أسعد الجبوري *
قبل أن نبدأ الحوار معه، قال عن نفسه أشياء كثيرة، منها أنه بات مواطناً عِفْريتياً تكتمل فيه جميع صفات الشيطان. ويبدو أن الموت لم يؤثر على رحلته بذلك القدر من القلق والكآبة أو الخوف. إذ بمجرد أن وضع حقائبه التي أصّر على دفنها معه تحت التراب، هام على وجهه بحثاً عن قدامى الأصدقاء ممن تعلق بهم أو أحبهم في حياته المثقلة بالعمى على الأرض، وفي مقدمة أولئك الفنانة مارلين مونرو التي كان يضمر لزوجها (آرثر ميلر) حقداً سرّياً، أدى إلى انتزاعها منه بعد خمس سنوات من الزواج المضطرب.
إنه الشاعر والقاص والكاتب العمومي، خورخي لويس بورخيس، الذي شطبتْ رياحُ السموات عن وجهه كل التجاعيد، فلم يعد طاعِناً في السّن. وجدناه في مكتبه يراجع كتاباً عن الخُصُوبة وتكاثر الإنْسال، فيما جلست إلى جانبه مارلين مونرو، وهي تشحنُ شفتيها بأحمر الشفاه بواسطة قابس كهربائي.
كان الطقس مريحاً لتبادل الأسئلة والأفكار مع خورخي، خاصة أنه كان على قدر كبير من الانتشاء في ذلك المكان العبق بعطر أحد أهم رموز الإثارة والأنوثة وأساطير السينما. سألناه:
(-) كنت على تلك الأرض، بأحزانٍ جافة. لكن بورخيس، في زمنه الجديد، هو من غير صناعة الآلام، أو تأثيراتها. هل كنت تقاوم هناك، أم كانت أوجاعُك لا تصرخ؟!!
= لقد ولى زمن الأرض الضريرة. وما تحطم من أحلام سابقة، لستُ بحاجة لإعادة إنتاجها هنا بعد عملية استرداد النظر للعينين. لكن يمكن التذكير، هنا، أن عالمي القديم، لم يكن موحشاً كما قد يظن بعضُهم، ولكنه كان أشبه بحقيبة مضغوطة بالملابس المستعملة.
(-) هل عَرَفَ بورخيس غرفَ جسدهِ تماماً؟!!
= لا أعتقد بوجود شاعرٍ يختارُ النزولَ والاستقرار في غرفة واحدة، أو في حديقة حيوانات. لكن، ما إن تهبط العواطفُ على السلالّم السريّة بين طبقات اللحوم حتى يشتعل صراخُ الحب، ليحكم الجدران مجتمعةً، تاركاً الجسد بلا أقفال. أنا كنتُ أدّلُ نفسي على الفراغ العاطفي بكل قسوة، لئلا أقع فريسةً لسوء الاستعمال الغرامي.
(-) ولكن الحبّ لم يصل إلى مسامع جسمك ومجساته، إلا في ما بعد الستينات من العمر. كيف حدث أن أغفلت ذلك، لتدوم أعزبَ طوال تلك الفترة؟!
= من الممكن لك أن تعتقد بأنني كنت مُصِرّاً على الافتراض بأنني صاحبٌ لحانة في مبنى لغوي ضخم، ولا يمكنه التفريط به لصالح شيء آخر، بما في ذلك النساء.
(-) هل يعتبر خورخي المرأة عنصراً منتجاً للقلقِ على سبيل المثال؟
= ليس بعيداً الاعتقاد بشيء من هذا القبيل. إلا أنني أستطيع تبرير ذلك القلق المتعلق بوجودها داخل وجودي الشخصي. وبالمقابل، لا يمكن إنكار دورها بصناعة الألم الوجودي الذي هو أوسع وأهم من القلق الطارئ الذي عادةً ما يعتاشُ على شرودنا وانقسام أفكارنا وهلامية شكوكنا بكل ما يحيط بعالمنا الهَرِم.
(-) كيف تحققُ اللذةَ العظمى لجسدك؟
= هذا سؤال مجرثم ولئيم. وهو بكل المقاييس، يعتبرُ اعتداءً على خاصية العمى الذي أوقعني الزمنُ به. هل سبق لك وأن التقيت بالشاعر بابلو نيرودا؟
(-) لا. لم تسنح لي الفرصةُ بعد.
= لأنني أشكُ بأنه وراء طرح سؤال مثل هذا. كنا أصدقاء متخاصمين بهدوء على بعض المبادئ الخاصة بالماركسية وسيطرتها الفكرية، تلك التي تجعل الفرد عبداً للدولة، مع تفريغه من محتواه الإبداعي لصالح الجماعة.
(-) ولكنه كان صديقك على ما أذكر. فكلاكما من قارة واحدة!
= لا قدرة لي على مصاحبة شيوعي من طراز نيرودا. لقد كان (مصلحياً) بإفراط. لم يقم بإدانة جرائم حكم العسكر برعاية بيرون في الأرجنتين. بعبارة أدق، كان نيرودا شاعراً يعرف كيف تؤكل الكتف. أما بالنسبة لانتمائنا المشترك إلى أميركا اللاتينية، فهو لا يعدو أن يكون توليفة جغرافية لا غير.
(-) العبقري إنسانٌ قويّ. أما عصرهُ فضعيف. وقوته على حد تعبير هارولد بلوم لا تستنزف صاحبها، بل أولئك الذين يأتون من بعده. أين يضع خورخي نفسهُ من هذه الفكرة؟
= هارولد بلوم كاتب مثالي وعظيم الأثر في الثقافات المعاصرة. أما أنا فخالٍ من تلك العبقرية إلا بدرجات ضئيلة أو ضيقة. فالبصري، ربما يكون هو والي العبقرية الأصح، فيما الأعمى الذي هو في مثل وضعي، فيكون قد غادر تلك العبقرية جالساً في العتمة، مهما كان العقل ثاقباً وبليغاً، فإن الأفكار التي تخرج من رأسي، لابد أن تكون مصحوبة بالعكاكيز. وما من حكمة لمن هو في مثل وضعي على من هو في مثل وضعك، أو أوضاع الآخرين. خورخي الذي تراه أمامك الآن، لم يشتغل على عتبة الحكمة يوماً. لأنني أعتبر النصائح مثل دبابات تقتحمُ صفحات القارئ وتربة الناقد، وربما تدفنُ الاثنين في بئر سحيق كثيف الظلام.
(-) هل تتحكمُ بالعبقري فكرةُ القوة، فيعتبرها مختبراً لتحسين شروط الكتابة مثلاً؟
= لا أظنُ ذلك. الكتابة على مرّ الزمان كما أعتقد، ليست إلا من مستحضرات تجميل العبقريات. أما القوة التي تتحدث عنها، فلا قيامة لها إلا عند المسوخ المتجذرين في آبار اللاهوت.
(-) ما حجم الفاصل الذي بين خورخي بورخيس والدين؟
= ربما كان فاصلاً شاسعاً. الرادارات التي عندي، لم ترصد بعد، أية ديانةٍ تقوم على تحرير المخلوق من العبودية. فاللاهوت باسمه الأول وأحجامه المختلفة ليس غير تابوت موحد لتجنيز البشرية، ودفنها في خَزّان التّبْريد، إلى ما شاء الله.
(-) الذي يقرأ أو يسمع هكذا آراء، يظنُ بأنك مَسْعُور بداءٍ إلحادي.
= هكذا يقولُ عني خنازيرُ التأويل الخاطئ، ممن يأكلون فضلات أبدانهم الوسخة. فيما أتحدثُ أنا عن كلّ نفسٍ، لا تريد أن تكون صحناً، أو علفاً، في زريبة الخنازير التي هم هياكلُها وحراسُها على حد سواء.
(-) لماذا فعلُ الأسلافُ ذلك؟ لماذا غذوا زمن الماضي بالسيف، مثلما يغذونه الآن بالبارود، وبالموت، وبجميع مكملات الحروب؟!!
= لأن كل هؤلاء فشلوا بالوصول إلى الله. وأنا جادٌ كُلَّ الجدّ، بأن الطريق إلى تلك السموات، هو غير ما يعتقد به هؤلاء، ممن يٌسمون بالمؤمنين من عباد المذبحة الكونية التي يخوضها مسلحو اللاهوت على الأرض.
(-) القصص التي كتبتها أنتَ كانت أكثر قدرة على ترسيخ اسمك في قائمة غير قائمة الشعر. قَدَمتْ خورخي لويس بورخس على أنه قاص بميولٍ شعرية. ما رأيك؟
= لم أجد مبرراً لكتابة تلك القصص. كنت طفلاً تعبأ بغاز الشعر، ولكنه لم يشتعل إلا مؤخراً. لن أستطيع إقناع نفسي بأن القصص التي كتبتها أهم من الشعر. وفي المقابل، فإن الشعر الذي بلغتُ أوجه وأنا في مرحلة العمى، كان الأفضل من عالم القص والسرديات.
(-) هل تريد أن تقنعنا بأنكَ ما تزال في الحضانة يا سيد خورخي؟
= بالتأكيد. فالحضانة عندي أفضل من الأكاديميات قاطبة. في الأولى يمكن أن تنمو نحو الأمل وتكون مراهقاً، فيما العالم الأكاديمي عادة ما يكون مشحوناً بالسعال والعجز الأيروسي والشيخوخة.
(-) وصاحبتك ماريا كوداما، أين يقعُ موقعها من هذا الهذر البطولي؟
= إنها راعيةُ الغروب ليست إلا.
(-) كلّ الذين يتخطون السبعين من العمر يحرصون على كتابة المراثي بسبب نقّص الحبّ. هل عانيتَ من تلك المأثرة النفسية على سبيل المثال؟
= ربما أستطيع القول لا. ليس لأنني بلا قلب، ولكن ردم العينين بذلك الطين الإلهي أبعدني عن التفكير بأم النزوات. أنا من منح عقلهُ حريةً كونية تعويضاً عن فقدان البصر. وهكذا حاولت المشي بين الكتب كطيفٍ عملاقٍ يحاولُ الاستئثار بالمخلوقات الحيّة على صفحات ذلك الورق المتوهج بعجينة الفكر والشعر والسرد والفن بشكل عام.
(-) هذه مقاربة مع (رامون شاو)، الذي أورد كلاماً قال فيه عن بورخيس: (خلق بعض أكبر الأساطير الأدبية المعاصرة مثل “مكتبة بابل”. فمن خلال لعبة المرايا الغرائبية والألغاز المذهلة والأسفار الخيالية، داخل متاهات الذاكرة والزمن الباعثة على القلق، تطال كتاباته السردية الساحرة مختلف جوانب التأمل الإنساني).
= قصة (مكتبة بابل) التي كتبتها في أربعينات القرن العشرين كانت بمثابة استشراف للتكنولوجيا التي حوّلتْ الكلمات في ما بعد إلى كائنات لا متناهية ومرتبطة بسلسلة كونية من الجمل التي لا تُحسّسك بالوحدة، أو بالتجمد اللغوي الذي ينتهي مفعوله، فيؤدي إلى تحطم رُكْب الكلمات، ومن ثم سقوطها في الهاوية.
(-) هل كان كلّ ذلك بسبب دافع خاص، لاسترضاء نفسكَ، أو إشغالها، ولو مؤقتاً، بالانقطاع عن العالم؟
= أظن أن ما قلته أنتَ عن إرضاء النفس لم يكن في محله على الأرجح. فأن يرى المرءُ بسِرّهِ العالمَ قاطبةً، وقد تحوّل إلى مكتبة عملاقة، تمرُّ عبرها الأفكارُ والمشاعرُ والمؤلفات الخارجة من مصانع الحواسّ، فذلك يتضمنُ نشوةً عالميةً مشتركةً غير موصوفة. بعبارة أدق: أن المكتبة تلك حقيبةُ الأمل.
(-) والملايين التي لا تقرأ.
= ليس مهماً أن نجد ملايين من الأميين على الأرض، الأهم أن تتفاعل الكلماتُ لإنقاذهم من ذلك العمى، وتنتجُ مشاريع حيوية تنقذُ البشر، وتخلصهم من آلام الجهل ومخلفات الفوضى الظلامية المستمرة باجتياح كوكبنا.
(-) يقول عنك الشاعر والصحفي العربي أمجد ناصر: (ليس هناك كاتب فكَّر في الكون كمكتبة مثل الأرجنتيني جورجي لويس بورخيس. لا أحد اعتبر الكلمات لا نهائية مثله. ولا أحد اخترع مبرراً لعمر بن الخطاب، الذي ينسب إليه حريق مكتبة الإسكندرية من دون دليل، بالقول:
“في القرن الأول للهجرة،
أنا عمر الذي أخضع الفرس
وفرض الإسلام على امتداد الأرض
آمر جنودي بأن يحرقوا هذه المكتبة الغزيرة
التي لن تندثر
والحمد لله الذي لا تأخذه سنة ولا نوم
والصلاة على رسوله محمد”
ثم يضيف هذا الصحفي معقباً: (لن أجادل، هنا، من أحرق مكتبة الإسكندرية، فهذا جدل طويل عريض استغرق قروناً، وسأكتفي بما يهمُّ هذه السطور. هناك ملاحظتان حول نهاية قصيدة بورخيس ذات العنوان “الإسكندرية، 641 ميلادية”: الأولى، أنه ينهي القصيدة، التي تتقمص عمر بن الخطاب، بما ينتهي به الخطاب الإسلامي عادة: الحمدلله والصلاة على النبي. وهذه شذرة من مئات الشذرات العربية، التي ترد في أعماله، أو التي تقوم عليها، بالكامل، بعض قصصه وقصائده. ولا يُستبعد أن تكون فكرة اللانهائي، عنده، مأخوذة من “ألف ليلة وليلة”، حيث يشير الألف إلى ما هو لا نهائي، كما يشير توليد الحكايات، واحدة من داخل الأخرى، إلى الاستمرارية والتكاثر).
= من اللائق التذكير بأن الجميع مضى، فيما بقيت الكتبُ تتوالد دون أن يتمكن أحدٌ من إبادة نسل المعارف، أو التحكم بمصير الأحاسيس التي أنتجت كل هذا الكم الهائل من القصائد والروايات والقصص والمسرحيات والأفلام واللوحات والرقص والغناء. لقد أصبحت الطباعة أسهل بكثير الآن. وهي لا تحتاج إلى ورق، بل إلى الذاكرة فقط. لذا فالظلامية لم تبدأ من العهود المعاصرة، بل لها جذور ضاربةٌ بالقِدم كما يثبت التاريخ ذلك!!
(-) هل فكر خورخي يوماً بتطهير نفسه من كتابة ما. من قصة ما. من قصيدة ما، من مؤلفٍ أسفَ على كتابته في الزمن البعيد؟
= أنا فعلتُ ذلك مراراً وتكراراً. عشتُ في مراحل متعددة كالجرذ بين تلال من الأوراق العائدة لي ولسواي من كتّاب العالم. لكن، مجرد أن تقوم السكرتيرةُ بإعادة قراءةً تلك النصوص على مسامعي، كنتُ أفوّرُ مشتعلاً، وأطلبُ منها القيام بقضم تلك الأوراق محواً أو حرقاً أو فرماً بآلة تمزيق الورق.
(-) هل لأنك فقدتَ الإيمانَ بقدسيةِ النصّ، أو بأبويته التي تحولُ دون التفريط، على الأقل، بزمن كتابة تلك النصوص مثلاً. أم لأن تلك النصوص لم تعد تشبه خورخي لويس بورخيس؟
= لا أبداً. لم يتكوّن عندي إيمانٌ بقدسية النصوص بعد. ربما سأقتنع لاحقاً بمثل ذلك الخبل، ولكن من السخرية اعتبار الكتابة غير ذلك المستودع الذي تجتمع فيه كلُّ أنواع الرذائل والفضائل على سرير واحد.
(-) أنت قليل الصبر أم قليل الإيمان سيد خورخي؟
= أنا شاهدٌ على أفعال قتل الكلمات بعضها للبعض الآخر. ففي كل لغة، تجري حروب داخلية. المؤلفون محاربون بالدرجة الأولى، ولا يمكن إخفاء المعارك التي تحدث ما بين قوى السرد وصور المخيّلة الخاصة بانبعاث الشعر. لذلك، لا الصبر يُمَكّنُ الكاتبَ من تحديد هوية المقدس، ولا الإيمان بالأفكار يدفعكَ إلى جعل نتاج كاتبها أمراً محرماً يضمن عدم المساس به، أو تدميره في لحظة ما من التاريخ.
(-) وهل تعتقد بأن المقدسَ مرهونٌ بزمن النضج، أو الكمال، وحدهما؟!!
= دعني أقلْ لمنْ هو مضطجعٌ على الفراش في غرفة النوم، وينظرُ إلى غصن الشجرة التي يراها من وراء زجاج النافذة، أنه ليس من الواجب عليه أن ينتظرَ لحظةَ التمتع بطعم الثمرة المقدسة. قبل أن تعرف حاسةُ التذوق عندهُ كمالَ الشجرة الكليّ. فأن تسدّ الشجرةُ رمقك بثمارها لوحدكَ، ذلك لا يعني بلوغها مرتبة القداسة.
(-) هل أنت شخص زئبقي كما قال عنك أندريه موروا :(لا تملك إلا أن تحب بورخيس حباً شديداً، أو تكرهه كراهية شديدة. هكذا يقول عنه كتاب ونقاد أميركا اللاتينية. إنه كاتب يحيرك، فلا تستطيع أن تأخذ منه موقفاً متوسطاً. معقد رغم بساطته الظاهرة، يلح من خلال أخيلته المعقدة على تمزيق الصلة بالعالم الخارجي، ويقترح بديلاً عنه عالماً مليئاً بالاضطراب والشك إزاء الزمان والمكان واللا نهائية. مات أعمى تقريباً، ولكنه كان قد رأى العالم كما لم يره أحد من قبله!!).
= لا أدرك لمَ يطلب منك الآخرون أن تكون نهراً ضحلاً يمكن لكلّ عابر اجتياز مياهه المتهالكة القليلة بمنسوبها التعبيري؟ أو أن تمنح شرطة الآداب، أو البوليس السرّي، كل الأدلة التي تمكنهم من إدانة سرقاتك التخاطرية وسواها، ليلقوا القبض عليك وعلى محتويات متحفك الفني، أو ورشة الكتابة التي قمت بتجميعها من مختلف سلالات التأليف وعظماء الكتابة على مرّ العصور؟
(-) هل يعتقد خورخي أن الشعرَ عينُ اللغةِ القائمةِ على التخاطر ما بين رادارات شعراء تتوزعهم الكرةُ الأرضية دون تنظيم أو دقة؟
= الشعرُ كما أظنُ، هو هدَرٌ للشاعر. فداخل (كلّ شاعر قويّ بروميثوس يرثُ ذنباً، كونه التهم فقط ذلك الجزء من دينيسيوس الشابّ الكائن في الشاعر السلف).
(-) بعد أن قطعت بنا الحداثةُ شوطاً لا بأس به من زمن التخلي عن المترهلات، هل النموذج المثالي للشاعر أن يكون شيطاناً؟
= هنا يصح أن أقول نعم. فالشيطان منتجٌ سينمائي من جماعة تحطيم الشاشة بالمخترعات التي تجعل المشاهد تابعاً لحركة الكاميرات. شيطنة الشعر، لا علاقة لها بالله وبمدخرات التراث التي تحاول جعلنا منتظمين في مسيرة القطيع. ولكنها تأتي ضمن فكرة واحدة لا غير: أن الشعر الملائكي، إنما بات يشكلُ عاراً على الشعوب، وعلى اللغات في آن واحد.
(-) وما الدور الذي تظن أن الشعرُ يلعبه في حياتنا؟
= ليس دور الديك بالطبع. ولا دور الدجاجة كذلك. إنما دور البيضة اللغوية بالضبط. لقد كتبتُ في قصيدة لي عام 1960 “آرس بوتيكا”: (أن ترى في الموت نوماً، وفي الغروب/ ذهباً حزيناً. هكذا هو الشعر الذي هو خالد ومسكين. الشعر/ يؤوب كما الفجر والغروب). نظرتي إلى نفسي تطورت داخل الشعر، لأكون ضمن موجات ذلك الغروب الذي لا ينتهي.
(-) نحن نسألُ لنعرف ونفهم، لا لنزداد غموضاً كافكوياً من وراء هذا الهذيان الذي تبثه بوجوهنا مثل كتلٍ من الضباب يا خورخي!
= ها أنتَ ومن وراء هكذا قول، أو هكذا اعتقاد، تكون قد وصلتَ إلى جذر الشعر. الوصول للشعر لا يتم بمعزل عن الشغف. فعواطف الإنسان الداخلية هي التي تحطم الجدران ما بينه وبين آلهة الشعر وماكينات اللغة التي يعملون تحت ظلالها. الشعر كما أراه أنا هو من تلك المُعَجّنات التي تقوم الشياطينُ بوضع تصاميمها في الفرن الكوني، ليخرجوا من هناك مخلوقاتٍ من التأليف المجازي الأعظم.. إننا نعرف ما هو الشعر. نعرف ذلك جيداً إلى حد لا نستطيع معه تعريفه بكلمات أخرى، مثلما نحن عاجزون عن تعريف مذاق القهوة، واللون الأحمر، أو الأصفر، أو معنى الغضب، الحب، الكراهية، الفجر، الغروب، أو حب بلادنا. هذه الأشياء متجذرة فينا بحيث لا يمكن التعبير عنها إلا بهذه الرموز المشتركة التي نتداولها. وما حاجتنا إلى مزيد من الكلمات؟.
(-) أنت متردد. مضطرب. فهل ترجعُ أسبابُ ذلك إلى الحادث الذي سبق وأن تعرضت له في نهاية الثلاثينات، عندما اقتحم رأسكَ لوحاً زجاجياً قادك إلى المستشفى والعمل الجراحي، مما أدى إلى تبديلات في سلوكك، وفي نشوء أفكارك؟
= أجل. كان حادثاً مروعاً جعلني أستلقي في حضن الموت طيلة أسبوع من الوقت. لقد تسّمم الجرحُ في الرأس، وفقدتُ حاسةَ النطق. لكن الأعمال الجراحية طردت ذلك الموت بمشقة، لتعيدني إلى الحياة. لقد خربطت تلك الحادثة خريطة مخي بالتفكير، مما أدى إلى نشوء منعطفات جديدة بالكتابة عن عوالم متفاوتة الوضوح ما بين الواقع والسريالية والمضي مع أحلام الأسطوريين لتلك الشخصيات المنتخبة من وراء عقلي المصاب.
(-) هل كانت الحادثة تلك صاحبة الانقلاب في تفكير بورخيس وكتاباته، مما دفعت بكَ إلى الدخول في المجال الحيوي لما سُمّي بأدب الاستنزاف؟
= أظن أن تلك المشقة النقدية أول ما ظهرت بقلم الكاتب الأميركي جون بارث الذي (حاول أن يقدم توصيفًا لهذا الأدب في مقالة تحمل نفس الاسم في مجلة أتلانتك في آب/ أغسطس 1967. وكتاب أدب الاستنزاف ينطلقون من منظور أن من المستحيل بالنسبة للكاتب أن يكتب أعمالاً أدبية أصيلة. وبمعنى آخر، فإن الكتاب يستخدمون فكرة أن الأدب قد استنزف واستهلك كموضوع لأعمال أدبية. وبالتالي، فإن كلمة استنزاف لها معنيان في مقالة بارث: أولاً: أن الأدب على وجه التقريب قد استنزف. وثانيًا: أنه بالنظر إلى الوضع الحالي للأدب على الكتاب أن يخترعوا ويستنفدوا كل الاحتمالات، وبهذه الطريقة يخلقون مدى غير محدود للأدب. ويمكنهم أن يحققوا الغرض الأخير بالكتابة عن حالة الأدب الحالية المستنزفة، وبهذا يجعلون من افتراضهم الأصلي مفارقة).
(-) يرى كثيرون أن مؤلفات خورخي لويس بورخيس قليلة بالدسم الأرجنتيني. أو لنقل بالغبار البلدي لهويتك التي لا تبدو أرجنتينية بالعمق. حتى أن كاميليو خوسيه ثيلا انطلق من معطيات جمالية عندما قال عنكَ: (إن خورخي لويس بورخيس يعد شبحًا، فهو الخدعة الكبرى في الأدب الأرجنتيني. في بعض الأوقات قد تجد شابة ساذجة قصصه مقبولة، ولكن خوخي لويس بورخيس نتاج هجيني بلا أي فائدة كبرى). ما ردّكَ؟!!
= أراد أغلبهم من خورخي أن يكون بحجم بطاقته الشخصية: أرجنتيني لغةً وقوميةً وعادات وتقاليد وانتماءً إلى الجذور الافتراضية التي طالما يُذَكرّونكَ بها، وكأنها في رأسك، أنابيب تمديدات صحية شبيهة بتلك التي تُدفنُ تحت الأرض، حيث لا يجوز لكَ أن تعيش خارجها!!
لا أعرف لمَ الإصرار على أن يكون الكاتب في القن الوطني، أو القومي، وحسب، إذا كانت اللغات تنقلك من عنق الزجاجة، أو من ذلك القن الضيق، لتكون مواطناً، أو كاتباً، كوسموبوليتياً؟!!
(-) هل استحواذ الفرنسيين على كتبك وتقديمها مترجمةً عبر أشهر دورها (غاليمار)، جاءت بمثابة ضربة استباقية من اللغة الفرنسية للغتك الأم الإسبانية؟
= ربما. فقد كنت هيكل طائرة تلعبُ به تيارات الريح. ولم يكن عندي ذلك المحرك القوي الذي يمكن أن يحدد مسار الرحلات، أو مطارات الإقلاع والهبوط. ودار غاليمار لديها مجسات تستطيع بواسطتها التعامل مع الكتّاب والمؤلفين في مسألة نشر أعمالهم والسيطرة عليها. واللغات في نهاية المطاف ميادين لحروب لا تتوقف.
وللتأكيد، فحراس اللغة الإسبانية جبناء يعيشون في مخادعهم اللغوية، من دون أن ينشطوا خارج حدود تلك اللغة إلا في ما ندر.
(-) التفحص الدقيق لسجلك الديني يُظهركَ شخصاً غير مولع بالإيمان بالله. . وفجأة يراك غارقاً في ديانة ما.
= نعم. بعض النقاد يقول في هذا الخصوص: (انفتح بورخيس على معظم ثقافات العالم، ونهل من نبعها، ممّا أضفى أثراً جميلاً على إبداعه الأدبي. ففيه تظهر روح الشرق المتمثلة في (ألف ليلة وليلة)، وأنفاس الصوفيين العرب، وأطياف الآداب الإسكندنافية، والبوذية، والأوروبية. غير أن ولع بورخيس بالثقافة اليهودية بدأ منذ معرفته باحتمال سريان الدم اليهودي في عروقه من جهة أمه، التي كانت من أصول إسبانية وبرتغالية وبريطانية. وتشير الباحثة إدنا آيزينبيرغ إلى أن بورخيس كان أرجنتينياً، ولم يكن يهودياً، استخدم البوابة “السفاردية” للدخول إلى الثقافة اليهودية). ما رأيك في ما قيل عنك؟
لقد حاولتُ المرور بمجرى جميع الديانات من دون تمييز، وعندما وجدتها كلها من جذر واحد، كفرتُ باللاهوتيات، وهجرتها ضاحكاً على الوقت الذي خصصتهُ لدراستها. ومع ذلك، يمكنني القول إنني لم أنتمِ إلى أي من تلك الديانات بشكل جدِّيّ. أما القول بأنني شُغفتُ باليهودية، فتلك نكتةٌ، وذلك بالاستناد إلى خيالي الذي كان مأخوذاً بتلك الصورة السوريالية لتحوّل عصا موسى إلى ثعبان ليس غير.
(-) مع أي من الشعراء والكتّاب تلتقي هنا.
= لست في حاجة لأحد في هذا الفضاء المُخلد لمارلين مونرو. ها أنت تراها معي الآن، لتأخذني بسيارتها الشبيهة بحصان البحر. ربما مارلين اختارت هذا النوع من الموديلات، لأن حصان البحر يُحصّنُ جسد الأنثى من الترهل، وآثار الحمل. فالذكر من تلك الأحصنة البحرية، هو من يتحمل أعباء الحمل والولادة بواسطة الكيس الموجود بالقرب من بطنه، والذي تُلقي الإناثُ فيه بيضها للإخصاب.
(-) وما هذه الأجهزة العملاقة التي حول مكتبكَ؟
= إنها ليست غير رادارات عملاقة، سأستخدمها أنا ومارلين بعد أن نقوم بوضع حجر الأساس لها في الهاوية الخامسة من السماء الشوكية. إنه مشروعٌ جمعي للفرجة على تاريخ التراب القديم. فمن هناك سنقوم بإطلاق أعيننا نحو الأرض، لتفحص كل ما كان مضروباً عن أعيينا بحجاب. ومثلما أريدُ أنا أن أستعيد للعينين ما فاتهما من مشاهد أيام ما كنت فيها ضريراُ على الأرض، كذلك مارلين، فهي ترغبُ في التحقق من كمية العقاقير السّامة التي ستبتلعها أميركا للتكفير عن مذاهب القتل الإستراتيجية التي ما تزال غائصة في رمال الشعوب. وبإمكان القتلى أن يستعيدوا مشاهد موتهم عبر هذه الأجهزة.
(-) أليس ثمة خطأ في هذا التَّهْديف؟
= في الهاوية الخامسة من الأرض الشوكية، التي سنكون بين غيومها بعد قليل، سيكون من السهل على المخدوعين في سابق الأيام تأهيل أدمغتهم الجافّة بأعين متعددة الأبعاد، قادرة على استيعاب كل ما حدث للرائي، ومحاكمته.
(-) وماذا سيجني الرائي من وراء أعمال مثل تلك؟
= أن ينتهي به المطاف في المجرى الموسيقى، حيث إعادة تكْوين الحواسّ ببطاريات قياسية القدرة على تنظيف إدارة المحفوظات من الغبار الذرّي القديم، منعاً للروتين والتكرار. بعبارة أدق: ستعوضُ لنا تلك الرادارات كلّ الخلايا الموسيقية الميتة في أجسادنا.
* شاعر وروائي وصحافي عراقي
المصدر: العربي الجديد