(الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة الثالثة من الجزء الأول– المرحلة الأولى(1/3) بقلم الأستاذ “عبد الكريم زهور”
(1/3)
المرحلة الأولى
مصدر الشرعية الوحيد المجلس الوطني للثورة
لقد دامت أزمة ثورة الجزائر شهرين، ومرت في مرحلتين، تألفت الأولى منهما من ثلاث فترات والثانية من فترتين.
أما المرحلة الأولى فيمكننا أن نعطيها هذا العنوان «مصدر الشرعية الوحيد المجلس الوطني للثورة»، لأن الصراع بين الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية التي يرأسها بن يوسف بن خدة وبين المكتب السياسي الذي يرأسه أحمد بن بلة كان يدور رسمياً حول «أيهما السلطة الشرعية، الحكومة المؤقتة أم المكتب السياسي؟ وما هي المنظمة التي تضفي أو تنزع صفة الشرعية هذه؟».
بدأت الأزمة، أو بالأحرى برزت، حين أعلنت حكومة بن خدة في ليل 30 حزيران أي عشية الاستفتاء على حق تقرير المصير، قرارها بتجريد هيئة أركان حرب جيش التحرير المؤلفة من العقيد بومدين ومعاونيه المقدم منجلى والمقدم سليمان، وعزلهم متهمة إياهم بأنهم أرادوا استخدام الجيش في مشاريعهم الحمقاء.
فقد أصدر بن بلة في اليوم الثاني بياناً من طرابلس الغرب شجبَ فيه قرار الحكومة هذا «وخاصة أنه اتخذ.. في الوقت الذي يستعد فيه الشعب الجزائري للاحتفال باستقلاله بعد 132 عام من الحكم الاستعماري». وكان قد رفض من قبل وهو في تونس الموافقة على هذا القرار، وغادرها إلى ليبيا في ظروف غامضة.
وتبين في 2 تموز أن وحدات جيش التحرير المرابطة في تونس متضامنة مع هيئة الأركان المقالة ومع رئيسها بومدين الذي أعلن عدم شرعية قرار الحكومة كما أعلنت هيئة أركان جيش التحرير في عجدة على الحدود المغربية تضامنها أيضاً مع هيئة الأركان العامة. وأتت الأنباء: أن قواد جيش التحرير في تونس منعت من دخول الأرض الجزائرية لأن الحكومة تبغي قبل ذلك ضمان ولائها.
وفي اليوم نفسه احتفل في الملعب البلدي في تونس بوداع الحكومة الجزائرية المؤقتة. وألقى في الاحتفال كل من بن خدة والحبيب بورقيبة خطاباً، فكان من خطاب بن خدة:
«وما زالت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية السلطة الوحيدة الشرعية بالجزائر .. ولئن أراد المغامرون والهدامون المس من هذه السلطة فإن الشعب يناهضهم لأنه يعلم أن النظام هو القاعدة إذا أريد البناء والتشييد..
«.. إن نتائج استفتاء أمس تقيم الدليل على أن الشعب الجزائري بأكمله يصادق على هذه الاتفاقيات (اتفاقيات ايفيان) التي تساندها الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. إن الشعب يعلم أننا ضمنا بهذه الاتفاقات حرمة ترابنا وافتككنا استقلالنا واسترجعنا المقومات التي تمكننا من السير إلى الأمام ومن انهاء تحررنا..
«.. اختار أوربيو الجزائر طوال فترة من الزمن العمل بأوامر المنظمة السرية المسلحة، ولكن سرعان ما أدركوا أن المتطرفين يقودونهم الى المخاطر وتفهموا الضمانات التي تمنحها اتفاقيات ايفيان، ونحن نأمل أن يسهلوا العمل البنّاء في الجزائر..».
وجاء في خطاب بورقيبة:
«.. أقول لإخواننا في الجزائر وللحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية إن تونس مع الشعب الجزائري دائماً وأبداً ومع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية مهما كانت التكاليف..
«.. ونعتقد ونريد أن نعتقد أن الخلافات التي جدت والغيوم التي خيمت على القضية الجزائرية في الأيام الأخيرة ستزول. وأن القرارات الصارمة التي اتخذتها الحكومة الجزائرية والقاضية برفض بعض ضباط جيش التحرير وقواده ستكلل بالنجاح وعندها يدرك الغالطون خطأهم تماماً كما حصل هنا إبان الفتنة اليوسفية..
«.. واعتقد أن أحمد بن بله طيب ونيته طيبة وربما قيل له أن الشعب الجزائري غاضب على الاتفاقيات وأغري بأن هذا الشعب يؤيده ضد الحكومة الجزائرية المؤقتة. ويقيني أنه عندما يرجع سيتفاهم مع اخوانه، ويدرك أنهم أيضاً يعتبرون اتفاقيات ايفيان وما تلاها من مفاهمات واتفاقيات ليست إلا مرحلة نحو الاستقلال.
«وهكذا عندما يوحدون جهودهم فان الغاية التي ربما يتطلع إليها الآن سي المنجلي مثلاً أو أحمد بن بلة سيحققونها في اتحاد وأخوة، وهذا أفضل ولا شك من الاندفاع في معركة كتلك التي خضناها نحن ضد جماعة صالح بن يوسف الذين قضينا عليهم. ثم سرنا الى الأمام..»
وحين وصل بن خدة إلى الجزائر يوم 3 تموز بعد ست ساعات من إعلان الاستقلال قال في كلمته رداً على عبد الرحمن فارس رئيس الهيئة التنفيذية:
«إن ادراك الشعب هو أفضل مانع للوقوف في وجه الديكتاتوريات العسكرية وفي وجه السلطة الشخصية ووجه الزعامات من مختلف الأنواع».
و كان بن بلة قد أعلن رفضه دخول الجزائر مع الحكومة المؤقتة وقال «أن قرار حل هيئة الأركان وإقالة عدد من كبار ضباطها اتخذ من قبل بعض أعضاء حكومة الجزائر ولم يتخذ بالإجماع».
هذه هي الصورة التي بدت فيها أزمة الجزائر أول ما بدت، حتي بالنسبة لمن لا اطلاع له على جذور الأزمة وتطوراتها:
- تصر حكومة بن خدة على أنها الحكومة الشرعية الوحيدة في الجزائر، مما يدل على أن الطرف الآخر ينفي عنها هذه الصفة ويضفيها على منظمة أخرى من منظمات الثورة.
- تعلن هذه الحكومة تمسكها باتفاقيات ايفيان وبما تلاها من اتفاقيات، مما يدل على أن هناك معارضة، أو على الأقل استهجاناً لانتهاء ثورة السبع السنوات والمليون شهيد إلى مثل هذه الاتفاقيات، وبخاصة إلى اتفاقيات مصطفاي- سوزيني المعروفة حينذاك (والتي لمح إليها خطاب بورقيبة ) المعقودة بين الدكتور “شوقي مصطفاي” عضو الهيئة التنفيذية و”جان جاك سوزيني” رئيس منظمة الجيش السري الفرنسي، والموافق عليها من قبل الحكومة المؤقتة.
- تعزل الحكومة المؤقتة عشية الاستفتاء، أي بتوقيت محكم، هيئة الأركان العامة لجيش التحرير متهمة قادتها، كما تلمح باتهام بن بلة، بمحاولة فرض ديكتاتورية عسكرية أو شخصية.
- يعلن بورقيبة تضامنه المطلق ومهما كانت التكاليف مع حكومة بن خدة في قراراتها الصارمة، ويشبه الأزمة في الجزائر بالأزمة اليوسفية في تونس وينذر بنهاية لمعارضي بن خدة كنهاية صالح بن يوسف واليوسفية.
- يبدو موقف حكومة بن خدة أنه الأقوى بعد أن أمسكت بزمام المبادرة ودخلت العاصمة الجزائرية بعد ست ساعات من إعلان الاستقلال.
- يتخذ بن بلة موقفاً مستقلاً عن الحكومة المؤقتة، فيرفض الموافقة على قرار الحكومة ويلمح إلى أن هذا القرار غير شرعي لأنه لم يكن بإجماع الوزراء، كما يشير إلى النتائج الخطيرة المترتبة عليه. ويرفض بإصرار دخول الجزائر مع الحكومة المؤقتة وكل الوساطات المعروضة لتسوية الخلاف.
- ترفض هيئة الأركان العامة قرار الحكومة وتعتبره غير شرعي، ويعلن جيش الحدود المرابط في تونس والجزائر تضامنه معها.
- تحاول الحكومة منع، أو تأخير، دخول جيش التحرير في تونس والمغرب والجزائر، لتتاح لها الفرصة الضرورية لتثبيت نفوذها قبل مواجهة هذه القوات شبه المتمردة عليها.
هذه هي صورة الأزمة كما بدت أول وهلة، فماذا كان موقف الجهاز السياسي السوري؟ ولكن قبل الجواب على هذا السؤال هناك جزء من الصورة خطير بالنسبة الى السياسة السورية لا بد من ذكره لتبلغ الصورة تمامها:
كان بن بلة قد زار القاهرة بعد اطلاق سراحه مباشرة، فاستُقبل هناك استقبالاً رسمياً وشعبياً حافلاً واجتمع بعبد الناصر. هذه نقطة هامة، ونقطة أخرى لا تقل عنها أهمية وهي أن عبد الناصر قال في الثاني من تموز في خطاب أمام مؤتمر القوى الشعبية ما يلي: «لا أخفي عليكم قلقي للتطورات التي تقع في الجزائر اليوم.. هناك نذر خطر داهم على المستقبل الجزائري .. وهنالك على ما يبدو الآن خلاف يهدد الوحدة الوطنية الجزائرية.. إنه لا ينبغي لنا ولا لغيرنا أن ندخل في هذا الخلاف، وليس من شأننا أن نشير عليهم بما يجب أن يعملوه.. إننا نناشدهم جميعاً بحق الدم وحق النضال وحق عَلَم الجزائر الطاهر أن يصنعوا المعجزة.. وأن يواجهوا المستقبل صفاً واحداً..». وأعلنَ أنه أرسل رسالتين إلى بن خدة وبن بلة مع علي صبري في محاولة للتوفيق وتسوية الخلاف.
الآن، وقد اكتملت صورة الأزمة بهذا الجزء الخطير «حقاً» نعود لنسأل: ماذا كان موقف الجهاز السياسي السوري؟ هل كان الموقف الثوري المتحيز ولكن إلى الاتجاه الثوري، الاتجاه الاشتراكي العربي؟ بالطبع لا، إننا نكلفه خلاف طبيعته إذا طلبنا منه مثل هذا الموقف. هل كان موقف الانسان العربي الطيب القلق على الثورة الذي يتمنى من كل قلبه أن يزول الخلاف، فقط أن يزول الخلاف، وأن يحل الوئام؟ أيضاً لا. فهل كان إذاً الموقف السياسي البارع المتحيز واقعاً وضمناً المحايد ظاهراً، ونموذج هذا الموقف موقف عبد الناصر؟ مرة ثالثة لا. لقد كان موقف الجهاز السياسي السوري موقف المتحيز بوضوح لحكومة بن خدة المهاجم باستهتار لبن بلة:
ففي 3 تموز نشرت إحدى الصحف الدمشقية مقالاً افتتاحياً بعنوان «نداء إلى قادة الجزائر»، جاء فيه: «إلا أن الأحداث الأخيرة دللت على أن بعض عناصر الثورة تأثرت بالتفكير الناصري وحاولت فرض أساليب وأنظمة تحرم شعب الجزائر من حق التفكير وتلمس السبيل الأمثل إلى البناء».
وفي العدد نفسه من الجريدة نفسها نقرأ على الصفحة الأخيرة تعليقاً نشتمُ فيه رائحة الأستاذ أكرم الحوراني، بل إنه والبيان الذي أذاعه الأستاذ الحوراني باسمه فيما بعد من نسيج واحد: الوحي الذي أملى واحد والقلم الذي «دبّج» واحد. وقد ورد في هذا التعليق:
«فقد كانت حكومة الجزائر المؤقتة في القاهرة، ثم فجأة تهرب إلى تونس.. وحقيقة هذه الحادثة ستعلن على الشعب في بيان قريب من البيانات العديدة التي يصدرها القادة الشعبيون.
وفي ذات يوم شكى فرحات عباس لأكرم الحوراني موقف عبد الناصر من الجزائر، وفي ذات يوم وقع صِدام مسلح بين فرقتين عسكريتين من ثوار الجزائر، وكاد الأمر يصبح خطير العاقبة، لولا أن عالجه القادة المناضلون بكثير من الحكمة، وهربوا من عبد الناصر الذي أراد أن يبسط نفوذه على الثورة..
.. وخشي بعض الناس أن يجهض هذا الجبل، وأن يفرق الأجنبي وعملاء الأجنبي بين ثوار الجزائر، فتكبو الثورة وتفتح ذراعيها لاستعمار جدید..»
ونكتفي الآن بهذه الفقرات الكاشفة عن نسب هذا التعليق، وسنعود اليه حين مناقشة بيان الأستاذ الحوراني.
ولم يطرأ حتى ۱۱ تموز، نهاية الفترة الأولى من المرحلة الأولى من الأزمة الجزائرية، على صورة الأزمة ما يغيرها سوى زيادة في إيضاح بعض الأجزاء وتعميق بعض الخطوط:
- أ) اتضح أن حكومة بن خدة أرسلت منذ نيسان، أي بعد أسابيع من عقد اتفاقيات ايفيان ووقف اطلاق النار، الكولونيل عز الدين وعمر أوصديق (رغم جو الاتهام الذي يحيط بالرجلين) إلى مدينة الجزائر، لينظما الوضع فيها لمصلحة الحكومة.
ب) وأوفدت في أواخر حزيران كريم بلقاسم، نائب رئيس الوزراء ورئيس الوفد المفاوض في ايفيان، إلى أرض الجزائر، على الرغم من أن اتفاقيات ايفيان تمنع دخول الوزراء إلى الجزائر قبل اعلان نتيجة الاستفتاء، ولكن الحكومة الموقتة حصلت له على استثناء خاص نتيجة تقديم مذكرة سرية إلى الحكومة الفرنسية. غير أن بلقاسم لم يستطع أن يتجاوز مهمته التمهيدية الولاية الثالثة (القبائل) ومدينة الجزائر. كما أوفدت بنفس المهمة عبد الحفيظ بوصوف وزير التسليح، ولكنه أيضاً لم يستطع أن يتجاوز الولاية الخامسة (وهران).
حـ) مارست الحكومة الموقتة ضغطاً شديداً على لجنة الاستفتاء لتعلن النتائج قبل أن تتم عمليات الإحصاء النهائية، وبالفعل أسرعت اللجنة بإعلان أن الجزائر قررت الاستقلال محتجة أن الأرقام المجموعة وحدها كافية ولو لم تتم عمليات الاحصاء. كل ذلك ليتسنى لحكومة بن خدة دخول الجزائر بسرعة وإرساء سلطتها فيها.
د) قدمت الحكومة الموقتة إلى الحكومة الفرنسية طلباً رسمياً بأن يمنع الجيش الفرنسي جيش الحدود من دخول الجزائر. وقد أخر الجيش الفرنسي بالفعل فتح الحدود اثنتي عشرة ساعة، ولكنه لم يتجاوزها كي لا تبدأ فرنسا تطبيق اتفاقيات ايفيان بخرقها.
- أ) دخلت قوات جيش التحرير المرابطة في تونس الولاية الأولى (الأوراس) في 4 تموز، ودخلت قواته المرابطة في المغرب الولاية الخامسة في 6 تموز.
ب) وصل بن بلة إلى القاهرة في 4 تموز، فاجتمع بعبد الناصر ثلاث مرات ثم غادرها إلى الرباط فوصلها في 9 تموز.
جـ) أصر بن بله على موقفه وأعلن أنه سيدخل الجزائر بوسائله الخاصة، وأنه يعد الآن مخططات أعماله في أرض الوطن. ولم يثنهِ عن عزمه وفد الحكومة المؤلف من الوزيرين رابح بيطاط ومحمد يزيد الذي اجتمع به وبمحمد خيضر، نائب رئيس الوزراء المستقيل منذ انفجار الأزمة، في الرباط يوم وصوله اليها- كما لم تجدِ كل الوساطات الأخرى- .
- صدرت عدة تصريحات كشفت جوانب هامة من الأزمة: تصريح الناطق باسم قيادة جيش التحرير في 5 تموز، وتصريح لبن بله في القاهرة في 7 تموز، وثالث في نفس اليوم لخيضر:
أ) تبين من تصريح بن بلة أن الأزمة بين الحكومة الجزائرية وبين جيش التحرير ليست جديدة وأن بن بلة نفسه حاول معالجتها وهو معتقل في فرنسا. وأن هذه الأزمة تطورت إلى وضع خطير أثناء المفاوضات بين الحكومة الجزائرية وبين فرنسا.
ب) انكشف الستار من تصريحي القيادة وخيضر عن أن مسألة الشرعية ترجع في أصولها إلى اجتماع المجلس الوطني للثورة في طرابلس الغرب بتارين ۲۷ أيار 1962. فبعد أن أقر المجلس الوطني بالإجماع البرنامج الذي وضعته قبل أيام في حمامیت ( ليبيا ) لجنة برئاسة بن بلة شكلتها الحكومة الموقتة، انتقل الى انتخاب المكتب السياسي لجبهة التحرير، وحين اتضح أن أكثرية المجلس مع المكتب الذي اقترحه بن بلة، انسحبت حكومة بن خدة من الاجتماع ومضت إلى تونس. بل إن تصريح القيادة يضيف: أن الحكومة رفضت الاستقالة حين طلب منها المجلس ذلك بأكثرية 54 من 66 صوتاً، فجانب بن بلة إذن هو المطالب بالشرعية، ويرى أن الحكومة الموقتة كانت في مواقفها بعيدة عنها.
جـ) أكد بن بلة أنه ضد كل حكم ديكتاتوري عسكرياً كان أو مدنياً. وأن المسألة ليست مسألة ديكتاتورية وديمقراطية، بل هي في أحد جوانبها مسألة جيش التحرير بأكمله الذي تريد حكومة بن بلة تصفيته.
د) اتهم بن بلة الحبيب بورقيبة بالتدخل في شؤون الجزائر. وأورد مثلاً حادث اعتقال أحد الطيارين الفرنسيين، وكيف أن بورقيبة ضغط على الحكومة الجزائرية للإفراج عنه وتسليمه إلى فرنسا رغم احتجاج قيادة جيش التحرير.
فهل زحزحت هذه التوضيحات الجهاز السياسي السوري عن موقفه؟ نعم، لقد طرأ تعديل على موقفه ولكن نحو التشدد في اتهام بن بلة، ألم يسافر إلى القاهرة؟ ألم يقابل عبد الناصر؟ إنه إذن ألعوبة بيد عبد الناصر وبيد أمريكا من وراء عبد الناصر. بل قد يكون ألعوبة حتى بيد السرّاج، فقد نشرت إحدى الصحف في 6 تموز هذا العنوان الضخم: «بن بلة يتحدث عن مخططات العمل بعد اجتماعه بناصر والسراج».
ولكن أكثر ما ظهر في تلك الفترة دلالة على موقف الجهاز السياسي السوري وعقليته، وبخاصة على موقف اليسار (نعم اليسار) في هذا الجهاز وعقليته، بيانان: أولهما للفريق عفيف البزري نشره في ۱۰ تموز، والثاني للأستاذ أكرم الحوراني في ۱۱ تموز. ولأن هذين البيانين ينطلقان من نفس المنطلقات ويهدفان إلى نفس الأهداف، بل ربما كانا منظمين على نفس الخطط، فإننا سنعرضهما ونحللهما ونناقشهما ممتزَجين على أن لا نبخس أياً منهما حقه:
ينقسم كل من البيانين إلى أربعة أقسام: مقدمة مطوّلة، ثم ذكريات عن القاهرة، فاستنتاجات واتهامات، وينتهي كلاهما بتقديم النصائح لقادة الثورة في الجزائر باتباع الطريق الديمقراطي:
(۱) يبدأ كلا البيانين بفاتحة شخصية. وتلك احدى خصائص الجهاز السياسي السوري بعامة وخصائص « اليساريين » بخاصة، وإحدى النقائص المهلكة ودليل على تخلف هذا الجهاز، ودليل دامغ لليسار بالزيف وبأكثر من الزيف؛ لأن اليسار هو المفترض به أن يدرك بعمق الصفة الجمعية للعلاقات الاقتصادية في المجتمعات الحديثة، وأن زمن البطولات الفردية، زمن « الفروسية »، قد مضى وانتهى لتحل محلها البطولات الثورية الحديثة، البطولات الجمعية القائمة على تنظيم المخططات حسب القوى الاجتماعية وقيادة الكتل الاجتماعية في تنفيذ هذه المخططات، أي أن البطولة تتبين في مقدار ما ينسلخ القائد عن شخصه، عن عواطفه وأزماته الشخصية، ليذوب من جهة في القضية الثورية وليستوحي من جهة أخرى الظروف الاجتماعية الموضوعية في التخطيط والتنفيذ كليهما.
أما الاستاذ الحوراني فيخصص عُشر بيانه (عموداً من عشرة أعمدة) لنشأته الثورية العربية وعُشراً ثانياً لموقف سورية من الجزائر، وإلى هنا وتنتهي المقدمة العاطفية.
وأما الفريق البزري فإنه والحق يقال سريعاً ما يختم الفاتحة الشخصية ليبدأ ببحث عن ثروات الجزائر النفطية والمعدنية، وعن القوى المتصارعة في الجزائر وهي برأيه أربع: ١- الشعب الجزائري بقيادة حكومته الثائرة؛۲ – الاحتكار الفرنسي الاستعماري؛ 3- المستوطنون الفرنسيون أصحاب المصالح التافهة نسبياً؛ 4- الاستعمار الأمريكي «الذي يعتمد على عبد الناصر للعمل على اجهاض الثورة الجزائرية وتحويلها إلى حركة انتهازية في حالة نجاحها ضد الفرنسيين».
ليس لنا أرب في مناقشة التواريخ الشخصية والمواقف العاطفية، ولذلك نمر على مقدمة الأستاذ الحوراني دون أن نعطف عليها، ولكننا لا بد لنا من أن نتلبث شيئا عند مقدمة الفريق البزري، لأنها على الأقل استهلكت من بیانه ثلاثة أخماسه (حوالي عمودين ونصف العمود من أربعة أعمدة)، ولأنه أراد منها أشياء كثيرة:
ا- ان تصطرع القوى الاستعمارية على البلاد المتخلفة ذلك ما لا نخالف فيه، ولكننا نخالف بشدة التجمد عند تصور هذا الصراع على شاكلة ما كان قبل الحرب العالمية الثانية، حين كانت القوى الاستعمارية وحدها التي تصول في العالم. أما بعد هذه الحرب فقد برزت قوتان أخذتا تنازعان القوى الاستعمارية السيطرة على العالم: القوة الاشتراكية، وقوة الشعوب المتخلفة الثائرة في سبيل الاستقلال القومي والاشتراكية. ولذلك أخذت القوى الرأسمالية الاستعمارية في العالم كله تتجمع تحت استراتيجية كبرى تتحكم حتى في الصراع «الداخلي» بين الدول الرأسمالية الاستعمارية. وعلى هذا الأساس بدأت تتكون في أوربا التكتلات الرأسمالية الكبرى التي انتهت إلى السوق الأوربية المشتركة، التي تحظى بدورها بتأييد الرأسمالية الأمريكية.
فأمريكا- كما يلاحظ الفريق البزري نفسه- قد أيدت فرنسا في معركة تدمير الشعب العربي في الجزائر، بل شاركت في هذه المعركة حين سلحت فرنسا بأسلحة حلف الأطلسي ودعمت الرأسمالية الاحتكارية الفرنسية في الميدان المالي الاقتصادي. ولكن أمريكا انتبهت قبل الرأسمالية الفرنسية وقبل ديغول إلى الآثار الخطرة على استراتيجية الغرب كلها وعلى مصالح الرأسمال الفرنسي ذاته من استمرار ثورة الجزائر، فأخذت تحث الحكومة الفرنسية على ايجاد حل لهذه المشكلة الكبرى، وخطاب كنيدي حول هذا الموضوع مشهور. وقد عمدت أمريكا في أزمة الجنرالات المنقلبين على ديغول، أي في أزمة المستوطنين الفرنسيين مع الرأسمالية الفرنسية إلى تأييد هذه وديغول ضد المستوطنين والجنرالات، وإن كانت على أسلوب الدبلوماسية الخفية للدول الكبرى لم تقطع العلاقات نهائياً مع المستوطنين والجنرالات ولم توئسهم يأساً مطلقاً. وظلت دائماً في صف الرأسمالية الفرنسية إلى أن أقرت اتفاقيات ايفيان فحصلت على بركتها الأبوية. وليس معنى ذلك أن التناقضات بين الرأسمال الأمريكي والرأسمال الفرنسي قد زالت وزال معها الصراع، بل معناه أن هناك تسويات ولو مؤقتة بين الرأسمالين قد تمت حول موضوع الجزائر، وأن الصراع قد أخذ صورة جديدة غير الصورة التقليدية المعروفة.
ومن هنا نتبين الأخطاء المهلكة التي نقع فيها إذا نحن أغفلنا ذاك التطور في القوى الدولية والمرحلة التي بلغها الرأسمال الدولي، وطبقنا على نحو آلي الصورة العتيقة للصراع الاستعماري. وهذا ما وقعت فيه مثلاً الشيوعية الفرنسية المتجمدة في مواقفها من معارك تحرر الشعوب المستعمَرة من قبل فرنسا وما استجرت إليه الأحزاب الشيوعية في تلك الشعوب المستعمَرة. ومواقف الحزبين الشيوعيين الفرنسي والجزائري من ثورة الجزائر وحدها- إذا لم نشأ أن نذكّر بموقف الحزبين الشيوعيين الفرنسي والسوري اللبناني في معركة تحرير سورية ولبنان- كافية للتدليل على أخطاء التجمد عند مواقف نظرية وعملية فات أوانها. والغريب بعد ذلك أن يتطور تحت ضغط الواقع موقف الحزب الشيوعي الجزائري من الثورة ومن القوى المصطرعة في قلب الثورة. وأن يثبُتْ اليساريون في سورية عند المواقف المتجمدة. والسؤال الآن: علام يدل هذا التجمد، هذا إذا كان تجمداً وحسب?
۲- لا شك أن ثبات ثورة الجزائر واستمرارها سبع سنوات فكك المصالح التي كانت من قبل متداخلة، مصالح الرأسمال الاحتكاري الفرنسي ومصالح المستوطنين الفرنسيين، وأوقع بينها وكان من نتائج الصراع بين العقلية الاستعمارية العتيقة المتمثلة بالمستوطنين والتي كانوا يغذونها في فرنسا وفي الجيش الفرنسي خاصة، وبين العقلية الاستعمارية الجديدة المتمثلة بالرأسمال الاحتكاري، تلك الانقلابات العسكرية في الجزائر التي حملت إلى الحكم ديغول ثم انقلبت عليه. ولكن هذه الانقلابات التي قام بها الاستعماريون القدماء قطف ثمراتها الاستعماريون الجدد. كل ذلك صحيح، ولكن منذ ما مكن الاستعماريون الجدد قبضتهم على الحكم وخطوا نحو حل مشكلة الجزائر، لم يعد المستوطنون قوة خطرة عليهم، بل أخذ يعود نوع من الانسجام جديد بين مصالح الرأسمال الاحتكاري وبين مصالح المستوطنين، وأصبح هؤلاء أداة ضغط على الثورة الجزائرية بيد الاستعمار الجديد ومنفذاً له إلى أرض الجزائر. وهذا ما انتبهت إليه اتفاقيات ايفيان وما راعته بعناية . وهذا أيضاً ما انتبه إليه وإلى عقابیله الثوريون، وما جعلهم ينقمون على اتفاقيات ايفيان وما تلاها من اتفاقيات، وكان من أكبر عوامل الأزمة. فكل حديث بعد اتفاقيات ايفيان عن تناقض في المصالح ذي بال بين الرأسمال الفرنسي وبين المستوطنين إنما هو حديث بائد انقضى زمانه.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
يتبع.. الحلقة الرابعة بعنوان: المرحلة الأولى(2/3).. بقلم الأستاذ “عبد الكريم زهور”