يعتبر “ميشال أونفري” واحد من أبرز المفكرين في فرنسا وهو كاتب وفيلسوف فرنسي معاصر، ولد في كانون الثاني/ يناير عام 1959، وهو من الفلاسفة التي تروج للذة المتعة والإلحاد، والفوضوية، وهو مؤلف غزير الإنتاج في الفلسفة، وقام بكتابة عشرات الكتب، ولقد تأثرت فلسفته بشكل كبير بكل من المفكرين نيتشه، وأبيقوروس، والمدارس الساخرة والسيرينية. ودائماً ما يصف نفسه بأنه “فوضوي المذهب”، وهو فيلسوف يهتم بمجالات متعددة في الفلسفة، ولديه آراء سياسية كثيرة حول مسائل الجغرافيا السياسية.
في هذا الحوار الذي أجراه ”فرانز أوليفييه غيسبيرت” مع (“ميشال أونفري” Michel Onfray)، وترجمه إلى العربية لصالح مجلة «حكمة» ”الحسن علاج”، عرّج فيه ‘أونفري’ على تجربته الطويلة مع نصوص “نيتشه” وفلسفته ونظرياته، رأى أن المرء ينبغي عليه «أن يقتفي أثره الخاص؛ الإنسان الذي أكد في (هكذا تكلم زرادشت) أنه ينبغي على المرء أن يبتكر الحرية- إنه البرنامج الوجودي طيلة حياة بكاملها وهو برنامجي أيضاً- ليس مُعلماً متسلطاً، إنه نموذج كما هو الشأن في الفلسفة القديمة برمتها، حيث لم يكن التفلسف يكمن في الإطناب، أو الثرثرة، أو كتابة كتب فلسفة، بل أن يعيش المرء حياة فلسفية، وأن يعيش حياة ملائمة، متوافقة مع ذاته عينها؛ أشاد نيتشه بفضيلة قلّما يتم الحديث عنها، لدينا معرفة ضئيلة بها، أو تكاد تكون مُنعدمة، علاوة على ذلك صعوبة الاسم، الذي هو الاستقامة، ألا وهو: المصداقية المُرتابة؛ الاجتهاد في عيش حياة نزيهة، ذلك ما أحتفظ به لنفسي منه».. ويلخص ‘أونفري’ رؤيته عن نيتشه بقوله: «يتحدث نيتشه، في بداية كتابه زرادشت، عن تحولات ثلاثة: ينبغي على المرء أن يكون جَملاً لحمل أثقال الماضي، ثم أسداً من أجل التخلص من هذا الماضي، بهدف التحول إلى طفل بمعنى بلوغ (براءة الصيرورة)، التي تسمح بابتكار فلسفة جديدة، إن هذه الجدلية في مراحل ثلاث، بمعنى جدلية هيغلية لا تزال، ولو أنها ما بعد هيغلية، هي جدلية نيتشه ذاته، التي تمنح بطريقة مُشفَرة، كما هو في غالب الأحيان، مفاتيح عمله برمته».
يكتب ‘أونفري’ بوضوح بسرعة البرق، يوجد في رصيده ما يزيد عن مائة كتاب، مع آلاف الكتب تقبع في رأسه؛ هذا هو (ميشال أونفري Michel Onfray)، هرقل الفلسفة، الابن لمزارع ولأم منظفة بيوت من النورماندي .
كما كان يحلو لفلوبير القول: مرحليّ، ضخم هو عمله حيث تفرض نفسها، من بين أشياء أخرى، الأجزاء الاثنا عشر لتاريخ الفلسفة المضاد(1)، رباعيته كوسموس، انحطاط، حكمة بمعية الكتاب المذهل (أنيما Anima)، الذي يحمل عنواناً فرعياً: ”حياة وموت الروح من مغارات لاسكو إلى ما بعد النزعة الإنسانية”(2).
يقول ”المُحاور”: أنا مُعجبٌ إذن فأنا موجود؛ لطالما أنا في حاجة إلى الحب قدر حاجتي إلى التنفس، إنها طريقتي في الحياة، الإعجاب كالحب: إنه يتعزز، كما يلذ لسبينوزا قول ذلك؛ مع مرور الزمن، شرعت في الإعجاب بشخصيات كثيرة تصغرني سناً، أطباء، باحثون، صناع تقليديون، منتجو طماطم، لكن أيضاً أعجبتُ بمؤلفين يوجَدونَ في مجال تخصصي أكثر موهبة مني: (ياسمينا ريزا Yasmina Reza) أو الفيلسوف “ميشال أونفري”.
ولقد تعرفت إلى “ميشال أونفري” ابتداءً من نهاية القرن الأخير، لكني لم ألتقه، في واقع الحال، إلا منذ حوالي خمسة عشر عاماً، بعد رؤيته مراراً وتكراراً في بيته، ببلدة (أرجونتان Argentan) على نهر (اللورن L’Orne)، وببلدية (شامبوا Chambois)، وهي قرية طفولته ، حيث يوجد بها منزل بملكيته، وهناك، وأنا أتابع واحداً من دروسه لاحقاً بالجامعة الشعبية (بكون Caen)، فقد فهمتُ من يكون هو: ليس مجرد متبحر في العلم، وإنما هو إنسان أيضاً، حقيقي، حيث المصداقية تقود الخطى؛ شخص رائع، كما يُقال، ومجمل القول أنه غالباً ما كنا نختلف؛ بخصوص السياسة، الاقتصاد، الليبرالية، أوروبا أو الإيمان على سبيل المثال، على أنه لا بد من الاعتراف كوني كنتُ دائماً تحت تأثيره، مثل أبنائي أو ربائبي، عندما يتحدث عن النورماندي، عالم الأحياء أو الفلسفة، عاملاً على بعث الروح في ديوجينوس، أبيقور، وبشكل خاص، نيتشه العظيم حيث اقتنعت، إنه يعرفه جيداً، حتى في خلواته ، أنه كان في السابق، في ماضٍ بعيد إلى حد ما، واحداً من بين أصدقائه الأقربين.. وقد كان لنا معه الحوار التالي معه:
المجلة: مما لا شك فيه أن كتاب أنيما هو كتاب حياتكم، يمكن اعتباره كتاباً نيتشوياً. لقد قمتم بتقويض التماثيل والأفكار الجاهزة…
ميشال أونفري: لقد أدركتُ في واقع الأمر، أني كنتُ أمتلك جانباً محطِماً للأوثان، بعد أن قمت بتهشيم بعضها، لكن لم يكن ذلك بشكل مقصود وواضح، عند انطلاق تكسير الأواني الفخارية للفلسفة. جاء كتابي الأول تحت عنوان ”أحشاء الفلاسفة”ـ وهو عنوان من اختيار الناشر، أما عنواني فهو ”ديوجينوس آكل لحم البشر”ـ ، فقد كان بكل جلاء تمريناً نيتشوياً. لقد كُتب تحت تأثير مقدمة كتاب “العلم المرح”، وفيه يقول نيتشه بامتلاك المرء فلسفته الشخصية، فغالباً ما تعتبر الفلسفة اعترافاً سير ذاتياً لمؤلفهاً، وأن كل فكر يتشكل مع عجز مؤلفه، خيباته ومعاناته.
كنت أبلغ من العمر 28 سنة، وكنت قد أصبت على التو بنوبة قلبية، جعلتني أفقد على إثرها، عشرة كيلو غرامات، من وزني في شهر واحد؛ زارتني في غرفتي اختصاصية أغذية، كي تُقدم لي دروساً في الطبخ، كي أنقلها إلى ”زوجتي” (رفيقتي لا تطبخ، أنا من كان يطبخ بصفة دائمة)، ثم إن هذا المرض (الوهمي Diafoirus) وعدني بطعامٍ كئيب من أجلِ ما تبقى من حياتي، لو كنت أرغب في البقاء على قيد الحياة! عندما قالت لي أن الزبدة ممنوعة وأنه ينبغي عليّ قضاء ما تبقى لي من عمري، بتناول المارغرين، أصبتُ بسورة غضب، وأخبرتني أن الأمر يتعلق بـ”نفس الشيء”، أجبتها أنه في هذه الحالة، بما أنه ليس ثمة فرق، سوف أستمر في تناول الزبدة! انصرفتْ متذمرة ثم اختفت. إن فكرة كتاب بطن الفلاسفة انبثقت لدي، هناك، من خلال ارتباط بين نيتشه، وأخصائية تغذية، بالمركز الاستشفائي الجامعي لمدينة كون.
لقد كان الكتاب بمثابة رد من راعٍ إلى راعية. فبمعية هذا العنوان الجديد وطبيعة صامتة على الغلاف، ثمة أكثر من سؤال للاحتفاء بالنتشوية، والإلحاد، والمادية و(الحسوية sensualisme) (والمُتعية hédonisme) في الفلسفة. لقد تحول العمل إلى كتاب شاطئ، حيث يتم نسيان أنه في عام 1989 قام بتدنيس الفلسفة، بهدف إخراجها من الغامض، المُمل، والكئيب، الذي يتم وصله عادة بالنوع الذي كان مهيمنا في تلك الحقبة. لا يُلاحظ المرء لا دعابة ولا موعظة…
ثمة، فيما بعد، مناسبات أخرى لدغدغة الأصنام: اليهودية، المسيحية، والإسلام في كتاب نفي اللاهوت، فرويد في كتاب أفول صنم، وهيمنة الفلسفة الغربية في الأجزاء الاثني عشر لتاريخ مضاد للفلسفة، وعلم التربية مع كراس مضاد للفلسفة، من دون الأخذ بعين الاعتبار الكراسات المضادة، والتواريخ المضادة التي ظهرت بالمكتبة منذ ذلك الحين…
المجلة: ما نوع العلاقة التي تقيمونها مع نيتشه؟ ألا يعتبر صديقاً يرافقكم في كل مكان، والذي يتلصص عليكم وأنتم تكتبون؟
ميشال أونفري: لقد ذهبتُ مراراً وتكراراً إلى “سلس ماريا”، في “أونغادينا العليا”، حيث كان يقضي الصيف، وحيث أتاه إلهام بالعود الأبدي. ولازلت أحتفظ بحجرة من تلك الحقبة، في محفظة عتيقة، كنت قد حملتها من أحد الأزقة التي كان يتمشى فيها، على حافة الفراغ، أشبه بأعمى. وأثناء تلك الزيارة الأولى، قمت باقتناء صورة له، بيعت في متحف المنزل، الذي خُصص له. قمت بوضع إطار لها منذ عودتي إلى أرجونتان: لم تغادر صورته الشخصية مكتبي. وفي هذه الساعة، فهو هنا، ورائي، مثل عبقري وصيّ. وهو، علاوة على ذلك، نابغة وصيّ، كمثل شخص يكتب بأن معلما جيدا هو من يعلمنا أن نتخلص منه!
وقال أيضاً ، أنه لاقتفاء أثره، ينبغي على المرء أن يقتفي أثره الخاص. الإنسان الذي أكد في هكذا تكلم زرادشت أنه ينبغي ”على المرء أن يبتكر الحرية”ـ إنه البرنامج الوجودي طيلة حياة بكاملها، وهو برنامجي أيضاًـ ليس مُعلماً متسلطاً، إنه نموذج كما هو الشأن في الفلسفة القديمة برمتها، حيث لم يكن التفلسف يكمن في الإطناب، أو الثرثرة، أو كتابة كتب فلسفة، بل أن يعيش المرء حياة فلسفية، أن يعيش حياة ملائمة، متوافقة مع ذاته عينها. أشاد نيتشه بفضيلة قلّما يتم الحديث عنها، لدينا معرفة ضئيلة بها، أو تكاد تكون منعدمة، علاوة على ذلك صعوبة الاسم، الذي هو الاستقامة، ألا وهو: المصداقية المُرتابة. الاجتهاد في عيش حياة نزيهة، ذلك ما أحتفظ به لنفسي منه.
المجلة: هل تفكرون في نيتشه أثناء تواجدكم في بيئة طبيعية، في بلدتكم شامبوا، وأنتم تنظرون إلى شفرة العشب التي تستمع إلى نزوعها الخلاق وهو يطلب منها أن تنمو بهدف البحث عن الشمس؟
ميشال أونفري: لا أفكر فيه على وجه التحديد، على أنني لن أنظر إلى طبيعة شامبوا بشكل مماثل، ما لم أقم بقراءته! لقد عشت طفولة في الطبيعة، على إيقاع الطبيعة، مع الدروس التي يهبها النهر، الذي يعبر القرية، المغسل، الفصول وتكرارها، الأعمال في الحقول مع والدي. إن تعرّف الحقول، كنت على وشك القول، كتابيا، هو تجربة وجودية أساسية، من أجل صناعة فيلسوف ما! يعتبر الربيع لحظة صاخبة، خلابة، مذهلة وغامضة.
يوجد في السنة ثمة لحظة حيث عندما أغادر مكتبي كي أجدني في الهواء الطلق، ثمة نسمة هواء تعلمني أن ما يصنع الربيع هو هنا: نوع من إرادة القوة الخالصة، التي تصنع لنفسها نسيجا ومتعة للهواء، متعة في الهواء. إنها قوة النور أيضاً، وربما ضغط للهواء، شيءٌ ما يدرك بقايا الحيوان بداخلي، والذي يخبرني بأن فصل الحياة يعقب فصل سبات الطبيعة. يرتفع النسغ، سوف يَهبُ براعم، ثم أوراقاً، وثماراً، إلخ. والحيوانات التي خضعت لبيات شتوي، سوف تخرج من مخابئها، سوف تتوهج زقزقة العصافير مثل أول صباح من صباحات العالم، ويبدو أن كل شيء في اهتزاز الآن، ومن البديهي، مثلي، أنا الذي خُلقت من ذات النسيج من كل هذا، أعني إرادة القوة، أعرف أيضاً تلك المُتعية البدائية، الأولية، الوثنية.
المجلة: أي نوع من الرجال كان نيتشه؟ هل تلاحظون أنه ثمة سمات مشتركة بينكم وبينه؟ تحبون مثله الشجار الفلسفي…
ميشال أونفري: ثمة مجلد قديم، يعتبر بالنسبة لي أهم من سير نيتشه الشخصية، من ستيفان زويغ (Stefan Zweig) إلى كورت بول جونز (Curt – Paul Janz) مروراً بدانيال هاليفي (Daniel halévy)، إنه كتاب نيتشه أمام معاصريه (1959)، فهو يقدم نيتشه بوصفه شخصية دمثة، رقيقة، خدومة، حساسة، متأنقة، مع أناقة أخلاقية بعدم إزعاج الغير بأوجاعه، معاناته، أحزانه وآلامه.
تبعث قراءة مراسلاته على القلق كونه كان يعاني كثيراً! إنه مِرْجَفة زلازل لكل ما يحدث: إن الاستماع لموسيقى بحي من أحياء البندقية، عندما يكون في بيت صديقه بيتر غاست (Peter gast)، يجعله يهجع إلى النوم مدة ثلاثة أيام، متسبباً له في آلام الشقيقة المرعبة، استياء يجعله يتقيأ، ثم الدخول في أوجاع مجهولة، قد يظل حبيساً في الظلام طيلة جزء من الأسبوع، بينما ينخره داء الزهري، إلى حد كبير يوماً بعد يوم. إنه دائماً يوجد بين محطتين، يبحث عن الرطوبة الجيدة، الشمس الساطعة، الضوء الجيد. يتوق لزيارة كورسيكا، اليابان، لا يشعر أبداً بالطمأنينة في مكان تواجده… فقد يحدث له أن يهبط إلى محطة في الصباح، ثم يستقل القطار في نهاية اليوم، لأن المكان لا يلائمه ذهنياً، نفسانياً ولا فيزيولوجياً.
إلا أن نيتشه يوجد بتمامه وكماله في هذه القصة: ففي مقهى تورينو، حيث سوف يقرأ يومياً جريدة المناظرات (Journal des débats)، ثمة جرو يحمل ساقه بالمدخل وهو ينزف. جثى نيتشه أرضاً ثم أخرج منديلاً مُضمِداً جرحه. وبعد ذلك بوقت قصير، ذات الجرو، يركض نحوه، وهو ينبح، حاملاً في شدقه المنديل، الذي تم غسله ولفه من طرف صاحب الحيوان. إنه نفس الإنسان الذي كتب صفحات مرعبة ضد الشفقة، فضيلة الضعفاء… وإلى امرأة أخرى سألته عن مهنته، أثناء تناول وجبة إفطار، في نُزل سلس ماريا، فقد أجابها بأنه يكتب، لكنه التمس منها بعدم الذهاب لرؤية شيء، قائلاً بأنها سوف تصاب بالذعر بواسطة أحاديثه. ففي جبال أونغادينا (Engadine) حيث كان يسير بدون توقف، اعتاد أن يبلل منديلاً في القرية من أجل تنظيف أنف طفل مريض، كان يصادفه في ضيعة المراعي الجبلية. إن هذا الإنسان الذي أشعل فتيل النار في العالم، يعتبرُ إنساناً دمثاً…
علاوة على ذلك، فهو يحب الحقيقة أكثر من حبه للشجار. فلو جاز لي أن أقارن، بما أنكم طلبتم مني ذلك، فإني أفكر بطريقة مماثلة: فإذا كان ثمن الحقيقة هو التحطيم، فليكن التحطيم! إلا أن هذا ليس حباً في الشجار الذي يعتبر جزءاً من الأضرار الجانبية!
المجلة: لم تكونوا في حالة سلم مع الكنيسة أبداً. ونيتشه أيضاً…
ميشال أونفري: فقد اقترح في كتاب “نقيض المسيح”، تدمير الفاتيكان واستعمال أنقاضه لتربية الثعابين.
فهو لم يكن يخلو من التعاطف تُجاه المسيح، لكنه لا يحب القديس بولس الذي- فقد كان يهودياً مضطهِداً للمسيحيين الأوائل- تحولَ هو نفسه إلى مسيحي، بعد اهتدائه على طريق دمشق. فعندما ينتقد اليهود، فغالباً ما يكون بولس هو المستهدف- بولس الذي يكره الرغبات، الأهواء، النزوات، الأجساد، النساء، الجنسانية، اللذة-، وليس اليهود الذين كان يصادفهم في أزقة روكين (Rocken)، وهي المدينة التي وُلد بها!
خلافاً لذلك، فهو يَعتَبر أن هؤلاء اليهود موهوبون للغاية، والذي ينبغي عليهم أن يقيموا قِراناً مختلطا مع الألمان! لقد قام نيتشه بالتمييز جيداً بين مسيحية يسوع ومسيحية بولس، بأكثر من وجهة نظر واحدة، في تناقض مع التعليم الغاليلي، عبر مثاله الزهدي وحماسته في الاهتداء بالسيف! لقد اعتبر نيتشه أنه لم يوجد سوى مسيحي واحد وقد مات على خشبة الصليب.
المجلة: أعلن نيتشه عن موت الله والإنسان على أن الأمر كان يتعلق، كما كتبتم في كتاب “أنيما” بإله وإنسان محددين، خاصين بنا، إله وإنسان حضارتنا اليهودية المسيحية…
ميشال أونفري: لا بد، بادئ ذي بدء، من توضيح الأمور أن هذا الإعلان وُجد في السابق لدى “هيغل” عام 1802 في كتاب إيمان ومعرفة. الصيغة الصحيحة هي كالتالي: ”الإله نفسه قد مات”. وقد قام باستعادة هذه الفكرة في دروسه بمدينة يينا (Iéna) سنة 1805ـ 1806. وبالنسبة إليه، فإن موت المسيح، هو أيضاً، في نفس الوقت، موت الله الذي يدخل في منطق التجسيد. يسوغ موت الله ولادة الروح المطلق في كتاب “فينومينولوجيا الروح” كما جاء ذلك في “الأوديسة”.
لقد أدرج نيتشه إعلانه، ضمن وجهة نظر ما بعد هيغلية، لكنها أيضاً وجهة نظر هيغلية مضادة. ذلك لأن موت الله لم يقترن لديه، باعتبارات حول الروح المطلق، بل حول ظهور إرادة القوة، التي أخذت مكانة الله، المكانة برمتها- التي لن تترك له، على الأقل، أي مكانة أخرى، مثل مكانة أن تصير إرادة قوة، من أجل الاستمرار في الحياة. على أن نيتشه يعتبر أن ”إرادة القوة” كافية، وأننا لسنا في حاجة إلى إلباسها لبوساً إلهياً، وأن نضفي عليها صفة الألوهية. لاوجود عنده لأي تغير سبينوزي لنوع (Deus sive natura)- الله والطبيعة.
وبالنسبة لموت الإنسان، فقد تم الإعلان عنه في كتاب هكذا تكلم زرادشت: أي إنسان مات ولماذا؟ إنه إنسان اليهودية المسيحية، بمعنى الإنسان الثنائي مع جسد خطّاء، وروح لامادية، خالدة، منذورة لحياة بعد الموت الجهنمي أو الفردوسي، حسب استحقاقاتها المكتسبة، أولاً، في الحياة الدنيا. وهو، إضافة إلى ذلك، إنسان المثال الزهدي، الذي لُقِّن قيم مذهب القديس بولس، الذي يعتبر بغضاً للذات ولرغبتها الجنسية، حياتها، جنسانيتها، كراهية النساء والجسد. إن “الإنسان الأخير”، الذي يفترض من بعده موت الإنسان، يحيا حياةً عدمية.
هذا هو الإنسان الذي أعلن عنه نيتشه، والذي سيترك مكانه للإنسان الأعلى الذي، يعود بصورة أبدية، بنفس الشكل، في عدد لانهائي من المرات، بعد أن يكون قد عاد سابقاً، بصورة أبدية، في عدد لامحدود من المرات، بنفس الصيغ؛ وهو يعرف أيضاً أنه ينبغي محبة هذه الحقيقة الأنطولوجية للعود الأبدي، إنه معنى الحب القدري (أحِبّ مصيرك)، لأنه الطريقة الوحيدة لـ”ابتكار الحرية ” في حين أننا لا نتوفر على إرادة حرة؛ والذي يعرف، في آخر المطاف، أن القبول بالعود الأبدي يخلق المرح. يتعلق موت الإنسان بنهاية العدمي الراكس، وهو يجعل في نفس الوقت ولادة الإنسان الأعلى الفعال ممكنة.
المجلة: بما أنكم تُعتبرون في الوقت الراهن واحداً من أفضل مفكرينا أو مدرسينا، هل بإمكانكم أن توجزوا لنا فكر نيتشه في بضعة جمل للمبتدئين مثلي؟
ميشال أونفري: يتحدث نيتشه، في بداية كتابه زرادشت، عن تحولاتٍ ثلاثة: ينبغي على المرء أن يكون جَملاً، لحمل أثقال الماضي، ثم أسداً، من أجل التخلص من هذا الماضي، بهدف التحول إلى طفل بمعنى بلوغ ”براءة الصيرورة ”، التي تسمح بابتكار فلسفة جديدة. إن هذه الجدلية في مراحل ثلاث، بمعنى جدلية هيغلية لاتزال، ولو أنها ما بعد هيغلية، هي جدلية نيتشه ذاته، التي تمنح بطريقة مُشفَّرة، كما هو في غالب الأحيان، مفاتيح عمله برمته.
ويعتبر زمن الجَملْ لديه، هو زمن قارئ شوبنهاور، حيث يضع كتاب العالم كإرادة وتمثل، رهن إشارته وجهات نظر فلسفية جديدة: حيوية أحادية، هي حيوية الإرادة، (wille)، التي تجعل الثنائية القديمة اليهودية المسيحية متجاوزة، والتي تقدم تفسيراً لحيوية لما يوجد، هذه الإرادة الشهيرة، التي هي ليست إرادة علماء النفس، قوة الاختيار، الإرادة، بل قوة تجعل من كينونة الكائن ممكنة؛ فلسفة تراجيدية يتقاسم السأم والمعاناة، بمقتضاها، حياة كل إنسان، لكنها تؤكد في نفس الوقت التأمل الجمالي بشكل عام، والموسيقي بشكل خاص، تسمح بتأمل حتمية السلبية. وهو أيضاً الزمن الفاغناري حيث التقى الكاتب المسرحي، ويعتبر أنه بإمكانه العمل معه كي يجعل من الأوبرا، مناسبة لإضفاء الجمالية على السياسة، انطلاقاً من الأساطير، كما فعل الإغريق مع مسرحهم. إنه زمن ولادة التراجيديا.
يعتبر زمن الأسد للتخلص من الماضي، زمناً أبيقورياً. لقد واصل الصداقة المحطمة مع المؤلف الموسيقي الألماني، الذي لم يجعل من مدينة بايرويت مختبراً، لبناء سياسة انطلاقاً من الموسيقى الألمانية، التي تخصص لتعزيز دينامية أوربية، بل مكاناً مكرساً لشخصه، مع الطبقة الأكثر ثراء، والتي مولت مشروعه. إنه زمن كتاب المعرفة المرحة، الصداقة الأبيقورية، متأثراً بالفكر الفرنسي، فولتير والأخلاقيين الفرنسيين. زمن تم اقتسامه مع لو سالومي وبول ري (Paul Rée) الحريص على تشييد طائفة فلسفية ملموسة سوف تثبت فشلها.
يعتبر زمن الطفل هو زمن الفلسفة النيتشوية الحقة: إنه زمن إرادة القوة، العود الأبدي، الإنسان الأعلى، محبة القدر كـ“إيثيقا” إنسان جديد، وقد تخلص من الجِمال والأسود! إنه بالتأكيد زمن كتاب هكذا تكلم زرادشت، قصيدة عظيمة ومذهلة، يقدمه مثل ”إنجيل خامس”.
المجلة: لقد قمتم بالكثير لصالح نيتشه، مذكرين بانتظام بأن أخته اختلقت الأراجيف إرضاءً للسلطات العليا للحزب النازي، الذي انضوت تحت لوائه. لم تعثروا في كتبه على أيٍ من آثار النزعة المعادية للسامية أبداً…
ميشال أونفري: حتى أنني وجدت آثاراً مناصرة لليهود! لقد تم خلط، والبعض يخلطون دائماً، النزعة النظرية المعادية لليهود لنيتشه، ومعاداة السامية، التي هي الكراهية العميقة لليهود، على هذا الأساس. في أغلب الأحيان، عندما كان نيتشه يتكلم عن اليهودية، فإنه كان يتحدث عن اليهودية المسيحية، بمعنى فكر شاول (Saul)، اليهودي المتحول، الذي أصبح يحمل اسم القديس بولس، مؤلف الرسائل (Epitres) كما هو معروف. فهو لم يكن يرغب في أن تجعل هذه اليهودية الناس متخاصمين مع العالم، عاملة على الإعلاء من شأن المثال الزهدي، ومعترضة على حياة مرحة، مبتكرة عالماً ماورائياً منفِّراً، ممجدة لقيم العدمية مثل الشفقة، محبة القريب، الصفح عن الإساءة، محاكاة آلام المسيح، الانفعال الألمي (doloriste).
ومع ذلك، فلطالما أبان في حياته عن تأييد حقيقي لليهود: فقد تخلى عن ناشره الأول، الذي قام بنشر نصوص معادية للسامية لفاغنر؛ فقد كتب أنه ينبغي ”إعدام المعادين للسامية”؛ عاملاً على تعظيم العبقرية اليهودية والألمانية في آن واحد، إلى درجة معتبراً أنه ينبغي الاشتغال على تنوع العرقين، عبارتا العصر!؛ كان يكره صهره، برنار فورستر (Bernard Forster)، زوج أخته، معادِ حقيقي للسامية، ابتكر مستوطنة آرية بالبراغواي قبل أن ينتحر هناك!
وبالفعل فإن أخته المعادية للسامية، سيئة السمعة، هي التي قامت، بعد جنون وموت شقيقها، بتشويه نصوصه، عاملةً على نسخ رسائله مع تنقيحها، مهذبة عمله، من أجل التلاعب بالالتباس بين النزعة المناهضة لليهود، ومعاداة السامية قبل أن تبالغ في التزلف إلى موسوليني، فهتلر، كي تقنعهما بأن أخيها، كان سيدعم الفاشية والاشتراكية الوطنية! دعونا نوضح، بالمناسبة، أن هتلر كان يكره نيتشه، معتبراً إياه شاعراً حماسياً، مقراً بتفضيله لشوبنهاور وفيخته- وهما يعتبران بكل صراحة معاديين للسامية-!
المجلة: لكنه كان معادياً جداً للمسيحية وقد كان هذا يؤسف أمه…
ميشال أونفري: معاد للمسيحية، هذا صحيح. ذلك دأبه. ابن وحفيد قس لوثري، وهو نفسه كان مهيأ، من قبل أمه، لنفس المهنة، طالب بعلم اللاهوت منذ سنة، لما كان في العشرين من عمره، كان يؤمن لمدة زمنية معينة. وكتابات الشباب شاهدة على ذلك. يُجهَل تماماً متى فقد إيمانه. بإمكان المرء تصور أنه كان مؤمناً بالله لما انخرط في كلية اللاهوت، وذلك هو الحد الأدنى المطلوب، ويُحتمل فقدانه للإيمان هذه السنة بالذات، لكونه سيتوجه في السنة الموالية، نحو الفيلولوجيا، دون أن يمر بمرحلة الفلسفة. لم يَحكِ عن تجربة فقدان الإيمان في أي مكان. من المعروف أنه كان يرغب في أن يكون مؤلفاً موسيقياً، وأن أمه هي من أجبرته على متابعة دراساته، كي يصبح قساً، موضحة له أنه يستطيع ممارسة الموسيقى ويرأس حفلاً مقدساً بمعبدٍ ما. لم تفهم أن ابنها كان يصبو إلى أن يصبح مؤلفاً موسيقياً مثل ليزت (Liszt) وابراهمس (Brahms) وفاغنر، معاصريه، وليس العزف على الأرغن بين وظيفتين…
المجلة: ”بدون لذة، قال نيتشه، تنعدم الحياة، إن صراعاً من أجل اللذة هو صراع من أجل الحياة”، لماذا كان رسول مذهب المتعة، تبعاً لتعبيركم، غاية في التعاسة؟
ميشال أونفري: ربما لأنه كان يصبو إلى ما لم يكن يملكه، أو لم يكن موجوداً البتة! لقد أكد في مقدمة كتاب المعرفة المرحة، لقد قلتُ ذلك سابقاً، أننا نتفلسف بمعية الأشياء التي نفتقدها! لقد قضى نيتشه حياته تحت وطأة المعاناة، تعتبر حياته، لو جاز لي قول ذلك، درب صليب حقيقياً. لقد عانى، فعلاً، عدداً لا يصدق من الأمراض، التي يحتمل جداً أنها نجمت عن عدوى داء الزهري، بشكل مبكر، أثناء المرحلة الثانوية، داخل مبغى. سوف يتطور هذا المرض وصولاً إلى مرض عصبي، مصيباً النخاع الشوكي، المرحلة الثالثة من المرض، قبل أن يُفضي إلى جنون يستمر عشرات السنين. مراسلاته تبرز مرضه باستمرار: أمراض الشقيقة التي تدوم أياما عديدة، هربس (herpès) تناسلي جسيم، التهابات خطيرة تصيب العينين، إلخ. من ثم فقد كان يتناول الأدوية التي لا ينبغي عليها أن تساعد على تشويه الأمور. وبالفعل فقد كان يعالج مرضه الجنسي بالزئبق. كذلك فقد كان يتناول مستحضرات سامة. مضيفين إلى ذلك مجالاً نفسياً طفلياً وراشداً تراجيدياً: موت الأب بعد معضلة من طبيعة دماغية، وموت أخ عندما رآه في المنام، قبل يوم من خروج والده المتوفى من قبره، ساعياً وراءه، من أجل اصطحابه معه إلى العدم، وسيط تربوي مكون من نساء، وضمنهن أخت حقودة.
يتفلسف نيتشه بغية الشفاء من كل هذا. فكره وجودي، فلسفته خاصة، فلسفة زمن الطفل، أقيمت من أجل العثور على طمأنينة الكائن في الفرح، الذي لا ينفصل عن نظرية بسيطة: أحبّ ما لا تستطيع فعل أي شيء حُياله، [نظرية] محبة القدر الشهيرة، التي هي محبة المرء لقدره.
تبتكر هذه النظرية النزر القليل، فهي تعيد تشكيل وصياغة تقنيات وجودية للحكمة القديمة: إن نظرية العود الأبدي تعتبر شائعة، لدى معظم المفكرين الإغريق، نظرية القبول بما لا يمكن أن يكون متبوعا بالفرح، هي نظرية رواقية وأبيقورية. إن الفلسفة كفن للعيش، العيش الكريم، إذن مثل تقنية مُتعية، أنتم على حق باستعمال العبارة، إنها ثابتة من ثوابت الحكم العتيقة.
يتفلسف نيتشه كي يتعايش مع معاناته: إن كونه تعيساً، هو ما يجعله يرغب في أن يكون مُتعياً وحيوياً! سوف يبطل الجنون جزءاً من معاناته، التي تبدو في بداءة الأمر، معاناة نفسية: لن تشير أمه وأخته اللتان تعتنيان بصحته، إلى أنه كان يعاني من أمراض محددة، قرابة السنوات العشر، التي قضاها خائر القوى. إن الجنون الذي اعتُبر ذروة مرضه، بداً أنه ألغى كل الأمراض الأخرى.
المجلة: في الجزء السابع من كتابكم تاريخ مضاد للفلسفة، يعتبر الجزء الذي كُرّس لنيتشه غنائيا مفعما بالتعاطف. هل لا يزال فلاسفة آخرون في مجمعكم أو أنه قام باغتيالهم؟
ميشال أونفري: بدون شك ثمة بقية منهم! سيكون من التعصب والمجازفة أن يصبح الإنسان ذو كتاب واحد أو فيلسوف واحد! إن كتاباً واحداً يفضي إلى الرغبة في التخلص من الكتب الأخرى. ففي مجمعي يوجد ديموقريطس، أبيقور، لوكريتيوس، مونتاني، إتيان دو لابويسيه (Etienne de La Boétie)، جان مسلييه (Jean Meslier)، فولتير، برودون (Proudhon)، كامو… وإذا لم يقل شيئاً بخصوص لابويسيه، مسليه، برودون وطبعا، ألبير كامو، فقد اعتبر أن المؤلفين الذين أخوض الحديث بخصوصهم، كانوا مهمين للغاية. ثمة ما يربو عن ثلاثين ألف كتاب في مكتبتي بمدينة كون، ويحتل نيتشه ستة أمتار من الرفوف، والبقية لا تعود له بطبيعة الحال !
يتضمن عملي “التاريخ المضاد للفلسفة” اثني عشر جزءاً، إنه مليء بالفلاسفة، الذين قمت بالثناء عليهم، يفوق عددهم الثلاثين فيلسوفاً: أبديريون (abdéritains)، ذريون، عرفانيون إباحيون، وإخوة وأخوات العقل الحر، مسيحيون مُتعيون من عصر النهضة، زنادقة متبحرون في العلم، غلاة الأنوار، ملحدون، اشتراكيون، محللون نفسانيون ليسوا فرويديين، إنسانيون مناوئون للبنيوية، أخلاقيون يهود. كل هؤلاء يرافقونني أيضاً!
المجلة: ”لو أنت شئت معرفة من هو الفيلسوف الجيد، كتب نيتشه، قم بدمجهم كلهم معا. الجيد هو من يضحك”. إذا كانت السخرية والاستهزاء قوتين أساسيتين، فلأنه، قبل كل شيء، يعتبر محطماً للأيقونات، أليس كذلك؟ أم أن الضحك لم يكن، بالدرجة الأولى، فلسفياً، مثلما قال سقراط؟
ميشال أونفري: ثمة فكرة مألوفة لفن التصوير، تُعارض ديموقريطس، الذي يضحك على هراقليطس الذي يبكي. الأول، فيلسوف مادي، يختزل كل شيء في رقصة للذرات، هو متيقن أنه من العبث، أن يستاء المرء، من التقدم البئيس للعالم، وأنه، تبعاً للتعبير المكرس، يستحسن الضحك على ذلك! الثاني، مفكر الزمن الذي يمر، الحركة، النهر الذي، واحسرتاه، لا نسبح فيه مرتين أبداً، يبكي، لكون أن الخلود لن يكون من نصيبه، بل التبدد!
فلو قمنا بتاريخ للفلسفة مشكل تماماً من الفلاسفة الضاحكين، سوف يكون بحوزتنا مجموعة رائعة، ستقود من ديموقريطس إلى كليمون روسيه (Clément Rosset)، وهو نيتشوي عظيم في القرن العشرين، مروراً بطبيعة الحال بسقراط، ديوجين، مونتاني، فولتير، ديدرو، لاميتري (La Mettrie)، ونيتشه! وأضيف إليهم رابليه، حيث عملت الفلسفة على ازدراء الفكر لأسباب واهية. وفي المقابل، فإن أفلاطون، القديس أوغسطين، روسو، هيغل، سارتر، فرويد لا يضحكون، ثم إن ما فعله فكرهم في التاريخ، أو التأثيرات التي أحدثها فكرهم في التاريخ، لم تكن مرحة، إذا جاز لي استعمال هذا التلطيف!
لم يكن برغسون فكها أيضاً، وهو يحلل الضحك، ولا فرويد في كتابه النكتة وعلاقاتها باللاوعي، إلا أن كليمون روسيه، فقد كان كذلك عاملاً على إنعاش الضحك، بشكل ملموس، في جميع كتبه وبخاصة، تحت اسم مستعار لروجيه كريمان (Roger Crémant)، في كتاب الصباحات البنيوية، مسرحية هزلية ساخرة ضد الموضة البنيوية لحي سان جيرمان دي بري.
وبالفعل، فإن الضحك هو إيقاف سخرية العالم، وإيقاف أولئك الذين يجسدونه. كذلك فإن الابتسامة، التي يتم الحديث عنها، أقل بكثير، إلا أنه يتبين أنها أكثر فعالية. إنها تمتلك، بالفعل، القوة على الضحك من دون وقاحته، نجاعته، من دون الجرح الذي يلحقه بها.
المجلة: قلتم أنه حتى هكذا تكلم زرادشت يعتبر كتابَ دُعابة. ألم يكن نيتشه جاداً أبداً؟
ميشال أونفري: طبعا، بصفة دائمة، بما في ذلك الضحك… يعتبر زرادشت كتاب الفيلسوف الأكثر تعقيداً، وهو يبدو، لسوء الحظ، من خلال شكله الشعري، أسهل على الفهم، الشيء الذي يترتب عليه سوء الفهم. لقد قرأت نيتشه، مرة واحدة، وليس بكامله، بشكل غير منتظم، وقرأته مرة ثانية، كاملاً، وفق تسلسل زمني، من أجل أطروحتي، ومرة ثالثة، أيضاً كاملاً، وفق تسلسل زمني، من أجل دروسي بالجامعة الشعبية بمدينة كون.
بمقتضى الأزمنة النيتشوية الثلاثة، الجمل، الأسد، الطفل، لكن أيضاً، في إطار سياق سيرته، التي يتم تجاهلها في أغلب الأحيان، فإن الطريقة الفضلى للتصرف، تكمن في قراءة كل شيء، طبقا لتسلسل زمني، مراسلات وسير حياة مضمنة في النهاية. فبعد القيام بهذا العمل الجبار يتم الشروع في إعادة تنظيم، ما يبدو للوهلة الأولى فوضى، يتم الاعتقاد فيها بفحص التناقضات. ليس ثمة تناقضات لدى الفيلسوف، إلا بالنسبة لأولئك الذين اكتفوا بقراءة ثلاثة من كتبه…
إن هكذا تكلم زرادشت هو كتاب تركيب تتسرب إليه السيرة الشخصية بطريقة مشفرة. لقد تم تأليف العمل مثل معارضة للأناجيل، الشيء الذي يفترض وجود طبقة هزلية، ساخرة، مُضحكة. ثمة مثال على تداخل حياة نيتشه بنص القصيدة. فقد كتب في وقت من الأوقات: ”لا تذهب إلى المرأة إلا والسوط معك”. اعتراف بكراهية النساء، متحيز جنسانياً ومتعصب لهيمنة الذكور (phallocrate)، يقول القارئ المعاصر المخمور. ومما لا شك فيه، أن هذه الجملة تحيل أيضاً، على صورة تظهر الفيلسوف وبول ري، مربوطين إلى عربة حيث تحمل لوسالومي سوطاً، توجد في نهايته أزهار الليلك، دلالة على الحب الوليد. في تلك الفترة، اعتبر كل من نيتشه وري عشيقين للو سالومي في السر. ويطمح الفيلسوف بالنسبة للثلاثة، إلى مشروع حياة مشاعية، متواضعة، مع بستان خضروات، يسمح بحياة فيها اكتفاء ذاتي، في مزرعة. طلب نيتشه من ري، الذي يعتبر هو أيضاً، عشيقا لسالومي، بأن يصرح لها عن حب نيتشه نيابة عنه! إلا أنها لا ترغب لا في هذا ولا في ذاك.
ذات يوم، كان نيتشه ولو سالومي على متن قارب صغير في وسط البحيرة، وبقي ري على شاطئ البحيرة. قال نيتشه أنه كان ثمة قبلة، بينما تقوم لو سالومي بتكذيب ذلك. استياءً. يكتب نيتشه أشياء رهيبة، محقرة، ضد هذا وذاك. عن السوط الذي يتم العثور عليه أيضاً في القصيدة، وكذلك في صورة، لا بد من وضع ذلك في سياقه الخاص. الشيء الذي لا يحول دون البعد الكاره للنساء، بطبيعة الحال… وهكذا يكون بالإمكان مضاعفة الأمثلة: قصيدة جزيرة الموتى وقصيدة جزيرة سان ميشال بالبندقية، ”بنات الصحراء” هن البغايا اللواتي يدين لهن بإصابته بمرض الزهري في عز شبابه بمبغى بلايبزيغ، إلخ.
علاوة على ذلك، الأسلوب الغنائي والشعري، الذي يحاكي أسلوب الأناجيل، محاكاة ساخرة، أو النصوص الدينية، يزخر بالتكرارات، أيضاً ”هكذا تكلم زرادشت ” ذائع الصيت، والذي يكاد يقدم خلاصة لكل فصل. ومن البديهي أن، ثمة معارضة أيضاً: هي معارضة الأفكار المهيمنة لأوبرا فاغنر. ومثل ذلك مع السجوع الموسيقية في النص الألماني للقصيدة التي يستهدفها المؤلف هي الأخرى.
إن تلك القصيدة العظيمة، هي في واقع الأمر، فرضيتي، أوبرا بدون موسيقى تصدر عن عودة المكبوت لديه: لطالما رغب في أن يكون مؤلفاً موسيقياً، إلا أن أمه منعته من ذلك، فقد سخر كل من براهمس وفاغنر من الأعمال التي عرضها عليهما، نفس الشيء مع هانز فون بولوف (Hans von Bulow)، الذي ابتكر أعمال مؤلف الرباعية (Tétralogie) والذي كان، فضلاً عن ذلك، الزوج الأول للفتاة ليست (Liszt)، كوزيما (Cosima)، التي سيرتبط بها فاغنر، والتي كان نيتشه يُكنُ لها حباً سرياً. يعتبر زرادشت أوبرا، حيث يُقرأ النص بصوت عال، بالكاد يمكنه تأليف نمط غنائي (Sprechgesang) قبل الأوان!
معارضة الأناجيل، معارضة النزعة الفاغنارية، معارضة سيرية، لو شاء المرء قول ذلك، إن النص مشفر بطريقة رهيبة. لابد من أن نضيف إلى هذا الترميز، اختيار شكل شعري يفسح المجال لعبقرية القارئ، حيث الحصافة تصنع النص. قبل مارسيل دوشامب (Marcel Duchamp)، فإن قانون الرائي هنا، هو من يبتكر اللوحة… إن معناها ليس واضحاً بشكل مباشر. وحينما نكتب مثل شاعر رمزي وليس مثل فيلسوف ألماني، فإنه ثمة خطر كبير في سوء الفهم التأويلي.
المجلة: هل كان يضحك من الإنسان الأعلى أيضا؟
ميشال أونفري: لا يضحك نيتشه عما يؤمن به! إنها، علاوة على ذلك، ميزة المفكرين الضاحكين والمؤمنين. وهو أيضا منطقتهم العمياء! لأن ديموقريطس يضحك على هيراقليطس، وليس على نفسه، ديوجين يضحك على أفلاطون، وليس على نفسه، يضحك نيتشه على الأفلاطونية، المسيحية، على المثالية الألمانية، النزعة الفاغنارية، من دون أن يضحك على نفسه… يشكل الإنسان الأعلى، العود الأبدي ومحبة القدر أركان صرحه الفلسفي، ثم إن الضحك على هذا، سوف يؤدي إلى انهيار قلعته المفاهيمية! ما لا يمكن تصوره، ما لا يمكن تصديقه…
يقوم الضحك بالتدنيس وليس بمستطاع المرء مطالبة من يضحك بألا يدّخر مقدسه، الذي سيكف عن أن يكون كذلك. لا يتم التقيد بما نضحك عليه، على الأقل زمن الضحك. ولكن فحتى زمن إيقاف اعتقاده يعتبر زمنا مرفوضا من لدن المؤمن.
إن الضحك موجه ضد الغير خاصة، فهو يفترض في المراحل الأولى، جرعة من القسوة تجاهه: باطاي، فوكو، روسيه، كبار الضاحكين في القرن العشرين، لم يتم بتاتاً ضبطهم متلبسين بالضحك على أنفسهم! علاوة على ذلك، فقد كان كل من باطاي وفوكو شخصيتين مثيرتين للاشمئزاز، على خلاف كليمون روسيه، حيث يساعده الكحول (والبيانو…) على تحمل معاناته الوجودية.
يفترض الضحك على الذات أن يصبح المنشار الموسيقي السارتري، منشاراً موسيقياً لليسار، ”التفكير ضد الذات عينها”، يمكن تصوره. لا وجود لأحد غير قادر على التفكير ضد نفسه، أكثر من أولئك الذين يحثون على التفكير ضد أنفسهم! إن اليسار بأتمه لا يمارس النقد الذاتي إلا مع مسدس على الصدغ، مباشرة قبيل الرصاصة التي خصصها لهم أصدقاؤهم القدامى… هل سبق لكم أن لاحظتم أن سارتر يفكر ضد نفسه مرة واحدة؟ فما قام به هو التفكير من أجل ذاته فقط، كبورجوازي صغير للمفهوم، عاملاً على تبني كل الأخطاء الأيديولوجية لعصره.
المجلة: كيف جئتم إلى نيتشه؟ هل تتذكرون أول لقاء لكم به؟ أين كان؟ كم كان عمركم آنذاك؟
ميشال أونفري: كنت أبلغ من العمر 14ـ 15 سنة، وكان ذلك في سوق بأرجونتان، وهي المدينة التي كنت بها طالباً داخلياً بالثانوية. ثمة بائعة كتب مُستعملة، بأثمنة منخفضة لكتب الجيب. كنت أقرأ بنهم وفوضى: الشعر، الروايات، السوسيولوجيا، الفلسفة والتحليل النفسي. في شيء من الفوضى؛ إلى حد ما على طريقة عصامي رواية الغثيان: لا أحد يوجهني، لا أحد يقودني في تلك القراءات، لا أحد يجعلني أربح الوقت، بتقديمه النصح لي، بدلاً من هذا الشيء أو ذاك… اكتشفت السوريالية، بودلير، الوجودية، سارتر وبوفوار، عمل فرويد، الفوضوية مع كتاب ما هي الملكية؟ لبرودون، والماركسية مع كتاب بيان الحزب الشيوعي. من ثم نيتشه مع كتاب هكذا تكلم زرادشت ضمن سلسلة كتاب الجيب.
لا بد من القول بأن نيتشه، ماركس وفرويد، الفلاسفة الثلاثة، الذين يطلق عليهم فلاسفة الشك، وعندما يكون المرء في تلك السن، والماضي الذي كان ماضيّ، إنها شمس مشرقة على وجوده: إن حياة عامل الفلاحة لوالدي وأمي التي كانت تعمل كمنظفة، الفقر- وليس البؤس- في البيت، كل هذا يتصادى مع تحليل صراع الطبقات، صناعة الفُرص، التي هي اختلاس قوة العمل لدى العامل، لدى ماركس وبرودون. غادرت بين العاشرة والرابعة عشرة، في فترة السنوات الأربع، ميتم رهبان ساليزيين (Salésiens) كان البعض منهم متحرشين بالأطفال، منذ ذلك الحين فصاعداً، شرعت مسيحية نيتشه المضادة في التحدث إليّ. أيضاً إنجازات فرويد، في كتابه “ثلاثة مباحث في النظرية الجنسية”، تخص في المقام الأول المراهق الذي كُنته.
في الرابعة عشرة، أحببت نيتشه لأسباب واهية جلية: معاداته للمسيحية، لكن أيضاً مديحه للقسوة، انتقاده للشفقة، إشادته بالأقوياء، احتقاره للعبيد، ازدراؤه للخدم، كراهيته للمرأة، ”إرادته للقوة”، ”إنسانه الأعلى” الذائع الصيت، عديدة هي القراءات التي قمت بها أرضاً! لقد كانت قراءة من نوع رخيص؛ لنفترض، ربما، أني كنت معذوراً، كوني كنت أبلغ من العمر الخامسة عشرة تقريباً، وأن المراهقة، وفترة جسم في حالة انصهار، قلب محتدم، وروح غاضبة، تعثر هنا على غذائها اليومي! لقد شكل ذلك بالنسبة لي فوضوياً أدبياً… وهذا بالطبع ليس صحيحاً.
إنها الـ”اجترارات” كي نستعمل عبارة أو فكرة يفضلها نيتشه، والتي سمحت لي، مع مرور الزمن، بالخروج من هذه القراءة البدائية. إن هذا العمل هو كحول قوي: تناوله بجرعات قوية صبيانية لهو شيء سامّ.
المجلة : ما هو كتاب نيتشه المفضل لديكم؟ والذي ينبغي عبره ولوج عمله؟
ميشال أونفري: أعتقد أن القارئ فهم أن الأمر يتعلق بكتاب هكذا تكلم زرادشت، إلا أنه ذلك الكتاب الذي ينبغي عبره الختم، حينما يكون المرء قد قرأ كل كتبه!
إنه كتاب المعرفة المرحة، وذلك من خلال مقدمته الرائعة، وعلاوة على ذلك، فإنه يقوم بتركيز كل ما قام به نيتشه: خفة، عمق، أسلوب، أناقة، حيوية، صفاء، جذرية…
……………..
هوامش:
1 ـ ميشال أونفري، تاريخ مضاد للفلسفة، 12 جزءاً، غراسيه، 2006 ـ 2020.
2 ـ ميشال أونفري، موسوعة مختصرة للعالم، جزء 1، كوسموس، نحو حكمة بدون أخلاق، جزء 2، انحطاط . حياة وموت اليهودية المسيحية، جزء 3، حكمة. معرفة كيفية العيش عند سفح بركان، جزء 4، أنيما (Anima ). حياة وموت الروح من لاسكو إلى ما بعد الإنسانية، ألبان ميشال، 2015 ، 2017 ، 2019 و2023.
ــــــــــــــــــــــــ
أصل النص: المجلة الشهرية الفرنسية (Revue Des Deux Mondes)، حزيران/ يونيو 2023.
المصدر: مجلة “حكمة”