالجة مشاكلها الكثيرة الضخمة وأن أي انشقاق بين قادة الجزائر سيفسح المجال للنفوذ الأجنبي أن يلعب دوراً خطيراً للغاية من حيث لا يريد أحد من قادة الجزائر أو يفكر في أن يفسح المجال للنفوذ الأجنبي الذي يحاول عبد الناصر أن يفتحه على مصراعيه.
«.. اننا قد بلينا بالحكم العسكري وجربناه فما جر على بلادنا إلا النكبات، وأن الحل الوحيد لقضية الجزائر هي الديمقراطية، ولا سبيل إلا بالديمقراطية لحل جمع المشكلات التي تعانيها الجزائر الحبيبة».
و لا نريد أن نناقش هنا شعار وحدة الصف أو الوحدة الوطنية الذي ترفعه الرجعية لتجميد نشاط القوى التقدمية ولتُثبت قواعدها وامتيازاتها الخاصة في المجتمع، وترفعه الشيوعية أيضاً انسجاماً مع مفهومها الذي اخنى عليه التطور عن دور البورجوازية الوطني التقدمي في الشعوب المتخلفة وسعياً لإفساح مكان لها بين القوى التي ندعوها وطنية، ولطرح شعاراتها في السياسة الخارجية التي تقتصر عليها، أما في السياسة الداخلية فهي تطلع، وأعينها معلقة بالبورجوازية لتكف غضبها أو تكسب رضاها، وراء الشعارات التي ترفعها الاشتراكية المحلية . ونكتفي بهذا النص ننقله عن الميثاق الذي أقره المجلس الوطني للثورة الجزائرية.
«تزعم البرجوازية، باسم الاتحاد الوطني الذي تستغله بصورة انتهازية، أنها تعمل لصالح الشعب طالبة منه مساندتها، هذا في حين أن نشأتها الحديثة نسبياً وضعفها من حيث أنها طبقة اجتماعية بدون أساس متين وفقدان تقاليد الكفاح الحقيقية عندها تحد من قدرتها على بناء البلاد والدفاع عنها أمام أطماع الاستعمار».
«.. ليس الاتحاد الوطني اتحاداً حول الطبقة البرجوازية، بل هو تأكيد وحدة الشعب على أساس مبادئ الثورة الشعبية، التي تفرض على البرجوازية نفسها أن تخضع لها مصالحها الخاصة».
كما لا نريد أن نناقش الشعار الآخر، شعار الديمقراطية البورجوازية. إن الديمقراطية البرجوازية ضرورية لقضية الثورة في مرحلة ما قبل الثورة الاشتراكية، أما حين تنتصر هذه الثورة تكون قد خلفت وراءها هذه المرحلة، وتصبح كل دعوة للديمقراطية البورجوازية دعوة للرجعة إلى الوراء والتخلي عن قضية الثورة. إن الشيوعية تعتبر ثورتها هي الثورة الاشتراكية الحقة وهي الثورة النهائية، وتُنكر على الثورات الأخرى هذه الصفة فتظل متشبثة بشعار الديمقراطية البورجوازية. ولكن الاشتراكية العربية وأمثالها من الاشتراكيات الثورية في الشعوب المتخلفة تُنكر، ويجب أن تُنكر، على الشيوعيات المحلية صفة الثورية، لأنها مبتوتة الجذور من شعوبها، ملحقة بالسياسة العامة للشيوعية الدولية وسياسة الحرب والسلم والحرب الباردة للكتلة الشرقية. ونكتفي أيضاً ههنا بالنص التالي المأخوذ من ميثاق الثورة الجزائرية:
«.. لا يسوغ للديمقراطية، حسب مفهومنا، أن تنحصر في مفهوم الحريات الفردية، بل يجب أن تكون تعبيراً جماعياً عن المسؤولية الشعبية كلها. إن بناء دولة عصرية على أسس ديمقراطية مناهضة للإمبريالية والاقطاعية لا يكون إلا بمبادرة الشعب نفسه ويقظته ومراقبته المباشرة».
ــــــــــــــــــــــــــــــ
يتبع.. الحلقة الخامسة بعنوان: المرحلة الأولى(3/3).. بقلم الأستاذ “عبد الكريم زهور”