علي حبيب الله *
“شو كِنّو الشاعر مجنون
ما بيعرف عين الحلوة
مطرح ما عينك بتكون
بيكون عـين الحلوي”.
هذه أبيات لردّة شعريّة باللكنة اللبنانيّة، يُقال إن أحد شعراء زجل لبنان، قد ردّدها متغزِّلا بصحافيّة أعجبته، كانت تسأل عن الطريق المؤدّي للمخيّم، في ثمانينيّات القرن الماضي. وإلّا، فما الذي يدفع شاعرا لبنانيًّا من أيّ طائفة كان، إلى أن يتغزّل بمخيّم للفلسطينيين؟ وبخاصّة في تلك الفترة التي كانت الحرب الأهليّة اللبنانيّة فيها، تنهش لبنان عن بِكرة أبيه، ومعه مخيّمات الفلسطينيين الذين حُمِّلوا زورا، وِزر سبب اندلاع تلك الحرب.
على أيّ حال، لم يعُد أحد يتذكّر قائل تلك الأبيات، ولا الصحافيّة التي قيلت الأبيات فيها، بينما ظلّت الأبيات متّصلة بمخيّم عين الحلوة، الذي أطلق عليه أهله وعموم الفلسطينيين، تسمية “عاصمة الشتات”، لأنه كان أكبر مخيّم يضمّ عددا من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان على الرغم من ضيق مساحته، التي لا تزيد عن 1,5كم مربّع.
من العين الحلوة:
لمخيّم عين الحلوة حكاية عن نشأته، متّصلة بعين ماء كانت تنبع بالقرب من مدينة صيدا، على بُعد بضعة كليو مترات منها جنوبا، ما بين منطقة سيروب وأرض المية مية التي أُقيم عليها مخيّم المية مية، بجوار نهر البرغوثي، وبالقرب من منطقة السّكّة(1). وقد كانت هذه المنطقة قبل قدوم اللاجئين الفلسطينيين، معسكرا للجيش البريطانيّ خلال الحرب العالميّة الثانية(2). أقام الفلسطينيون اللاجئون من قرى الجليل سنة 1948، ونصبوا شوادر مأواهم قربها. ورغم مرارة تجربة الاقتلاع والتهجير في حينه، إلّا أنّ اللاجئين وجدوا لمياه تلك العين عذوبة خاصّة؛ “نبعة ميّتها حلوي” بالعاميّة الفلسطينيّة، فأطلقوا عليها عين الحلوة، ومن اسمها اشتُقّ اسم المخيّم.
ولمّا قامت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (“أونروا”)، بعد تأسيسها باستئجار قطعة أرض سنة 1950، لنقل المخيّم وتشييده عليها، حمل اللاجئون المخيّم واسمه معا معهم إلى موقعه الجديد والحالي. ولمّا كان يفتقر المخيّم إلى شبكة مياه، ظلّت النسوة اللاجئات تنقل المياه على رؤوسهن في أوعية من التنك من العين إلى المخيّم، إلى أن استحدثت الأونروا حنفيّة مياه واحدة داخل كل تجمّع من التجمّعات التي كان يتشكّل منها المخيّم، مشبوكة بخطّ سحْب المياه من العين التي ظلّت مشربا لأهالي عين الحلوة على مدار عقود(3).
والجدير بالملاحظة، هو علاقة نشأة المخيّم الفلسطينيّ عموما بسؤال الماء، وقلّما جرى الانتباه إلى تلك العلاقة ودراستها فلسطينيًّا، وفي لبنان خصوصا، حيث كان للماء كبير أثر في تشكيل الوعي الفلسطينيّ بوجع الهزيمة واللجوء، والذي كان سابقا على اختيار موقع إقامة أيّ مخيّم، وذلك من لمّا اقتُلع سكّان الجليل من قراهم، وساروا إلى لبنان، حيث تنبّه كثيرون منهم إلى هزيمتهم في طريقهم، عندما وجدوها بلون العطش. فمنهم من أُقفلت في وجهه آبار الماء، بعد أن وضع أصحابها أقفالا على أبوابها، للحدّ الذي اضطر فيه بعض اللاجئين لشراء الماء؛ فانتبهوا إلى نكبتهم(4).
انحدر لاجئو مخيّم عين الحلوة عند تأسيسه من عدّة قرى ومدن فلسطينيّة منها: عمقا، وصفوريّة، وطيطبا، والمنشيّة، والسميريّة، والنهر، والصّفصاف، وحطّين، والرأس الأحمر، والطيرة، وترشيحا، ولوبية، وعكبرة، وعرب أبو شوشة، ونمرين، ودير الأسد، وكفركنا، وعكّا، والناصرة.
وتحمل أحياء المخيّم، البالغ عددها واحدا وثلاثين، أسماء القرى والمدن المذكورة، كما في باقي المخيمّات(5)؛ فهذا حيّ حطّين وذلك صفوريّة، وما تزال تعابير مثل “أعراس الزيب” أي أهالي حيّ الزيب، متداولة بين أهالي المخيّم.
والأزمة الأخيرة التي أدّت إلى الاشتباك المسلَّح، مساء السبت الماضي في المخيم، قد اندلعت بسبب “شباب الصفصاف” أي شباب حيّ الصفصاف في المخيّم.
تُحيط بمخيّم عين الحلوة من شماله مدينة صيدا، بينما قريتا مغدوشة ودرب السيم المسيحيتين، تحيطان به من جنوبه، ومن الشرق منه قرية المية مية والتي يُنسب المخيّم الفلسطينيّ عندها لها، ومن شماله الشرقيّ تُحيطه حارة صيدا الشيعيّة. فهكذا هو لبنان، حيث أحياء المدن والقرى وجهات الأرض على دين أهلها. واللافت أن اللاجئين الفلسطينيين لم يفلتوا من مناخ لبنان الطائفيّ؛ ففي غير مقابلة شفويّة سُئل فيها لاجئون معمّرون عن قراهم المهجّرة في فلسطين، والتّركيبة الاجتماعيّة فيها قبل النكبة، نجد أن بعضهم يستعين بقاموس لبنان الطائفيّ، كالقول مثلا: “إحنا أهل قرية شَعَب، كُنّا كلنا سُنة”(6)– يقصد على مذهب أهل السُنة- بينما لم يكن أهالي قرية شَعب قبل تهجيرهم من الجليل عام 1948، يصنّفون أنفسهم هذا التصنيف، لا بل لم تكن مُفردة “سُنة” مألوفة لألسنتهم أصلا. فهو تصنيف مُستدخَل بأثر رجعيّ من قاموس لبنان، ونظامه الطائفيّ.
ولعين الحلوة، خمسة مداخل تاريخيّة؛ المدخلان “الفوقاني” و”التحتاني”، ومدخل سيروب- مغلق من قبل الجيش اللبناني-، ومدخل درب السيم، وطريق الحسبة. كما توجد في داخل المخيّم أربعة شوارع رئيسيّة، الشارعان “الفوقاني” و”التحتاني”، وشارع شبايطة، وشارع القُدس (الطوارئ).
“المكتب الثاني”… أوّل الوجع:
“طفّوا الضَّو وناموا”… جملة ما يزال كبار أهالي مخيّم عين الحلوة يتذكّرونها، على لسان عناصر مخابرات “المكتب الثاني” اللبنانيّة في خمسينيّات وستينيّات القرن الماضي، إذ كانت المخابرات تحظر على أهالي المخيّم، السَّهَر إلى ما بعد السّاعة التاسعة ليلاً(7).
في الوقت الذي كان الفلسطينيون الذين ظلّوا في أرضهم- فلسطينيو 48- يخضعون للحُكم العسكريّ الصهيونيّ، ما بين عامَي 1948– 1966 في البلاد، كان لاجئو المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان، يخضعون مثلهم لحُكم عسكريّ – أمنيّ، بإشراف المخابرات اللبنانيّة، وقد استمرّ ذلك من عام 1948 حتّى عام 1969 مع اتّفاق القاهرة، الذي منح بدعم من جمال عبد الناصر شرعيّة لوجود منظّمة التحرير الفلسطينيّة على الأراضي اللبنانيّة، لتصبح المخيّمات تحت إشراف المنظّمة.
خضع مخيّم عين الحلوة منذ نشأته، لسيطرة ما يُعرف بـ”الشعبة الثانية أو المكتب الثاني”، أحد فروع المخابرات اللبنانيّة، الذي استبدّ بأهالي المخيّم، وعاملهم على أنهم “خارجون عن القانون”، وعلى أنهم مُعادون للنظام اللبنانيّ في حينه إلى الحدّ الذي وصل بالمكتب، حظر السَّهَر على أهالي المخيّم، ومنْع أكثر من شخصين السَّيْر معا في طرقات المخيّم تحت ذريعة منع التجمُّع والتظاهُر. كما كانت فترة حُكم المكتب الثاني، من أشدّ الفترات وطأة على حياة أهالي المخيّم، وباقي المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان عموما، حيث مُنع فيها اللاجئون من تدريس تاريخ وجغرافيا فلسطين، وإنشاد النشيد الوطنيّ الفلسطينيّ، ورسم خريطة فلسطين، وحتّى رفع العَلم الفلسطينيّ، كان ممنوعا في المخيّم(8).
في كانون الثاني/ يناير من عام 1966، شهد مخيّم عين الحلوة أوّل وأكبر جنازة منذ نشأته. كانت جنازة الشهيد جلال كعوش، ابن قرية ميرون المهجّرة في قضاء صفد، أوّل شهيد في كلّ مخيّمات اللجوء الفلسطينيّ في لبنان، والذي استشهد تحت التعذيب داخل أحد أقبية سجون مخابرات المكتب الثاني في منطقة اليرزة اللبنانيّة(9). بينما في سنة نيسان/ أبريل من سنة 1969، انطلقت من عند جمّيزة المخيّم الشهيرة، جنازة مهيبة، شقَّت طرقات المخيّم، مرورا بشوارع مدينة صيدا نحو مقبرتها، حيث شيّع أهالي عين الحلوة أوّل شهيد من أبناء المخيّم في الثورة الفلسطينيّة، وهو الشهيد عبد العزيز عبد القادر موعد من قرية صفوريّة المُهجّرة في الجليل. حُمل الشهيد موعد، ملفوفا بالعلَم الفلسطينيّ من الأردن، حيث قضى في معركة مع جيش الاحتلال، مرورا بسورية، وصولا إلى المخيّم في لبنان. وقد تزامن استشهاد عبد العزيز موعد مع هبّة نيسان كما يُسمّيها أهالي المخيّم، سنة 1969، إذ جرى فيها تحرير مخيّم عين الحلوة وباقي المخيّمات الفلسطينيّة من ظُلم وسيطرة مخابرات “المكتب الثاني”، بعد ما يقارب العقدين من القمع والعزل والقتل والتنكيل.
إلى العاصمة:
لم يحظَ أيّ من مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، بثقلٍ وترميز مثلما حظي مخيّم عين الحلوة، فقد تحوّل منذ سبعينيّات القرن العشرين إلى ملاذ يلوذ به باقي أبناء المخيّمات، ممّا جعله “عاصمة الشتات الفلسطينيّ”. كما لم يعرف أيّ مخيّم فلسطينيّ في كلّ مواقع اللجوء الفلسطينيّ، تحوّلات مثلما عرف عين الحلوة، الذي ازدادت كثافته السكّانيّة للحدّ الذي عجز فيه أيّ إحصاء عن تقديم ولو رقم تقريبيّ عن سكّانه؛ فالتقدايرات لتعداد سكّان المخيّم، تقدِّر التعداد السّكّانيّ فيه اليوم، بنحو 60 ألف لاجئ، علما بأن المخيّم، يشهد -ومثله باقي المخيّمات الفلسطينيّة- هجرة صامته إلى خارج لبنان، منذ عقود، تكثّفت في العقدين الأخيرين.
ظَلّ عين الحلوة يشهد نزوحا مستمرًّا إليه منذ خمسينيّات القرن الماضي، فأُقيمت امتدادا له تجمّعات صارت جزءا منه، منها تجمّع “البركسات” الذي أُقيم سنة 1954، على إثر حركة اللجوء المتّصلة بنكبة عام 1948. كما أُقيم تجمُّع “الطوارئ” في سنة 1965، والذي صار مقصدا لنازحي أحداث نكسة عام 1967(10).
في سنة 1974، نزح إلى مخيّم عين الحلوة، نحو ثلاثة آلاف لاجئ فلسطينيّ، قادمين من مخيّم النبطيّة، بعد أن قصفته طائرات الاحتلال الإسرائيليّ، وسوّته بالأرض. ثمّ كانت مذبحة مخيّم تلّ الزعتر الشهيرة في يوم الثاني عشر من آب/ أغسطس 1976، حيث اقتحمت ميليشيات لبنانيّة المخيّم بتغطية من النظام السوريّ، وارتكبت مجزرة، ومُسِح على إثرها المخيّم عن بِكرة أبيه، ثمّ تمّ تجريفه وترحيل أهله بلا رجعة. نزح معظم أهالي تلّ الزعتر إلى عين الحلوة. وعلى إثر أحداث النبطيّة وتلّ الزعتر، أُقيمت تجمّعات على هامش مخيّم عين الحلوة للنازحين، مثل تجمّع “العودة” الذي تأسَّس سنة 1974، بالقرب من خطّ سكّة الحديد القديم. وتجمُّع “درب السيم” الذي تأسّس سنة 1981 من الجهة الجنوبيّة لمخيّم عين الحلوة. ومُعظم نازحي هذه التجمّعات كانوا من مخيّمَي النبطيّة وتلّ الزعتر(11).
في سنة 1982، أُقيم تجمُّع “البستان”، شمال عين الحلوة، وذلك على إثر الاجتياح الإسرائيليّ، الذي ضمّ لاجئين نازحين من مخيّمات بيروت، ومعهم لاجئون من النبطيّة وتلّ الزعتر. أما تجمُّع “أوز”، الملاصق تماما للمخيّم من شماله، فقد أٌقيم في سنة 1986، على إثر حرب المخيّمات(12)؛ ليصبح عين الحلوة بذلك، أكبر مخيّمات لبنان من حيث عدد السّكّان والمساحة، ومن هنا اعتُبِر عاصمة لشتات الشّتات في لبنان.
هوامش:
1- حمودي، سناء، مخيم عين الحلوة: “عاصمة الشتات”، ضمن ملف مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، تاريخ 26/4/2019.
2- مخيم عين الحلوة: عاصمة الشتات الفلسطيني في لبنان، موقع بوابة اللاجئين الفلسطينيين، تاريخ 24/6/2020.
3- حمودي، سناء، المرجع السابق.
4- ورد ذلك عن إقفال آبار الماء في وجوه اللاجئين في أكثر من رواية. راجع: عجاوي، أحمد عبد الحميد، قرية علما قضاء صفد، مقابلة شفوية، موقع فلسطين في الذاكرة، تاريخ 19/7/2007.
5- المحمد، محمد عبد الحافظ، مخيم عين الحلوة: بقعة خارج لبنان، أكاديمية دراسات اللاجئين، لندن، 2012، ص5.
6- راجع: أبو الهيجا، محمود محمد، قرية شعب قضاء عكا، مقابلة شفوية، موقع فلسطين في الذاكرة، تاريخ 1/3/2010.
7- حجاج، نصري، أن تكون فلسطينيا في لبنان، موقع “درج”، تاريخ 29/7/2019.
8- المرجع السابق.
9- عبد الحفيظ، عيسى، الذاكرة الوفية- جلال كعوش، الحياة الجديدة، تاريخ 21/2/2017.
10- المحمد، محمد عبد الحافظ، المرجع السابق، ص7.
11- المرجع السابق، ص7.
12- المرجع السابق، ص7.
ــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب فلسطيني وباحث في التاريخ الاجتماعي
المصدر: عرب 48