أمجد أحمد جبريل *
تقرأ هذه الورقة في المواقف والسياسات والأدوار العربية تجاه القضية الفلسطينية، بغية الوقوف على سيناريوهات العلاقات العربية الفلسطينية، ومستقبل البعد العربي في القضية الفلسطينية على ضوء ثلاثة متغيرات أساسية؛ مآلات عملية التسوية، وحصيلة التطبيع العربي الإسرائيلي، وتأثيرات السياقات الدولية والإقليمية على السياسات العربية تجاه فلسطين.
وعلى الرغم من استمرار الخطابات الرسمية العربية في التأكيد على “مركزية قضية فلسطين”، (كما يُلاحظ في البيانات الختامية للقمم العربية وبيانات وزارات الخارجية العربية)، فإن ثمّة تراجعًا على مستويين؛ أحدهما الالتزام بالحدّ الأدنى من دعم القضية، والاستنكاف حتى عن تنفيذ قرارات عربية سابقة، خصوصًا عند اشتداد الضغوط الأميركية على الطرف الفلسطيني، كما حدث إبّان قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب 6 كانون الأول/ ديسمبر 2017، بالاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل؛ إذ لم تستطع أيٌّ من البلدان العربية تفعيل القرار الصادر عن القمّة العربية (في عمّان عام 1980)، في شأن قطع جميع العلاقات مع الدول التي تعترف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، والذي أعيد تأكيده في عدد آخر من القمم العربية[1].
والآخر تغيّر مضمون السياسات العربية تجاه القضية الفلسطينية التي تكاد تنحصر في: تقديم مساعدات مالية، و”الإدانات اللفظية” للانتهاكات الإسرائيلية، وإعادة طرح “مبادرة السلام العربية”، ودعم مسارات عملية التسوية مع إسرائيل، على الرغم من تعثّرها المتكرّر ومحدودية نتائجها، على الصعيدين الفلسطيني والعربي، بالتوازي مع تحفّظ أغلب الدول العربية على إقامة علاقات مع قوى المقاومة الفلسطينية، أقله من باب توسيع البدائل والخيارات العربية، بدلًا من استمرار الرهان على التسوية، بوصفها “خيارًا استراتيجيًّا عربيًّا”.
اتجاهات السياسات العربية تجاه قضية فلسطين:
عند تحليل المواقف والسياسات والأدوار العربية الراهنة تجاه القضية الفلسطينية، يمكن التمييز بين اتجاهين أساسيين؛ أحدهما الدول العربية التي تؤيّد منطق التسوية وفق صيغة أوسلو؛ التي تعني ربط التطبيع العربي مع إسرائيل بمصلحة الفلسطينيين، بوصفها “المصلحة العربية العليا”. والآخر اتجاه الدول العربية المؤيدة “صفقة القرن”، (أعلنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب 28 كانون الثاني/ يناير 2020)؛ إذ أصبح مسار التطبيع منفصلًا عن تطوّرات قضية فلسطين، على نحو ما تجلّى في اتفاقات أبراهام عام 2020؛ إذ لم تعد العلاقات العربية مع إسرائيل، من حيث المبدأ، محلّ إدانة في السياق الرسمي العربي[2].
وعلى الرغم من اختلاف هذين الاتجاهين في السياسات العربية تجاه فلسطين، (أوسلو وصفقة القرن)، ثمّة تحدّيات يواجهها كلا الاتجاهين، على ضوء التقدّم المطّرد في هيمنة اليمين على المشهد الإسرائيلي على نحو ما ظهر في انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، خصوصًا مع سعي إسرائيل إلى تحقيق مزيد من التطبيع مع الدول العربية والإســلامية، بالتوازي مع خوض حروب ومواجهات لتكريس يهودية الدولة وضمان أمن إسرائيل.
تأثير السياقين الدولي والإقليمي:
في ظلِّ المرحلة الانتقالية التي يمرُّ بها النظامان الدولي والإقليمي، ثمّة أربعة متغيّرات متداخلة تؤثّر على السياسات العربية تجاه فلسطين، وعلى مسار النضال الفلسطيني، على نحوٍ ربما يعيد صياغة العلاقة الجدلية بين البعديْن العربي والفلسطيني في قضية فلسطين.
1- انشغال إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بأولويات الحرب الروسية الأوكرانية، والملف النووي الإيراني، وتحدّيات التعامل مع تصاعد الدور العالمي للصين، بالتزامن مع بروز تحدّيات جديدة في العلاقة الأميركية مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، التي يرى بعضهم أنها تمرّ بعميلة “إعادة تقييم”[3]، على الرغم من كونها “خلافًا محدودًا”، حتى مع عدم ارتياح إدارة بايدن لنتنياهو وحكومته[4].
وعلى الرغم من أن أقصى ما تطمح إليه واشنطن الإبقاء على طرح حلّ الدولتين قائمًا، بسبب انعدام بدائل له، ورغبة واشنطن في منع انفجار الوضع الفلسطيني، (كما يكشف تحذير مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية، وليام بيرنز، من انتفاضة ثالثة[5])، فإن مجمل التفاعلات الدولية والإقليمية تشير إلى زيادة تأثير فاعلين دوليين وإقليميين آخرين، (مثل الصين وروسيا والهند وتركيا وإيران)، في إقليم الشرق الأوسط، ما يعني استحالة تجاهل تداعيات سياسات هذه الأطراف على مسار القضية الفلسطينية وتفاعلاتها، خصوصًا في حال خروجها عن عملية التسوية التي احتكرت الولايات المتحدة تصميمها وإدارتها، بغية إبعاد أية قوة دولية أخرى عنها، ولم تكن بالتالي مستعدّة لقبول أطر للسلام لا تكون نابعة من واشنطن نفسها. وعلى الرغم من كونها الحليف الأقوى لإسرائيل، حرصت واشنطن أن تكون “صانع السلام الأوحد”، ونجحت في إفشال كل المبادرات الدولية والجهود الإقليمية ومبادرات السلام التي رعتها الأمم المتحدة أو غيرها من الأطراف الدولية أو العربية[6].
وصحيحٌ أن سياسة روسيا الاتحادية تجاه فلسطين تبقى حذرةً ومتوازنةً، سيما مع تركيزها على عدم خسارة علاقاتها مع إسرائيل، واكتفاء موسكو بأداء دور “الراكب في المقعد الخلفي” في قضية فلسطين[7]، بيد أنها تبقى إلى جوار الصين فاعليْن مؤثريْن في إقليم الشرق الأوسط، كونهما عضويْن دائميْن في مجلس الأمن، ولهما تدخلات كثيفة في عدة ملفات في المنطقة.
وعلى الرغم من وجود تقديراتٍ صينيةٍ أن محادثات السلام الفلسطينية الإسرائيلية وصلت إلى طريق مسدود، لا تزال الصين ترى في فلسطين “قضية محورية” في الشرق الأوسط[8]، ما يمكن أن يدفعها نحو تعميق دورها في هذه القضية عبر التشديد على دور الأمم المتحدة في حلّها، وإبراز دور الصين (العضو الدائم في مجلس الأمن)، والدعوة إلى تدخل متعدّد الأطراف لحل القضية الفلسطينية، وتعزيز تنفيذ الصين التزامات الدولة المسؤولة في الدبلوماسية متعدّدة الأطراف[9].
وعلى خلاف تأثير الفاعلين، الروسي والصيني، في قضية فلسطين، يبدو دور الهند ملتبسًا نسبيًّا بسبب علاقاتها الجيدة مع واشنطن؛ التي تحاول إدخال الهند حليفًا استراتيجيًّا مع إسرائيل والإمارات ضمن ” مجموعة I2 – U2″، لموازنة تصاعد النفوذ الصيني في الخليج العربي والشرق الأوسط إجمالًا؛ إذ ترغب واشنطن في أن “يحلّ التعاون مع الهند في الخليج، محلّ الصين، مع تطوير بُعد دفاعي/ أمني للتعاون الإماراتي الإسرائيلي الهندي، يفيد في مواجهة الصين، ليس على المستوى الدفاعي فحسب، بل في إطار التنافس التجاري معها أيضًا”[10].
2- تصاعد تأثير البعد الإقليمي في قضية فلسطين، وصعوبة تهميش دورَيْ تركيا وإيران في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من عدم تطابق المشروعين الإقليميّين لأنقرة وطهران مع المصالح الفلسطينية والعربية بالضرورة، فإنهما يعزّزان درجة “الاستقلالية الإقليمية”، في مواجهة تصاعد التنافس الأميركي الصيني على المنطقة، خصوصًا أن قوى فلسطينية وعربية دأبت، في مناسبات مختلفة، على استدعاء الدورين التركي والإيراني، سيما في أوقات التصعيد الإسرائيلي ضد قطاع غزة أو الضفة الغربية.
وعلى الرغم من تأييد تركيا حل القضية الفلسطينية عبر تطبيق قرارات الأمم المتحدة القائمة على حلّ الدولتين، وانسحاب إسرائيل من أراضي عام 1967، وأن تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، وإيجاد حلّ عادل لقضية اللاجئين، وتأييد أنقرة المبادرة العربية للسلام، فإنها تنتهج سياسة متوازنة تجاه القوى الفلسطينية، وترى أهمية تحقيق المصالحة الفلسطينية لاستئناف عملية التسوية وإنجاحها[11].
ويبدو أن صعود وزن تركيا الإقليمي وتحالفاتها الدولية الواسعة تدفع دولًا عربية لاستدعاء دورها خصوصًا في أوقات التصعيد الإسرائيلي؛ إذ زارها وزير الخارجية المصري، أحمد أبو الغيط، إبّان حرب غزة يناير/ كانون الثاني 2009 طالبًا مساعدتها في الضغط على إسرائيل لكي توقف عمليتها العسكرية[12]. كما زار وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، تركيا 4 تموز/ يوليو 2023؛ إذ شجب وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، العملية العسكرية الإسرائيلية في جنين، مطالبًا بوقف فوري لهجمات واعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين، وأكّد على اتفاق أنقرة وعمّان التام بشأن وضع الأماكن المقدسة في القدس[13].
وعلى صعيد تأثير الدور الإيراني على قضية فلسطين والسياسات العربية تجاهها، ثمّة توقّعات بأن ينعكس التقارب السعودي الإيراني إيجابيًّا على القضية الفلسطينية لاعتبارين؛ أحدهما هيمنة اليمين المتطرّف على مقاليد السلطة في إسرائيل، وتزايد الاستفزازات الإسرائيلية واعتداءات المستوطنين على المسجد الأقصى والمقدسيين والفلسطينيين في الضفة الغربية عمومًا، والآخر عودة الخطاب السعودي إلى التأكيد على المبادرة العربية للسلام لسنة 2002، في إشارة إلى عدم استعداد الرياض للالتحاق باتفاقات أبراهام، في ظلّ حالة الانسداد الكامل التي تواجه مسار التسوية السياسية[14].
بالإضافة إلى احتمال تصاعد الدور الإيراني بسبب عودة حركة حماس إلى “محور المقاومة” الذي تقوده طهران، خصوصًا مع سعي القوى الفلسطينية في غزّة إلى تعزيز المقاومة تحت عنوان “وحدة الساحات”، كما تجلّى إبّان اعتداء القوات الإسرائيلية على المعتكفين في المسجد الأقصى 5 نيسان/ أبريل 2023، ما شكَّل فرصة مناسبة لتقديم “نموذج” عن ترابط الساحات؛ إذ أثبت المسجد الأقصى قدرته على جمع الساحات الفلسطينية رغم كل انقساماتها، مع تصاعد احتمال اتساع رقعة المواجهة ضد إسرائيل لتشمل دولًا من الجوار[15].
3- هيمنة تيار اليمين الإسرائيلي المتطرف على توجّهات الدولة والمجتمع الإسرائيليين، في ظل توجّه عام نحو “السلام الإقليمي” و”تجميد الصراع”؛ إذ يرى رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو الفلسطينيين “عنصرًا هامشيًّا” في معادلة الشرق الأوسط، وأن اتفاقًا مع باقي الدول العربية يمكن أن يقود إلى سلام معقولٍ مع الفلسطينيين؛ بمعنى أن سياسة إسرائيل هي “تحييد القضية الفلسطينية وإضعافها”، وبالتالي إخضاع الطرف الفلسطيني لحلول مناسبة لإسرائيل. وعلى الرغم من رهان إسرائيل على اتفاقيات التطبيع، فإن استمرار رفض الشعوب العربية هذا التطبيع يمكن أن يرفد النضال الفلسطيني بحاضنة شعبية عربية، مع الإقرار بأن التحدّي يبقى في إقناع النظم العربية برفض هذا التطبيع[16].
وقد يكون تجاوز تيار اليمين الإسرائيلي حلّ الدولتين، ووضوح تحوّل إسرائيل إلى “منظومة أبارتهايد وتمييز عنصري”، من أبرز التحدّيات أمام الفلسطينيين والسياسات العربية في المستقبل القريب، خصوصًا بعد تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (26 حزيران/ يونيو 2023)، أمام لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست الإسرائيلي بأنه “يجب العمل على اجتثاث فكرة إقامة الدولة الفلسطينية، وقطع الطريق أمام تطلعات الفلسطينيين لإقامة دولة مستقلة لهم، وتأكيده في المقابل أن إسرائيل تريد بقاء السلطة الفلسطينية، وليس انهيارها، ولكن على إسرائيل الاستعداد لفترة ما بعد الرئيس محمود عباس”[17].
4- تسارع مسارات التطبيع العربي الإسرائيلي؛ إذ أصبحت صراعات المحاور الإقليمية في الشرق الأوسط تدفع بعض الدول العربية إلى الانخراط في درجاتٍ مختلفةٍ من التطبيع الاقتصادي والسياسي والأمني والاستراتيجي مع إسرائيل، ربما وصولًا إلى مستويات من التحالف مع دولة الاحتلال، بالتوازي مع تصاعد تهميش قضية فلسطين عربيًّا، في سياق ضعف تماسك الإطار العربي، والتنكر لمفاهيم “الأمن العربي” و”القضايا العربية”، خصوصًا في ظلّ تصاعد تأثير العوامل الخارجية، الدولية والإقليمية، في الدول العربية، وتزايد التنافس العربي على الرضا الأميركي، وتحوّل نظرة بعض النخب العربية لإسرائيل بوصفها “موازنًا إقليميًّا لإيران”[18].
وفي هذا السياق، ثمّة من يشير إلى وجود “نظام أمني ضِمْني” (Tacit Security Regime)؛ يجمع بين إسرائيل والسعودية والإمارات والبحرين، ويملك تصوّرًا مشتركًا، للتهديد الإيراني، ويجسّد التصورات الأميركية، بخصوص التزاماتها تجاه أطراف هذا النظام الأمني الضمني[19].
سيناريوهات العلاقات العربية الفلسطينية:
عاملان يحكمان مستقبل العلاقات العربية الفلسطينية؛ أحدهما تشابك تأثير البعديْن، الدولي والإقليمي، على هذه العلاقات، التي تخضع لسياق خارجي ضاغط، على الرغم مما يتيحه من فرص محتملة في حال تغير أداء العامل الذاتي الفلسطيني، سواء عبر النجاح في توظيف متغيرات ذينك البعديْن، أم عبر تطوير “نموذج انتفاضي” فلسطيني ملائم لمعطيات هذه المرحلة الانتقالية في النظامين الدولي والإقليمي، بحيث ينجح في تصعيد المقاومة الفلسطينية وتطوير أدواتها مع دخول جيل الشباب إلى ميدان الصراع مع إسرائيل.
والآخر العلاقة الجدلية بين البعديْن العربي والفلسطيني؛ إذ يتبادلان التأثير والتأثر في توجيه العلاقات العربية الفلسطينية، مع أرجحيّة استمرار وزن العامل المصري في التأثير على هذه العلاقات، في حال استمرار التزام الأطراف العربية بخيار التسوية والمفاوضات والتطبيع، وترجيح تصاعد وزن العامل الفلسطيني في حال التحوّل نحو خيار المقاومة تدريجيًّا، على ضوء محدودية المكاسب العربية والفلسطينية من خيار التسوية.
وبناءً عليه، تتفاعل في أفق العلاقات العربية- الفلسطينية ثلاثة سيناريوهات:
أولاً، استمرار الوضع الراهن: من شروط هذا السيناريو استمرار النظم العربية في دعم مسار التسوية والتطبيع مع إسرائيل، ودعم قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية الراهنة، وأن تظلّ الدول العربية الرئيسية المعنية بالملف الفلسطيني معارِضة أو متحفّظة تجاه نهج المقاومة، ما يعني، في المحصلة، إعاقة أية عملية حقيقية لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني[20].
وفي هذا الإطار، يأمل رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو بأن يؤدّي تحسّن العلاقات مع العالم العربي إلى ممارسة ضغوط عربية أكبر على القيادة الفلسطينية المنهكة داخليًّا وإقليميًّا، بغية تهميشها أكثر ودفعها إلى التكيّف مع التصورات الإسرائيلية، خصوصًا أن الاهتمام بالقضية الفلسطينية لم يعد يتصدّر أولويات أغلب الدول العربية التي تعاني متاعب داخلية ومشكلات متفاقمة، وهذا ما قد يفسّر جرأة بعض الرؤساء العرب في إعلان علاقاتهم مع إسرائيل، بل وانتقاد الجانب الفلسطيني بشكل علني وصريح[21].
ويبدو واضحًا أن صعود خطاب التطبيع مع إسرائيل أدّى إلى انتقال خصومة بعض النظم العربية مع الإسلاميين إلى خصومةٍ مع حركة حماس تحديدًا، ومع قوى المقاومة الفلسطينية عمومًا، بل انعكس ذلك التغيّر في الموقف من المقاومة تصلّبًا في العلاقة مع السلطة الفلسطينية أيضًا، حيث شابها التوتّر أحيانًا[22].
ومن العوامل التي تعزز هذا السيناريو، استمرار النجاح الأميركي في تغيير السياسات الرسمية العربية تجاه فلسطين عبر دعم التطبيع ودمج إسرائيل في المنطقة العربية سياسيًّا واقتصاديًّا واستراتيجيًّا، وتأطيرها في اجتماعات دورية. ومن شروط هذا السيناريو، نجاح السياسة الأميركية في استعادة سياسة “المحافظة على الوضع القائم”، وتنشيط مسار عملية السلام، ولو بشروط أخرى وبوتيرة أبطأ، ضمن ضغوطٍ أكبر لزيادة التطبيع العربي الإسرائيلي. ومما يدعم هذا السيناريو استمرار المواقف الأوروبية، ومقارباتها الواقعية التي تفصل بين خطابها الدبلوماسي حول انتقاد الإجراءات الإسرائيلية التي تقوّض حلّ الدولتين واستمرارية العلاقات الأوروبية الإسرائيلية في مجالات الاقتصاد والبحث العلمي والتنمية[23].
وبعبارة موجزة، يعني هذا السيناريو استمرار نمط العلاقات العربية الفلسطينية، على نحوٍ يعكس استمرارية امتلاك عدة أطراف عربية أدوات ضغط على القوى الفلسطينية، التي كانت ولا تزال، تفتقر إلى الجغرافيا وبوابات العبور إلى العالم والاستقلال الاقتصادي والقدرة على إدارة التحالفات الدولية والإقليمية، على الرغم من استمرار رمزية قضية فلسطين، ووجود مستوى من تأييد الشعوب العربية لها[24].
ثانياً، سيناريو تدهور العلاقات العربية الفلسطينية: وهو مشهد يعتمد على حدوث مستوياتٍ أعلى من التطبيع العربي الإسرائيلي، وربما دخول دول أخرى في نطاقه، خصوصًا السعودية، ما يؤدّي إلى تعزيز مكانة إسرائيل الإقليمية وتهميش قضية فلسطين بصورة أكبر. ومن عوائق هذا السيناريو وجود كوابح تعرقل حدوث تطبيع كامل بين السعودية وإسرائيل؛ إذ يؤثر ذلك على صورة النظام السعودي ومكانته الإسلامية، بدون عائد حقيقي تجنيه الرياض، التي ربما تفضّل التنسيق الأمني والاستراتيجي غير المعلن مع إسرائيل، فضلًا عن تمسّك السعودية بالمبادرة العربية للسلام، التي تعطيها هامشًا للحركة الدبلوماسية عربيا ودوليًّا، مع تطوير مسارات أخرى للتطبيع مع إسرائيل بعيدًا عن العلاقات الدبلوماسية المباشرة، من قبيل توسيع التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري.
ثالثاً، سيناريو تحسّن العلاقات العربية الفلسطينية: فيما يفترض المشهدان السابقان بقاء الفلسطينيين في وضع “التبعيّة” للمواقف العربية، يقوم هذا السيناريو على نهوض العامل الذاتي الفلسطيني، بمعنى تصاعد المقاومة الفلسطينية، وتجدّد صورها، خصوصًا في القدس والضفة الغربية، ما يؤدي إلى عودة قضية فلسطين إلى التأثير في الأجندات والمصالح الدولية والإقليمية، وتراجع مستويات التطبيع العربي مع إسرائيل، وبروز مستوياتٍ أعلى من الرفض الشعبي لهذا التطبيع، خصوصًا أن عملية الجندي المصري محمد صلاح في 3 حزيران/ يونيو 2023 حملت مؤشّرًا على استمرار رفض الوعي الشعبي المصري سياسات الاحتلال على الرغم من متانة العلاقات الرسمية المصرية الإسرائيلية. علمًا أن نتائج “المؤشّر العربي” تكشف “شبه إجماع لدى المستجيبين عن أسئلة “المؤشّر” على رفض اعتراف بلدانهم بإسرائيل، وبنسب شبه ثابتة منذ استطلاع المؤشّر الأول في عام 2011 وحتى عام 2020، وتصل النسبة إلى نحو 87% في الحد الأعلى، في مقابل 9% فقط وافقوا على أن تعترف بلدانهم بإسرائيل. ويتسق ذلك مع معارضة المواطنين العرب اتفاقيات السلام التي عقدت بين إسرائيل وأطراف عربية، وتقديرهم أن إسرائيل هي الدولة الأكثر تهديدا لأمن الوطن العربي”[25]. ومن شروط هذا السيناريو:
1- وصول أغلب القوى الفلسطينية إلى قناعة بانعدام جدوى التفاوض والتسوية مع إسرائيل، وانعدام فرص تطبيق حل الدولتين، وفشل إدارة بايدن في إعادة إحيائه.
2- رسوخ التشكيلات المسلحة الفلسطينية في الضفة الغربية واستقطابها “جيل الشباب”، واكتسابها مزيدًا من الخبرة في مواجهة سياسات الاحتلال، وتعزيز حاضنتها الشعبية، ما يجعل قدرتها على البقاء أكبر، مع انعدام أية آفاق للتهدئة في الضفة الغربية، ويضعف السلطة الفلسطينية أكثر، وينزع مبرراتها لإنهاء المقاومة المسلحة أمام شراسة الاحتلال وتصاعد عدوانيته[26].
3- تفجّر أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية مركّبة في دول عربية، ما يؤدي إلى موجة من الثورات، بحيث تتفاعل إيجابيًّا مع تغييرات في النظامين الإقليمي والنظام الدولي، بما لا يعوق أو يجهض، وعلى الأقل يسمح حدوث حالة التغيير ويسهّلها[27].
4- حدوث تحوّلات جذرية في السياسة المصرية تجاه قضية فلسطين، وربما خروج مصر والأردن عن اتفاقيات السلام مع إسرائيل، أخذًا في الحسبان متغيرين؛ أحدهما أن تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، فاقمت تأثير التحوّلات العالمية والإقليمية على سياسات مصر الداخلية والخارجية؛ إذ كرّست انكشاف الأمن الغذائي المصري، كما تصاعدت الأزمات الداخلية، اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا، ما يدلّ على اجتياز مصر مرحلة مفصلية، قد تضعها على أعتاب اضطراب محتمل أو فوضى في أسوأ الأحوال[28].
والآخر السعي الأميركي الإسرائيلي لتوظيف أزمات مصر لتوسيع تحالفها الأمني والاستراتيجي مع إسرائيل، كما تجلّى خصوصًا في اجتماع النقب 27 – 28 آذار/ مارس 2022 (ضمّ وزراء خارجية إسرائيل والولايات المتحدة ومصر والمغرب والإمارات والبحرين)؛ إذ تردّدت مصر في “المشاركة في اجتماع النقب، لأنه يمنح إسرائيل دورًا قياديًّا في المنطقة على حسابها؛ فالقاهرة تتحفّظ على المقترحات الإسرائيلية لبناء منظومة دفاع جوي في عدد من الدول العربية، لمواجهة الطائرات المسيرة والصواريخ البالستية التي يمكن أن تستهدف إسرائيل، وكذلك إقامة نقاط ومكاتب لأجهزتها الأمنية في دول عربية، تحت غطاء التنسيق الأمني والاستخباري”[29].
5- تقدّم الدور الجزائري في دعم قضية فلسطين، وربما محاولة تغيير المواقف المصرية؛ إذ تحاول الجزائر توظيف تداعيات الأزمة الأوكرانية لتحسين مكانتها الإقليمية وتطوير علاقاتها مع كل من روسيا والصين، في سياق التنافس الجزائري المغربي، ورغبة الجزائر في إبعاد الفاعل الإسرائيلي عن إقليم المغرب العربي خصوصًا، والقارّة الأفريقية عمومًا.
6- نجاح الدبلوماسية الجزائرية في تشكيل وقيادة ائتلاف دبلوماسي عربي لدعم قضية فلسطين، عبر تنسيق تحرّكاتها مع الكويت وقطر، مع وجود إمكانية لتوسيع هذا الائتلاف، أفريقيًّا وآسيويًّا ودوليًّا، عبر التنسيق مع دول مثل جنوب أفريقيا ونيجيريا وتركيا وإيران وباكستان وإندونيسيا وماليزيا والفاتيكان وروسيا والبرازيل. وربما يعزز من هذا السيناريو نجاح الجزائر في قيادة جهد دبلوماسي عربي وأفريقي اعتراضًا على قرار رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، موسى فكي، بمنح إسرائيل صفة مراقب في الاتحاد في 22 تموز/ يوليو 2021[30]، وصولًا إلى طرد الوفد الإسرائيلي (برئاسة شارون بار – لي) من الجلسة الافتتاحية للدورة العادية السادسة والثلاثين لقمة الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا 18 شباط/ فبراير 2023[31].
خاتمة:
تمرُّ العلاقات العربية مع القوى الفلسطينية بمرحلة جديدة تعكس تداعيات المرحلة الانتقالية التي يمرُّ بها النظامان الدولي والإقليمي، على نحو يزيد من وزن العامل الذاتي التحرري الفلسطيني، مع احتمال اندلاع انتفاضة فلسطينية شاملة جديدة تغيّر الحسابات، سيما في ظل أربعة متغيّرات: أولها، انسداد الأفق أمام أي حل سياسي عادل للقضية الفلسطينية. وثانيها تسارع مستويات التطبيع العربي الإسرائيلي. وثالثها صعود تأثير إيران وتركيا في قضية فلسطين وإقليم الشرق الأوسط إجمالًا. ورابعها استمرار التجاهل الدولي للمعاناة الفلسطينية، مع تآكل القدرة الأميركية في ضبط تفاعلات الإقليم، الذي يشهد حضورًا متزايدًا للصين وروسيا والهند.
باختصار، ثمّة تغيّر ملحوظ في العلاقة الجدلية بين البعديْن العربي والفلسطيني في قضية فلسطين، ما يعكس تغيرًا في حضور البعد الشعبي، خصوصًا حضور جيل الشباب، ما يسمح بامتلاك الطرف الشعبي الفلسطيني قدرة على الضغط على المواقف الرسمية الفلسطينية والعربية، على نحوٍ يزيد الهوّة، الواسعة أصلًا، بين توجّهات الشارع العربي والنخب الرسمية، بما يعنيه من احتمال تغيير أكبر في السياقين العربي والإقليمي.
هوامش:
[1] – فتوح أبو دهب هيكل، تأثير الثورات العربية في النظام الإقليمي العربي 2011- 2019، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2021)، ص 182.
[2] – شفيق شقير، “تحولات النضال الفلسطيني في بيئة عربية متغيرة”، في: مجموعة من الباحثين، النضال الفلسطيني تحولاته وتحدياته، تحرير شفيق شقير، (الدوحة، مركز الجزيرة للدراسات، 2023)، ص 25- 27.
[3]- Thomas L. Friedman, “The U.S. Reassessment of Netanyahu’s Government Has Begun”, The New York Times, July 11, 2023. https://cutt.us/C3VY4
[4] – فكتور شلهوب، “التوتر بين بايدن ونتنياهو.. “شِجار عائلي” لا أكثر”، العربي الجديد 18/7/2023. على الرابط: https://cutt.us/F6vlq
[5] – “بيرنز: التوترات بالأراضي الفلسطينية تشبه الوضع قبل انتفاضة 2000″، الأناضول 7/2/2023. على الرابط: https://cutt.us/kXoRQ
[6] – نصير حسن عاروري، أمريكا الخصم والحكم: دراسة توثيقية في “عملية السلام” ومناورات واشنطن منذ عام 1967، ترجمة وتقديم: منير العكش، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية،2007، ص 45.
[7] – كاظم هاشم نعمة، روسيا والشرق الأوسط بعد الحرب الباردة: فرص وتحديات، (بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016)، ص 86- 90.
[8] – هويو شيانغ، “دور الصين في عملية السلام في الشرق الأوسط من منظور الحزام والطريق”، في: مجموعة مؤلفين، العرب والصين: مستقبل العلاقة مع قوة صاعدة، (تحرير مروان قبلان)، (بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2019)، ص 301- 302.
[9] – المصدر نفسه، ص 323.
[10] – وحدة الدراسات السياسية، “الرباعية الأميركية – الإسرائيلية – الهندية – الإماراتية: خلفيات التحالف وأهدافه”، تقدير موقف، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 19/7/2022. على الرابط: https://bit.ly/3PmzUVw
[11] – محمد نور الدين، “مرتكزات السياسة التركية تجاه قضية فلسطين”، الدراسات الفلسطينية، العدد 82، ربيع 2010، ص 32.
[12] – أمجد أحمد جبريل، “تداعيات العدوان الإسرائيلي على غزة: نمط جديد من التفاعلات في المنطقة أم استمرار الوضع السابق؟”، شؤون عربية، العدد 137، ربيع 2009، ص 49-57.
[13] – “تواصل الإدانات العربية والدولية للعدوان على جنين وسوناك يدعم “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، الجزيرة نت 4/7/2023. على الرابط:
[14] – “آفاق التقارب السعودي الإيراني والانعكاسات المتوقعة على القضية الفلسطينية”، تقدير استراتيجي (133)، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، أبريل/نيسان 2023. على الرابط: https://cutt.us/IoYSP
[15] – شفيق شقير، “أحداث الأقصى اختبار محدود لمواجهة إقليمية شاملة”، تعليقات الباحثين، مركز الجزيرة للدراسات 9/4/2023. على الرابط:
[16] – إبراهيم خطيب، “تأثير السياسات الإسرائيلية على النضال الفلسطيني: محطات مفصلية وسياسات مركزية”، في: مجموعة من الباحثين، النضال الفلسطيني تحولاته وتحدياته، مصدر سابق، ص 177- 178.
[17] – سعيد أبو معلا، “السلطة الفلسطينية وتصريحات نتنياهو: ثنائية اجتثاث مشروع الدولة والإبقاء على السلطة”، القدس العربي 2/7/2023. على الرابط:
[18] – عزمي بشارة، “صفقة ترامب- نتنياهو.. الطريق إلى النص ومنه الإجابة عن سؤال ما العمل؟”، دفاتر سياسات عربية، (بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)، ص 10.
[19] – Clive Jones and Yoel Guzansky, Fraternal Enemies: Israel and the Gulf Monarchies, (Oxford University Press, 2019), p. 18-19.
[20] – التقرير الاستراتيجي الفلسطيني 2020- 2021، (بيروت، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2022)، ص 344.
[21] – محمود جرابعة، “مرحلة جديدة من التطبيع العربي الإسرائيلي وآفاقه”، ورقات تحليلية، مركز الجزيرة للدراسات 26/12/2018. على الرابط:
[22] – شفيق شقير، “فلسطين: نضال في ساحات متعددة مع استمرار مسار التطبيع”، في: التقرير الاستراتيجي 2022- 2023، تحرير: عز الدين عبد المولى، (الدوحة، مركز الجزيرة للدراسات، 2023)، ص 177.
[23] – أحمد قاسم حسين، الاتحاد الأوروبي والمنطقة العربية: القضايا الإشكالية من منظور واقعي، (بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2021)، ص 223.
[24] – إبراهيم أبراش، البعد القومي للقضية الفلسطينية: فلسطين بين القومية العربية والوطنية الفلسطينية، سلسة أطروحات الدكتوراه (10)، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1987)، ص 250.
[25] – عزمي بشارة، “صفقة ترامب- نتنياهو.. الطريق إلى النص ومنه الإجابة عن سؤال ما العمل؟”، دفاتر سياسات عربية، (بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)، ص 129.
[26] – نائلة خليل، “2022… عام تصاعد المقاومة المسلحة في الضفة الغربية”، العربي الجديد 2/1/2023. على الرابط: https://bit.ly/3k3TMC1
[27] – حامد عبد الماجد قويسي، “دور الأزمات الاجتماعية والاقتصادية في موجة التغيير القادمة بالمنطقة العربية”، ورقات تحليلية، مركز الجزيرة للدراسات 4/6/2018. على الرابط: https://bit.ly/3h3rD84
[28] – أمجد أحمد جبريل، “مصر في راهنها داخلياً وخارجياً… أزمات تتصاعد ومكانة تتراجع”، العربي الجديد 21/11/2022. على الرابط: https://bit.ly/3BScAKp
[29] – وحدة الدراسات السياسية، “اجتماع النقب: دوافعه وخلفياته ومؤشرات فشله”، تقدير موقف، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 3/4/2022. على الرابط:
[30] – وحدة الدراسات السياسية، “قبول طلب إسرائيل الحصول على صفة مراقب في الاتحاد الأفريقي: كيف حصل الاختراق؟”، تقدير موقف، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 5/8/2021. على الرابط: https://bit.ly/3rVPah4
[31] – “طرد الوفد الإسرائيلي من “قمة أديس أبابا”، الشرق الأوسط 19/2/2023. على الرابط: https://bit.ly/418v1pe
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب وباحث فلسطيني
المصدر: العربي الجديد