الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

“فورين أفيرز”: حدثٌ واحدٌ يكفي لإشعال المنطقة

منى فرح *                

“تحول الشرق الأوسط إلى الدبلوماسية وتطبيع العلاقات بين دوله له فوائد لا جدال فيها، لا سيما من منظور منع نشوب صراعات جديدة”، كما يقول غوست هيلترمان(**)، مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في “مجموعة الأزمات الدولية”، في مقالة له في “فورين أفيرز“، إلا أنه يستدرك بالتحذير من أن الصراعات المتشابكة في المنطقة “يمكن أن تكون شرارة لتفجير صراع أكبر؛ خصوصاً تلك الدائرة بين إسرائيل من جهة، والفلسطينيين وإيران وحزب الله من جهة أخرى. 

لا شك أن الدبلوماسية مهمة. ولا شك أيضاً أن تطبيع العلاقات بين إسرائيل وبعض الدول العربية، أو المصالحة التي تمت بين قطر وبعض الدول الخليجية ومصر، أو عودة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، وكذلك الانفتاح التركي الأخير على مصر والعديد من دول الخليج، سوف يُحقّق الكثير من الأمور الإيجابية، ليس أقلها الحد من حوادث العنف. فالمنطقة تعاني من نزاعات قديمة وعميقة ومستعصية، ومن المهم إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة ومنتظمة. ولكن هل ترقى سلسلة المناورات الدبلوماسية الأخيرة إلى أكثر من ذلك؟ وما هي حدودها؟

بدأت موجة التطبيع بين الإمارات وإيران في صيف عام 2019، عندما سعى المسؤولون الإماراتيون إلى تهدئة التوترات مع طهران في أعقاب سلسلة من الهجمات (لم تتبناها أي جهة) تعرضت لها سفن نفطية إمارتية في مياه الخليج. يومها، فسرت القيادة في أبو ظبي تلك الحوادث على أنها “تحذير” من طهران بأنه ستكون هناك عواقب إذا دعمت دول الخليج حملة “الضغط” التي كان يشنها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ضد الجمهورية الإسلامية. في العام نفسه، زار طهران وفد من كبار المسؤولين الإماراتيين للتأكيد على أن أبوظبي ترفض أن تكون طرفاً في حملة الضغط الأميركي، لا سيما في أعقاب قرار ترامب الإنسحاب الأحادي الجانب من الاتفاق النووي الإيراني الذي وقعه سلفه باراك أوباما في عام 2015 وفق خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA).

بعد ذلك، جرى الكثير من المحادثات بين البلدين. بالنسبة لإيران، كان “الانفتاح” بمثابة فرصة محتملة للخروج من عزلتها التي فرضتها عليها العقوبات الدولية، لا سيما مع ما يمكن للاستثمارات الإماراتية أن تفعله بالنسبة لاقتصادها المتعثر. من جانبها، كانت الإمارات تسعى لبناء استراتيجية أمنية جديدة وسط تصاعد المواجهة بين إيران والولايات المتحدة. فبرغم القوة التي يتمتع بها الجيش الإماراتي، إلا أنه حصد نتائج متباينة لتدخله العسكري في كل من اليمن وليبيا (…). في الوقت نفسه، بدت الضمانات الأمنية الأميركية غير موثوقة بشكل متزايد. فالخليجيون باتوا على قناعة بأن إدارة ترامب لم تكن تدفع نحو حشر إيران أكثر في الزاوية فحسب، بل وأخفقت أيضاً في توسيع مظلة حمايتها لهم عندما تعرضت منشآتهم لاعتداءات، ولا سيما استهداف “أرامكو” في خريف العام 2019.

وإدراكاً منهم لنقاط ضعف جديدة، شرع القادة الإماراتيون في اتباع نهج أكثر دبلوماسية تجاه المنطقة. بعد الانفتاح على إيران في عام 2019، قرروا التوقيع على “اتفاقات أبراهام” لإضفاء الطابع الرسمي على علاقاتهم مع العدو اللدود لإيران: إسرائيل. ومن المفارقات أن تحسن العلاقات بين الإمارات وإيران ربما يكون قد سهّل التطبيع مع إسرائيل: فلو كانت أبو ظبي اتخذت هذه الخطوة في ظل ظروف مختلفة لكانت أعطت طهران سبباً أقل لضبط النفس عندما شعرت أن مصالحها الأساسية مهددة. فبعد التطبيع الإماراتي – الإسرائيلي، اكتفت إيران بالإشارة إلى خط أحمر واحد، وهو أن لا يكون هناك أي وجود عسكري إسرائيلي في الخليج. في الوقت نفسه، ساهم التطبيع الرسمي في حماية ظهر الإماراتيين بعدما طالبت إدارة ترامب شركاء واشنطن بتشديد الضغط على إيران.

العلاج بالحوار:

أدى انتخاب جو بايدن رئيساً لأميركا؛ في عام 2020؛ إلى تسريع الشعور بين القادة العرب بأنهم بحاجة إلى الاعتماد بشكل أكبر على دبلوماسيتهم لمعالجة التوترات الإقليمية. في مواجهة فترة من الاستقطاب الاجتماعي والسياسي العميق في الداخل، بدت الإدارة الأميركية وكأنها تركز على الداخل. وفي السياسة الخارجية، كانت تعيد إحياء التوجه “المحوري نحو آسيا” الذي حددته إدارة باراك أوباما. فبعد فترة وجيزة من توليه منصبه، أعلن بايدن رغبته في إنهاء الحرب في اليمن. وبعد عام واحد، رفض أيضاً التوسلات الإماراتية لإعادة تصنيف جماعة الحوثيين كـ”كيان إرهابي” (…).

في الأثناء، تدهورت العلاقات بين واشنطن والرياض على خلفية حادثة مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في تركيا في عام 2018. فالرئيس بايدن حمّل ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، المسؤولية كاملة، وذهب إلى حد أن نبذه بشكل شخصي. كذلك أعلن بايدن رغبته في العودة إلى الإتفاق النووي مع إيران (…).

في السعودية، كما في باقي دول الخليج، كان تزايد الشعور بعدم اليقين تجاه الضمانات الأمنية الأميركية بمثابة دافع لتنشيط العلاقات الدبلوماسية في الإقليم. في عام 2021، قررت السعودية وحلفاؤها الخليجيون إنهاء حصار دام أربع سنوات على قطر (…). فبرغم أن قطر لم تنفذ أياً من الشروط التي كانت سبباً للحصار، تم توقيع اتفاق “العلا”، الذي بموجبه تمت المصالحة بين قطر والسعودية والبحرين والإمارات، وكذلك مصر (التي كانت ضمن المقاطعين أيضاً). وعلى الرغم من أن العلاقات السعودية-الإماراتية بدأت في التدهور في الوقت نفسه تقريباً، غير أن تحقيق هذه المصالحة سمح للسعودية بإبراز سلوك جديد في السياسة الخارجية قائم على الدبلوماسية بدلاً من “التنمر”، وفي الوقت نفسه مكَّن قطر من تنظيم مباريات كأس العالم الكرة بنجاح باهر في عام 2022.

في غضون ذلك، كان لحكومة رجب طيب أردوغان في تركيا دوافعها الخاصة للعودة إلى الدبلوماسية. لأكثر من عقد من الزمان، تدهورت علاقات أنقرة مع الرياض وأبو ظبي والقاهرة بسبب دعمها لجماعة الإخوان المسلمين في المنطقة (…). لقد أظهرت جولة أردوغان الأخيرة إلى الخليج بأن تطبيع العلاقات، على الأقل في التجارة، يمكن أن يعطي دفعة كبيرة للاقتصاد التركي المتردي. ومن جانبهم، يدرك محاورو تركيا أن “دبلوماسية دفتر الشيكات” هي الطريقة الأفضل لثني أنقرة عن دعم أي سلوك يعتبرونه تخريبياً في المنطقة.

فوائد التطبيع.. وحدوده:

ظهرت بعض النتائج الأكثر دراماتيكية لحملة التطبيع الجديدة في الشرق الأوسط في النصف الأول من عام 2023. من هذه النتائج عودة العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران في آذار/ مارس، بعد سنوات من القطيعة والعداء المتبادل. لقد أدرك السعوديون أن “نهج تشديد الضغط” الذي نادى به ترامب قد فشل، وأنهم بحاجة لطريق بديل للمضي قدماً، مثل تحقيق انفراجة في العلاقة مع الإيرانيين. وقد أدركت بكين؛ بدورها؛ أن لديها فرصة لا تُعوَّض للعب دور تاريخي واستثنائي في المنطقة عبر مساعدة الجانبين. فالعلاقة بين إدارة بايدن وطهران تتدهور، والمحادثات النووية تتعثر، فيما إيران بدأت تساند روسيا عسكرياً في حربها ضد أوكرانيا (…).

لا شك أن التقارب السعودي-الإيراني سينعكس بشكل إيجابي على الوضع في اليمن، وسيساهم في إنجاح حوار إقليمي أوسع حول القضايا ذات الاهتمام المشترك (…). كما أن وضع السعوديين أصبح أفضل بعد خفض التهديدات الإيرانية لمنشآتهم النفطية، وبالتالي صار بإمكانهم تقرير ما إذا كانوا يريدون تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ومتى يريدون ذلك.

كان إصرار الكثير من القادة العرب على إعادة العلاقات مع النظام السوري أيضاً ملفتاً للنظر. بدأ ذلك مع إرسال أبو ظبي وزير خارجيتها عبدالله بن زايد إلى دمشق في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي. ثم عودة دمشق إلى جامعة الدول العربية بدفع خاص من الرياض. باتخاذ هذه الخطوات يعترف القادة الخليجيون بأن الرئيس بشار الأسد قد تغلب على معارضيه، لكنهم أيضاً يدرجونها في خانة جهود طويلة الأمد بذلوها من أجل إبعاد الأسد عن حماته الإيرانيين وجعل التعامل معه أسهل لا سيما في حل المشاكل المشتركة (…). كذلك استأنفت أنقرة العلاقات مع دمشق بدفع خاص من موسكو، وهي الآن تسعى لإيجاد تفاهم مشترك حول عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم (…).

الشكل يطغى على الجوهر:

إن تحول الشرق الأوسط إلى الدبلوماسية وتطبيع العلاقات له فوائد لا جدال فيها، لا سيما من منظور منع نشوب صراعات جديدة. العديد من الصراعات المتشابكة في المنطقة ممكن أن تكون شرارة لتفجير صراع أكبر: خصوصاً الصراعات الدائرة بين إسرائيل من جهة، والفلسطينيين، وإيران، وحزب الله من جهة أخرى. أي خطأ في التقدير، أو أي سوء فهم، أو سقوط صاروخ بالخطأ على مدرسة أو مركز تسوق يمكن أن يتسبب بسلسلة غير منضبطة من الأحداث. ووجود خطوط اتصال ودبلوماسية نشطة أمر بالغ الأهمية، حتى لو كانت هذه القنوات لا تشمل المتحاربين المباشرين.

ومع ذلك، فإن كل هذا الحديث قد لا يساعد في معالجة الخلافات العميقة في المنطقة. فعدم حسم الجدال حول دور الإسلام السياسي في إدارة الحكم (الإخوان المسلمون على وجه الخصوص)؛ على سبيل المثال؛ يمكن أن يكون سبباً في زعزعة الاستقرار وإثارة التوتر في أي لحظة خصوصاً بين دول مثل مصر وقطر والإمارات (…).

التوجس من دور الإسلام السياسي هو ما يمنع الإمارات من التقرب من قطر وتركيا رغم مرور عاملين على اتفاقية “العُلا”، ناهيك عن علاقتها مع إيران (…). كما أن اتفاقية “العُلا” كشفت نوايا محمد بن سلمان: تحويل السعودية من دولة تعتمد على النفط ومحافظة اجتماعياً إلى قوة متوسطة على قدم المساواة مع إندونيسيا أو البرازيل، وتسخير كل الإمكانيات لتحقيق استراتيجية “رؤية 2030″، بما في ذلك تحقيق استثمارات ضخمة في مجال الطاقة البديلة ولعب دور فعّال في حل النزاعات الإقليمية (…). إن تحول بن سلمان إلى الدبلوماسية هدفه الأساس إعادة تأكيد الهيمنة السعودية في الإقليم وليس الوحدة الخليجية.

وبالمثل، من غير الواضح إلى أي مدى سيؤثر الاتفاق السعودي الإيراني على استعراض القوة الإيرانية في المنطقة. وسيبقى الطرفان في تنافس مستمر على القوة والنفوذ في الإقليم. فعلى المدى المنظور، يمكن للتقارب الحاصل أن يخفض التوترات الإقليمية بشكل كبير، خاصة في اليمن. لكن من غير المرجح أن تُقلّل إيران من تواجدها الإقليمي أو توقف دعمها لوكلائها وحلفائها في المنطقة (…). لقد ضمن الرئيس الأسد عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، لكن الجامعة لا ثقل لها وهي عبارة عن مزيج منقسم من الدول العربية. والاستثمارات الخليجية لن تصل بأي شكل من الأشكال إلى دمشق طالما بقيت العقوبات الغربية سارية. كما أن الأسد لا يستطيع الاعتماد حصريا على إيران وروسيا من أجل بقائه.

الاستقطاب الفلسطيني الإسرائيلي:

 “اتفاقات أبراهام” أيضاً مقيدة. فعلى الرغم من أنها تشكل تغييراً كبيراً في الاصطفافات الإقليمية، إلَّا أنها تركت العديد من دوافع الصراعات الرئيسية في المنطقة من دون معالجة، لا سيما ما يتعلق بالاحتلال العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية. حقّقت إسرائيل والإمارات منفعة متبادلة على صعيد العلاقات التجارية والسياحية. وحصلت أبو ظبي على صفقات شراء أسلحة أميركية متطورة بضوء أخضر إسرائيلي (وهو شرط أساسي تقليدي لإتمام صفقات الأسلحة الأميركية في الخليج)، وكذلك اشترت أجهزة عسكرية تكنولوجية للمراقبة من صناعة إسرائيل. ومع ذلك، فإن العلاقة الإسرائيلية الإماراتية لا ترقى إلى مستوى رغبة إسرائيل في تحالف مناهض لإيران. لقد أوضحت دول الخليج أنها لا تريد أي دور لها في هكذا “تحالف”، لأنها تخشى أن تصبح هدفاً في أي حرب قد تنشب بين إيران وإسرائيل ومعها الولايات المتحدة (…).

كان تأثير اتفاقيات التطبيع على السلام الإسرائيلي الفلسطيني مُدمّراً.. لقد جادل المسؤولون الإماراتيون بأن تطبيع العلاقات مع إسرائيل سينعكس بشكل إيجابي على القضية الفلسطينية، لكن حتى الآن ليس لديهم ما يثبتونه في هذا الخصوص. وبدلاً من ذلك، تستمر إسرائيل؛ تحت قيادة حكومة يمينية متطرفة؛ بقضم الأراضي الفلسطينية وبناء المستوطنات غير الشرعية وشن هجمات عسكرية ضد الفلسطينيين، وهي التي تعتبر أن تقسيمها للمعسكر العربي “انتصار كبير”. كانت “اتفاقات أبراهام” بمثابة مسمار في مبادرة السلام العربية المحتضرة، التي طرحتها السعودية ودول عربية أخرى قبل عقدين من الزمن. ورداً على ذلك، حاول دبلوماسيون سعوديون إعادة التأكيد على أهمية تلك المبادرة، لكن يبدو أن هذه الجهود تهدف إلى تبني موقف تفاوضي أكثر من كونها محاولة حقيقية لإحياء الخطة. اليوم، يمكن أن تتفق معظم دول الخليج على نوع من السلام الاقتصادي للفلسطينيين الخاضعين للسيطرة الإسرائيلية، على نمط ما حاول ترامب أن يفرضه عام 2020 باقتراحه “السلام من أجل الرخاء”. لكن الفلسطينيين لم يظهروا أي رغبة في مثل هذه المقترحات. وهم يصرون على إقامة دولتهم المستقلة بالرغم من كل الصعاب التي يواجهونها وبالرغم من نظام الفصل العنصري الذي تمارسه إسرائيل ضدهم بدعم من أطراف “اتفاقات أبراهام” العربية (…).

في الوقت نفسه، يستمر الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وبوتيرة متسارعة على مختلف الجبهات. إن كلا المجتمعين – الإسرائيلي والفلسطيني – مستقطبان لدرجة أنه لا يمكن لأي منهما تقديم تسوية تفاوضية مستدامة للصراع. وعلى الرغم من أن إسرائيل قد تدعي نجاحاً مدوياً في استعمار الضفة الغربية، إلَّا أنها ستضطر عاجلاً أم آجلاً إلى مواجهة واقع التغيرات الديموغرافية التي تتحدى أسس الدولة اليهودية ذاتها. إن تعطل لغة الحوار في الصراع الدائر بين إسرائيل وأعدائها ينذر باندلاع صراعات أكثر خطورة في لبنان أو سوريا، إن لم يكن في إيران.

السير على رؤوس الأصابع:

ولعل الأهم من ذلك كله هو أن موجة التطبيع في الشرق الأوسط يبدو من غير المرجح أن تساعد سكان المنطقة الذين يعانون على أكثر من صعيد. لأن المحرك الأساس للصراعات الدائرة لا علاقة له بدبلوماسية النخبة وكل ما يتعلق بإدارة الدول لاقتصاداتها ومجتمعاتها (…). بعض الأنظمة التي نجت من احتجاجات الربيع العربي؛ الجزائر ولبنان والعراق والسودان؛ شهدت شكلا من أشكال الاضطرابات بعد ثماني سنوات، وكان لإيران نسختها الخاصة العام الماضي.

والأنظمة التي صمدت في وجه عاصفة الغضب الشعبي؛ مصر وسوريا والجزائر وربما تونس؛ أعادت تشكيل نفسها كدول ضعيفة في الداخل ولكن مع توظيف الموارد لحفظ الأمن وتشديد المراقبة والضوابط الاجتماعية (…). لقد أثبتت العقود الماضية أن الدول القمعية قادرة على البقاء لبعض الوقت، لكن عجزها المتزايد عن التعامل مع الضغوط الاجتماعية والاقتصادية المتراكمة يصل في نهاية المطاف إلى طريق مسدود. حذَّرت تقارير التنمية البشرية العربية التي أعدتها الأمم المتحدة في السنوات الأولى من هذا القرن من أن نظام الدول العربية المتخلف في التنمية البشرية ومع كل أمراضه الاجتماعية والاقتصادية الأخرى كان غير مستدام- مما ينذر بالانتفاضات بعد سنوات قليلة. لكن التحديات اليوم قد ازدادت سوءاً. يواجه الشرق الأوسط الآن ندوب الحرب ووباء COVID-19 والنمو السكاني السريع وانتشار البطالة بين الشباب والتحضر غير المنضبط، ناهيك عن تغير المناخ والانتقال الناشئ إلى الطاقة النظيفة. لا توجد حكومة في المنطقة قادرة في الوقت الحالي على مواجهة هذه القضايا بجدية.

النصف الملآن من الكوب هو أن قسماً كبيراً من المسؤولين في الشرق الأوسط يختارون طرق الوفاق وفض النزاعات. ومع ذلك، من السهل جداً تخيل حدث واحد قد يكون كافياً لإشعال المنطقة وقلب الاستقرار الإقليمي رأساً على عقب، مثل: أن تقصف مسيرة حربية تابعة للحوثيين مركزاً تجارياً في أبو ظبي، أو أن يخرق مقاوم لبناني السياج الحدودي مع إسرائيل ويهاجم حافلة عسكرية هناك، أو أن يشن جيش الاحتلال الإسرائيل عملية عسكرية داخل المسجد الأقصى، أو أن تتخلف مصر عن سداد ديونها وتضطر إلى خفض الدعم عن الخبز والوقود. وحتى إذا لم يخرج الناس إلى الشوارع للاحتجاج على أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، فإن الضغط الشعبي من أجل تحسين الحكم سيستمر في التفاقم. وقد تُدرك الأنظمة الاستبدادية كيف أن ترتيب بيتها في الداخل سيساعدها في مواجهة التحديات الصعبة التي تفرضها الفوضى العالمية. لكن السؤال هو: هل يُحسنون استغلال الفرصة؟

…………………..

– ترجمة بتصرف عن “فورين أفيرز

(**)“غوست هيلترمان”، مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في “مجموعة الأزمات الدولية”، ومؤلف كتاب “البعث من الموت”، الذي يروي فيه محنة الأكراد العراقيين في حملة الأنفال.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

* صحافية ومترجمة لبنانية

المصدر: 180 بوست

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.