- كيف نقرأ كتاباً ونحن نعلم أنه لمّا يصل إلى نهايته بعد؟
- نهاية القصة تفتح باب تأويلها وإعادة قراءتها، فالنهاية هي البداية الثانية التي تلقي الضوء على المعنى.
- كيف نفهم قصة لا تزال في طور الكتابة؟
- هذه هي مشكلة الكتّاب والدارسين مع النكبة الفلسطينية. فهم يقرأون ويعيدون القراءة، وبينما يقرأون وهم عازمون على كتابة القصة، يتحولون إلى جزء منها.
- هل كان غسان كنفاني راوية للقصة، أم كان بطل رواية لم تُكتب أو تروَ بعد؟
- يتحول الكتّاب إلى شخصيات أدبية، ويتحول الأبطال إلى كتّاب، والحكاية مستمرة
حدثت حكايتي هذه في مخيم شاتيلا منذ أربعين عاماً.
في 16 أيلول/ سبتمبر 1983، ذهبت إلى مخيم شاتيلا للاشتراك في الذكرى السنوية الأولى لضحايا المجزرة. مشيت في اتجاه المخيم تحت رذاذ بدايات الخريف. كانت هذه هي المرة الأولى، منذ الغزو الإسرائيلي للمدينة، التي أشمّ فيها رائحة الأرض التي أيقظها المطر الأول.
الحزن واليأس كانا يحاصرانني، فسقوط بيروت جعلني أشعر بأنني صرت غريباً في مدينتي.
المقاومة والضغط الدولي أجبرا الجيش الإسرائيلي على الانسحاب، وتسلَّم ما تبقّى من الجيش اللبناني الأمن في المدينة.
والمفارقة أن الجيش اللبناني كان بإمرة حكومة يقودها رئيس الجمهورية آنذاك أمين الجميل، وهو أحد قادة حزب الكتائب الذي ارتكبت “قواته اللبنانية” مجزرة شاتيلا بالاشتراك مع الجيش الإسرائيلي.
ذهبت في ذلك الصباح إلى المخيم متضامناً مع أحزان فلسطينيي الجليل الذين وقعوا ضحية مجزرة ذكّرتهم بالمآسي في قراهم التي طُردوا منها بالقوة قبل أن يجري تدميرها وجرفها في سنة 1948.
قرب مستديرة السفارة الكويتية بدأت أسمع أصواتاً غريبة آتية من المخيم. أُصبت بالدهشة والعجز عن الفهم حين وجدت نفسي وسط مجموعة من النساء المتشحات بالسواد وهن يلوّحن بالأعلام الفلسطينية ويزغردن.
ماذا يجري، ولمَن تزغرد النساء؟
اعتقدت أنني أرى مناماً، وأن ما أشاهده ليس حقيقياً. اقتربت من امرأة وسألتها: “ماذا يجري؟”
“انتصرنا”، صرخت المرأة.
“ماذا؟” سألتُ.
“صار عندنا مقبرة لأولادنا، أخيراً انتصرنا”، صاحت المرأة.
تركتني وحيداً لتلتحق بالجموع التي كانت تمشي في اتجاه نهاية الشارع الرئيسي في المخيم.
مشيت معهن لأجد نفسي أمام أرض فارغة وخالية من أي إشارة تدل على هويتها.
كانت تلك الأرض الخلاء هي المقبرة الجماعية التي دُفن فيها 1500 ضحية، في واحدة من أكثر مجازر النكبة رعباً ووحشية.
لن أكتب الآن الحكاية الطويلة والمأسوية لهذه المقبرة التي تحولت إلى مكبّ للنفايات بعد احتلالها من طرف ميليشيات حركة أمل بدعم من الجيش السوري، خلال ما أُطلق عليه اسم “حرب المخيمات” (1986)، وكيف قامت مجموعة من الناشطين اللبنانيين والفلسطينيين بتنظيفها كي تكون موقع بداية فاعليات الذكرى الخمسين للنكبة التي نظّمها “مسرح بيروت” في سنة 1998.
ما حيرني هو زغاريد النساء اللواتي استخدمت إحداهن تعبير “الانتصار” لوصف المقبرة. وكان عليّ أن أنتظر تسعة أعوام كي أفهم دلالات هذه الكلمة.
فخلال عملي على جمع حكايات النكبة، من أجل بناء خلفيات رواية “باب الشمس”، فهمت وأنا أستمع إلى اللاجئات واللاجئين في شاتيلا وغيره من المخيمات الفلسطينية، التروما التي أحدثها غياب المقابر في حياة الذين عاشوا كارثة 1948.
ففي تلك السنة تُركت الجثث في أزقة القرى أو في العراء، لأن الناس كانوا غير قادرين على دفن قتلاهم تحت رصاص قوات الاحتلال وأوامرها الصارمة بضرورة المغادرة، وأيضاً بسبب قيام الجيش الإسرائيلي باختيار مجموعات من الشبان وأخذهم بعيداً حيث تمّ اعدامهم، بهدف خلق مناخ من الرعب فرض على الناس النزوح من قراهم.
هذه التروما التي تعود في جذورها إلى ذاكرة 1948، ستستيقظ في سنة 1982، حين تُركت جثث مئات الضحايا لتتعفن في أزقة المخيم قبل أن يقوم الصليب الأحمر بإلقائها في حفرة المقبرة الجماعية بعد رشّها بالكلس والمبيدات.
في نصه المدهش: “أربع ساعات في شاتيلا”، قدّم الكاتب الفرنسي جان جينيه وصفاً لمشاهد ما بعد المجزرة بكلمات ذهبت إلى ما بعد الكلمات، باحثاً عن لغة ملائمة لتسمية الألم. غير أن الكاتب الفرنسي لم يستطع أن يرى في الأجساد المرمية في أزقة المخيم استحضاراً لمآسي 1948.
هل نحن أمام ذاكرة ترفض النسيان، أم أمام حاضر صارت ذاكرته جزءاً من تجربته وحياته اليومية؟
هل بقايا المناضلات والمناضلين الفلسطينيين المدفونة في مقابر الأرقام المهملة في فلسطين مجرد ذاكرة؟
وكيف نقرأ حقيقة وجود 13 جثماناً لشهداء فلسطينيين محتجزة في ثلاجات المشارح الإسرائيلية؟
هل نتكلم عن الماضي أم عن الحاضر؟
هل مجازر اللد والطنطورة وعين الزيتون … مجرد ذاكرات؟
وبأي عين نقرأ اليوم حوّارة والشيخ جرّاح والأقصى وجنين ونابلس؟
هل الماضي حاضر؟ وكيف نضع حداً فاصلاً بين زمنين متداخلين؟ ولماذا يعود الماضي حين نروي حكايات الحاضر؟ ولماذا نجد أنفسنا في الحاضر حين نتذكر؟
في هذه العلاقة المتشابكة بين الحاضر والماضي علينا أن نصوغ مفاهيم جديدة كي نستطيع أن نسمي الأشياء بأسمائها. فالنكبة الفلسطينية ليست ماضياً نتذكره، وإنما هي الكلمة التي تلخص الحياة تحت الاحتلال وفي مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في فلسطين والشتات العربي المجاور.
عندما نتحدث عن النكبة فإننا لا نتذكر حدثاً جرى وانتهى في سنة 1948، لكننا نشير إلى مسار طويل بدأ في تلك السنة، وامتد بأشكال متنوعة ومتعرجة حتى اليوم. فالنكبة هي الآن أيضاً، وهي نكبة مستمرة.
تاريخ هذه النكبة ليس خطياً، فقد شهد مراحل وانعطافات شتى، لكننا نستطيع أن نتحدث عن لحظات ذروة متعددة: 1948؛ 1967؛ 1982؛ 2002؛ 2023.
تمثل هذه الذرى محطات كبرى، لكنها لا تخفي وقائع الحياة اليومية كمصادرة الأراضي التي لم تتوقف يوماً، وبناء الغيتوات في المدن المحتلة، والحكم العسكري، وتوسع الاستيطان الاستعماري وهدم القرى “غير المعترف بها”، إلى ما لا آخر له…
انبثق تعبير “النكبة المستمرة” في مرحلتين:
المرحلة الأولى خلال عملي الميداني والبحثي من أجل كتابة روايتَي: “باب الشمس” وثلاثية “أولاد الغيتو”.
في “باب الشمس” فهمت إشكالية الصدمة والعار التي أخرست الضحية، ووجدت نفسي أخوض أمواجاً من الحكايات التي لم يسبق أن كُتبت، كأنني كنت أعيد اكتشاف ما يعرفه الجميع ولا يعرفه أحد. فمَن يعرف لم يكتب، ومَن لا يعرف لم يبحث بما فيه الكفاية. كما فهمت بأن اللاجئين اكتشفوا بحدسهم وتجربتهم أن مآسيهم الراهنة هي امتداد لمآسي سنة 1948، بحيث لا يمكن الكلام عن إحداها بمعزل عن الأُخرى. فالاجتياح الإسرائيلي للبنان في سنة 1982، ومجزرة شاتيلا، جعلاهم يعيشون مآسي قرى الجليل في سنة 1948، ومآسي بيروت في سنة 1982.
أمّا ثلاثية “أولاد الغيتو” فأخذتني في رحلة إلى حيوات الفلسطينيين داخل المناطق الفلسطينية التي احتُلت منذ سنة 1948، وصار اسمها دولة إسرائيل. كما قادتني هذه الثلاثية إلى مخيم جنين والمدينة القديمة في نابلس حيث فهمت أن فظائع الاحتلال ليست سوى استمرار لفظائع حرب نكبة 1948.
المرحلة الثانية كانت في سنة 2010، خلال نقاش مع صديقي الكاتب والمخرج السينمائي السوري علي أتاسي. فقد تمحور نقاشنا، علي وأنا، حول شجاعة العمل الفكري والسياسي الذي قام به المثقفون السوريون من خلال منتدياتهم وبياناتهم ضد الاستبداد، وهو عمل مهّد الطريق لاندلاع الثورة الشعبية السورية ضد النظام في سنة 2011.
وخلال محاولتنا فَهْم لماذا لم تجد المعارضة السورية الصدى الذي تستحقه في الأوساط الثقافية العربية، سألني صديقي: لماذا تحتل فلسطين هذا الموقع المتميز في الضمير العربي؟
حيرني هذا السؤال، لأن الأجوبة التقليدية، كأن نعيد الأمر إلى الهوية القومية العربية الجامعة، أو إلى الانتصار للكرامة العربية، أو إلى الرابط الثقافي والديني، فقدت دلالتها. ويعود هذا الأمر في رأيي إلى قيام أنظمة الاستبداد باستخدام هذا النوع من الكلام من أجل التغطية على ممارساتها القمعية. أنظمة تضطهد اللاجئين الفلسطينيين وتدمر مخيماتهم وهي تتغرغر بكلام قومي عن قدسية فلسطين، بحيث صار ادعاء حب فلسطين وسيلة لقمع الفلسطينيين وسحق الشعوب العربية. يحبون فلسطين ويكرهون الفلسطينيين ويقمعون شعوبهم، ما هذا العبث الكلامي الذي لا يطاق؟
يجب أن نبحث عن موقع فلسطين في الضميرَين العربي والعالمي في مكان آخر، ولهذا بدأت أروي لصديقي حكايات النكبة التي كتبتها، أو التي كنت أنوي كتابتها. وفي تلك اللحظة اكتشفت أن الخيط الذي يجمع عناصر الحكاية الفلسطينية كلها، في حاضرها وماضيها، هو النكبة بصفتها مساراً مستمراً.
فالمأساة المستمرة ومقاومتها التي لم تتوقف، هما السبب الذي جعل من فلسطين فكرة تختزن الضمير، وفيها يصير الدفاع عن الحقّ دفاعاً عن الحقيقة.
تم اعتماد هذا التعبير في محاضرة ألقيتُها في معهد الدراسات المتقدمة في برلين في سنة 2012، ونُشرت في “مجلة الدراسات الفلسطينية” (شتاء 2012)، كما نُشرت نسختها الإنجليزية في مجلة Critical Inquiry (شتاء 2012)، بعنوان: “Rethinking the Nakba”.
كيف نقرأ كتاباً مفتوحاً بلا نهاية؟
المؤرخ السوري قسطنطين زريق سكّ تعبير النكبة لوصف كارثة سنة 1948، في كتابه “معنى النكبة” الذي نُشر في سنة 1948 خلال حرب النكبة.
بهذا التعبير وجدت النكبة اسمها، وصار هذا الاسم عصياً على الترجمة ودخل في نسيج اللغات كافة.
ما لم يكن واضحاً، وما لم يستطع آباء الحركة القومية استشرافه، هو طبيعة النكبة باعتبارها مساراً وليس نتيجة.
“يقظة العرب”، بحسب تعبير الفلسطيني المقدسي جورج أنطونيوس، ستتخذ بعد النكبة شكل انقلابات عسكرية وأنظمة ديكتاتورية عاجزة عن محاصرة النكبة تمهيداً لطي صفحتها.
إن التغيير الذي لا يكاد يصدَّق، والذي شمل 78% من مساحة فلسطين عبر التطهير العرقي وتدمير القرى الفلسطينية وإفراغ المدن من سكانها واستبدال السكان، لم يكن نهاية الحكاية، وإنما بدايتها.
فخلال تسعة عشر عاماً من وضع الفلسطينيين في إسرائيل تحت الحكم العسكري، واجه الفلسطينيون استمراراً صامتاً للنكبة، فالأراضي تصادَر، والمدن تندثر لتحلّ مكانها مدن جديدة، والفلاحون فقدوا أعمالهم وطرق حياتهم، كما اختفى الاسم الفلسطيني.
إن ما جرى فهمه باعتباره حدثاً تاريخياً مأسوياً تحول إلى مسار لم يتوقف.
فقدان الأرض وفقدان الاسم هما سمتا النكبة، فالأرض تصادر بذرائع شتى من طرف الحكومات الإسرائيلية، والاسم يتم محوه بحيث أُطلق على الفلسطينيين الغائبين – الحاضرين اسم “عرب أرض إسرائيل”، أمّا بقية الفلسطينيين ففقدوا اسمهم في ظل أنظمة حكم عربية تفننت في إخراسهم.
هذا الترابط بين الاسم المُغيّب والأرض المصادرة أنتج العيد الوطني الفلسطيني الذي لا يشبه أي عيد في أي مكان آخر من العالم، وأُطلق عليه اسم “يوم الأرض”.
ففي 30 آذار/ مارس من كل عام يحتفل الفلسطينيون بـ “يوم الأرض” في أراضي 48 وفي كل مكان في الأرض، وفي ذلك اليوم من سنة 1976، سقط ستة شهداء حين قامت السلطات الإسرائيلية بمصادرة أراضي “الملّ” التابعة لقرى دير حنا وسخنين وعرابة وعرب السواعد.
الأرض والاسم سيتحولان إلى عنوانَي المقاومة الفلسطينية المستمرة في مواجهة النكبة المستمرة.
النكبة المستمرة ليست فقط نتاج سياسات إسرائيلية براغماتية ستتكشف بشكل واضح بعد هزيمة الخامس من حزيران/ يونيو 1967، بل إنها أيضاً نتاج فشل أو تواطوء النظام العربي.
والمقاومة المستمرة لم تواجه قوات الاحتلال فحسب، بل كان عليها أيضاً، أن تخوض حربين أهليتين في الأردن ولبنان، كما كان عليها أن تواجه الحصار والاحتواء ومحاولات الابتلاع في محيطها العربي.
إن الفشل العربي في احتواء النكبة ومحاصرتها كان العلامة الأولى على أن النهضة العربية كانت مهددة بالتحول إلى عصر انحطاط جديد، وقد قام الاستبداد بتعميم هذا الانحطاط الذي حطّم المراكز المدينية وأخذ المشرق العربي إلى الحضيض.
المشرق العربي الذي أسلم قياده لأنظمة الاستبداد العسكرية والنفطية، سيجد نفسه أمام لحظة تفكك عشوائية أوصلته إلى “اتفاقيات أبراهام” التي أعطت إسرائيل يداً حرة في التصرف في المناطق الفلسطينية المحتلة.
النكبة كتاب مفتوح لكن من دون نقطة نهاية، ولذلك سأحاول قراءته من خلال سؤالين:
السؤال الأول: الفهم وسوء الفهم
بداية، أريد أن أعترف بأن خيال الطغاة والمحتلين تجاوز الخيال الأدبي والفني، إذ يكفي تعبير “الحاضر – الغائب” ليقدم الدليل على وحشية المجاز اللغوي حين يتحول إلى ممارسة سياسية قمعية. فأنا عندما صادفت هذا التعبير في الأدبيات الإسرائيلية اعتقدت أنني أمام استعارة تصلح لأن تكون جزءاً من إحدى مسرحيات أوجين يونسكو العبثية، غير أن المؤسسة الإسرائيلية حولت هذه الاستعارة إلى تعبير قانوني!
في حكايات هذه النكبة، مثلما يرويها ضحاياها وبعض جلاديها، علينا أن نصدّق ما لا يصدَّق، وأن نتأقلم مع فكرة أن الحدود بين الحقيقي والخيالي قد تم تدميرها.
السؤال الذي طرحه فلاح فلسطيني من قرية سعسع على الجنود الإسرائيليين الذين اقتحموا قريته وقاموا بهدم بيوتها في 14 شباط/ فبراير 1948، يمكن أن يكون مدخلاً لقراءة سوء التفاهم. فقد روى موشيه كالمان، قائد الوحدة العسكرية التابعة للبالماخ، حادثة تخفي الهول في غرابتها. قال إن أحد أفراد وحدته فوجىء بفلاح فلسطيني من القرية المنكوبة يسأل مذهولاً: “إيش هادا؟”، ولمّا كان الجندي الإسرائيلي يعرف العربية فقد أجاب: “هادا إيش”، واطلق النار على الفلاح الذي قُتل على الفور.
“إيش” في اللغة العبرية تعني النار؛ هكذا مزج الجندي الإسرائيلي اللغتين، مفتتحاً ما يمكن أن نطلق عليه اسم سوء التفاهم المقصود.
إن تدمير 60 منزلاً على قاطنيها في سعسع لم يكن سوء تفاهم، وإنما كان أداة للتلاعب بالمعنى.
نار إسرائيلية وسؤال فلسطيني، هذه هي المعادلة التي أرادت إسرائيل فرضها خلال سبعة عقود. وحين يردّ الفلسطيني على النار بالنار دفاعاً عن حقّه في الوجود، يصير “مخرباً” أو “إرهابيا”!
الجواب الإسرائيلي القاتل على السؤال الفلسطيني، هو مزيج من الجهل من جهة، والغطرسة من جهة ثانية.
هل هذا التلاعب بالكلمات هو مجرد سوء فهم؟
“إيش” أي النار العبرية، ستحتل المشهد من جديد بعد سبعة وأربعين عاماً في بلدة حوّارة قرب نابلس.
ففي 26 آذار/ مارس 2023، احتفل المستوطنون الإسرائيليون بعيد “المساخر”، (“يوم بوريم”) في شوارع حوّارة التي سبق أن هاجمها وأحرقها المستوطنون قبل تسعة ايام في 20 شباط/ فبراير.
حكاية “يوم بوريم” مثلما رُويت في “التناخ” هي استعارة، والاحتفال بها رمزي. لكن حين تُفهم الاستعارة بصفتها تاريخاً، ويتم نزع ثوب المجاز عن طقوسها المرتبطة بالمجازر في الإمبراطورية الفارسية بعد مقتل هامان، عدو اليهود، وتتحول إلى ممارسة في الحاضر، تصير الحكاية مدخلاً إلى البربرية.
لقد تحولت رصاصة سعسع إلى نار حقيقية في حوارة، وسيتخذ احتفال 26 آذار/ مارس 2013 شكل رقصة همجية قام بها المستوطنون إلى جانب الجنود الإسرائيليين.
النار صارت لهباً حقيقياً، وستعيدنا إلى ذاكرة البراميل المتفجرة التي دحرجها جنود البالماخ على قرية عين الزيتون في سنة 1948.
إن ذاكرة سوء التفاهم ليست سوى ذاكرة الخوف.
لقد “أعادنا “يوم بوريم” تسعة عشر عاماً إلى الوراء، حين حلّت ذكرى هذا العيد في 25 شباط / فبراير 1994. ففي ذلك اليوم دخل مستوطن يقيم في كريات أربع في الخليل، وهو الطبيب الكاهاني باروخ غولدشتاين، إلى الحرم الإبراهيمي، وفتح النار وقتل 29 فرداً من المصلين.
والنار ستشتعل من جديد أيضاً، في 31 تموز/ يوليو 2015، حين تسللت مجموعة من المستوطنين إلى قرية دوما في الضفة الغربية، وأحرقت منزل عائلة الدوابشة، فقُتل حرقاً طفل يبلغ من العمر ثمانية عشر شهراً، إلى جانب أبيه وأمه.
النار ليست استعارة مثلما صورها الروائي الإسرائيلي ا. ب. يهوشع في قصته “إزاء الغابات”. النار هي الحكاية التي لم يستطع الفلسطيني الأخرس المقطوع اللسان روايتها عن قريته المدمرة.
سوء التفاهم ليس جهلاً أو عدم معرفة، وإنما جرى استخدامه كـ “أداة للسيطرة”، بحسب إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق”. كما تمّ فصل المضامين الأدبية لهذه الأداة عن أثرها السياسي مع أنهما متكاملان. ويصف سعيد الطرق المتعددة التي لجأ إليها سوء التفاهم هذا من أجل تركيب صورة لحضارات حُرمت من هوياتها.
فتح الكاتب الإسرائيلي س. يزهار صفحة النكبة في الأدب الإسرائيلي في روايته المتميزة “خربة خزعة” (1949)، غير أن الروائيين الإسرائيليين اللاحقين الذين تطرقوا إلى النكبة بشكل عَرضي، بقوا أسرى ترسيمة يزهار.
رواية يزهار تأخذ القارئ إلى نقطة التقاطع بين الفهم وسوء الفهم، مؤكدة صمت الضحية التي بدت في الرواية أشبه بشخصيات فيلم صامت، ولا يخترق هذا الصمت سوى صوت امرأة فلسطينية فقدت السيطرة على أعصابها، وبدت كالمجنونة وهي تحمل طفلتها الباكية الملوثة بالبراز، وتطلب من أحد الجنود الإسرائيليين أن يأخذ الطفلة، وسط امتعاض الجنود وقرفهم.
لماذا لا نستمع إلى أصوات الضحايا؟
ضحايا “خربة خزعة” ليسوا أشباحاً مثلما هي حال خليل وعزيز في رواية أموس عوز “ميخائيلي”، وألسنتهم لم تُقطع كحال الفلسطيني في “إزاء الغابات”، إنهم فلاحون مصابون بصدمة اجتياح الجنود لقريتهم وطردهم منها.
هل كان سارد القصة الجالس بعيداً غير قادر على سماعهم، أم إنه لم يكن يفهم لغتهم العربية؟
أغلب الظن أن الجوابَين ممكنان، ولا نستطيع الجزم بأن أحدهما أكثر صحة من الآخر، غير أن هذه الرواية صنعت شخصية الفلسطيني الصامت أو الشبح، والتي ستسود في الأدب الإسرائيلي.
ترسيمة يزهار ستجد انعكاسها، وإن بشكل مختلف، في رواية غسان كنفاني: “رجال في الشمس”.
أبو قيس وأسعد ومروان سيموتون في خزان الشاحنة التي كانت وسيلتهم للتسلل من العراق إلى الكويت. لقد ماتوا تحت شمس الصحراء الملتهبة في آب / أغسطس، بينما كان سائق الشاحنة المصاب بالعجز الجنسي عالقاً أمام رجال الحدود الكويتية الذين أصروا على سؤاله عن مغامراته الجنسية مع الراقصة كوكب في البصرة!
عندما فتح السائق أبواب الخزان، ووجد جثث الفلسطينيين الذين ينتمون إلى ثلاثة أجيال، ارتفعت الصرخة التي سترددها الصحراء، وستتوالد أصداؤها في الوعي الفلسطيني باعتبارها دعوة إلى المقاومة: “لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقولوا”؟
هذه الصرخة تحتاج إلى مساءلة عميقة: ماذا لو قرعوا وصرخوا ولم يسمعهم أحد؟
ولماذا لا يكون السؤال عن الصمم بدلاً من أن يكون عن الفعل والصوت والكلام؟
لم يجد الألم الفلسطيني سوى آذان صماء في الوطن العربي، أمّا في الغرب، فقد قامت أوروبا بغسل يديها من الدم اليهودي بالدم الفلسطيني. صمت الضحية ليس المسألة، فالضحية أُكرهت على الصمت، والألسنة لم تُقطع، لكن الآذان اختارت الصمم.
غسل الدم بالدم يفسر عبارة إدوارد سعيد بأنه “المثقف اليهودي الأخير”، لأنه يجسد منفى الإنسان في أرضه، وفي مخيمات اللجوء.
أمّا إميل حبيبي فوصف هذا المنفى الداخلي الفلسطيني في روايته “المتشائل”، بأنه منفى الذات عن الذات الذي قاد بطله سعيد إلى حائط مسدود، ودلّه على طريق المقاومة.
السؤال الثاني: التأويل
سؤال التأويل هو سؤال صراعي، الحاضر الفلسطيني في مواجهة التأويل الإسرائيلي، والقصة الإسرائيلية في مواجهة قارئها وضحيتها الفلسطيني.
مرّ هذا الصراع بعدة مراحل، فالصهيونية بدأت كمشروع قومي – كولونيالي، وآباء الحركة الصهيونية كانوا واعين للترابط العضوي بين تأسيس مشروع قومي، وبين البعد الكولونيالي لهذا المشروع.
البعد الاشتراكي الذي صنعته الهيمنة العمالية على المشروع أكد هذه الطبيعة المزدوجة عبر عزل الفلسطينيين عن سوق العمل اليهودية، قبل أن تتم فبركة أسطورة عدم وجودهم.
كما أن الدعم الدولي لتأسيس الكيان الإسرائيلي وجد مبرره “الأخلاقي” في الأثر المدمر للإبادة النازية لليهود في أوروبا، إلّا إن مجتمع “الييشوف” اليهودي في فلسطين، الذي ازدرى الناجين من الهولوكست، سرعان ما سيقوم بتحويل الدولة العبرية إلى نصب تذكاري للمحرقة، خلال محاكمة أيخمان وبعدها. وهذا التحويل سيضفي طابعاً إنسانياً وأخلاقياً على دولة قامت على أنقاض نكبة سكان البلد الأصليين فيها. وحتى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987)، بقي الاسم الفلسطيني غائباً ومغيبا، إلّا إن انتفاضة أطفال الحجارة ستغير المعطيات وتجبر إسرائيل على الاعتراف بوجود شعب يحمل اسمه الفلسطيني.
غير أن اتفاق أوسلو للحكم الذاتي الفلسطيني توّج الانتفاضة الفلسطينية بجلجلة جديدة، وقاد إلى مسارات نكبوية معقدة تخللتها الانتفاضة الثانية، ووصلت اليوم إلى منعطف هيمنة اليمين الفاشي والديني على السياسة الإسرائيلية، بحيث امتزجت أيديولوجيا المستوطنين المستندة إلى خطاب أسطوري بانبعاث خطاب الصهيونية التصحيحية لجابوتنسكي.
كما أن خطاب الحركة الوطنية الفلسطينية كان عرضة لتغيرات شتى، من مشروع الدولة الديموقراطية – العلمانية، إلى تبنّي مقولة الدولتين بعد حرب تشرين الأول / أكتوبر 1973. ومع اتفاق أوسلو سيجري تبنّي فكرة الحكم الذاتي الموقت باعتبارها خطوة نحو الدولة الفلسطينية.
كان اتفاق أوسلو استسلاماً فلسطينياً، فالقصة الإسرائيلية تُرك أمر تأويلها للصهيونيين، أمّا الحاضر الفلسطيني فجرى اختزاله وتقزيمه. ومع ذلك، رُفض الاستسلام الفلسطيني من طرف حكومة يقودها “حمائم” حزب العمل، وعاد المسار إلى اندفاعته خلال قمع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، حين أعلن سفّاح مجازر شاتيلا، أريئيل شارون الذي خلف العمالي إيهود باراك في رئاسة الحكومة، أن إسرائيل تتابع “حرب الاستقلال”، أي تستأنف حرب النكبة.
تعبير “حرب الاستقلال” إشكالي، ففلسطين “حررها” الصهيونيون من سكانها وليس من قوة احتلال، كما أن الجيوش العربية التي دخلت حرب 1948، كانت أكثر ضعفاً وعجزاً من أن تشكل نداً للقوة العسكرية الصهيونية.
لست مؤرخاً ولا أدّعي القدرة على تلخيص خمسة وسبعين عاماً في هذه الصفحات، لكنني أقترح قراءة النكبة بصفتها تاريخاً يُصنع الآن. وهذا يعني أن علينا استنباط أطر فكرية ملائمة تسمح لنا بفهم الذروة الجديدة للنكبة التي بدأت ملامحها ترتسم.
سأتوقف عند خمس كلمات مفتاحية أعتقد أنها أساسية لفهم المنعطف النكبوي الجديد:
1 – الذاكرة
“وأنا أسيلُ دماً وذاكرة أسيلُ”: بهذه الكلمات لخّص محمود درويش الحاضر الفلسطيني الذي هو الذاكرة والدم لا ذاكرة الدم، ذلك بأن الدم يُراق اليوم مثلما أُريق في الماضي. إنه نهر واحد يمزج دم الحاضر بدم الماضي.
فبعد نضال طويل اعترف التيار الرئيسي في التأريخ الإسرائيلي بالنكبة، بل إن بعض غلاة المتطرفين من قادة اليمين الإسرائيلي صار يذكّر الفلسطينيين بها مهدداً. ومع ذلك فإن القانون الإسرائيلي يمنع الاحتفال بذكرى النكبة.
هل هذا المزيج من الاعتراف والمنع يدل على أن النكبة هي الحاضر وليست ذاكرة الماضي، وبالتالي فإن الاحتفال بها ليس فعل تذكّر، وإنما هو فعل مقاومة، أم إنه يعني أيضاً أن اليمين الصهيوني وتياراته الأصولية يريدان تحويل الاحتلال إلى واقع ديني – أسطوري لا مكان فيه لصوت الآخر – الضحية؟
2 – الأرض
هل فلسطين أرض موعودة؟
كان موقف آباء الصهيونية العلمانية غامضاً بشأن هذه المسألة، بل إن باب الأسطورة تُرك مفتوحاً، بحيث صُوّر احتلال القدس في سنة 1967، باعتباره حدثاً مسيانياً. هكذا ترك العلمانيون، لأسباب ذرائعية تتعلق بالبحث عن شرعية أسطورية – دينية، الباب مفتوحاً بشكل موارب للتيارات الأصولية كي تتسلل إلى المشهد، وتصبح قوة مركزية في زمن النيوليبرالية وصعود التيارات الشعبوية – الفاشية في أوروبا وأميركا.
بعد سنة 1948 كان الأمن هو مبرر مصادرة الأرض الفلسطينية في الدولة العبرية، أمّا بعد احتلال القدس والضفة الغربية، فقد شكلت القوى الدينية – الفاشية قوة الدفع الرئيسية للاستيطان وإنشاء المستعمرات باعتبارها فعلاً دينياً مرتبطاً بـ “عودة اليهود” إلى أرض أساطيرهم الدينية.
الافتراض الذي يقول إن البعد الديني نشأ في الآونة الأخيرة مع صعود الصهيونية الدينية إلى السلطة، هو افتراض خطأ. فهذا البعد المسياني كان جزءاً خفراً من الصهيونية منذ بداية المشروع الكولونيالي، وجرى استخدامه من طرف اليسار العلماني بكثافة، كأداة لتوسيع المشروع الكولونيالي في الأراضي الجديدة التي احتُلت بعد حرب الأيام الستة.
لا تحتاج الأرض الفلسطينية إلى تسويغ شرعية سكانها الفلسطينيين بالافتراض الذي استخدمه بعض الإسلاميين بأن فلسطين وقف إسلامي. ففلسطين التي عاش فيها أهلها العرب الفلسطينيون من مسلمين ومسيحيين ويهود، ليست وعداً إلهياً، وإنما هي موعد دائم مع الحرية. فهذه الأرض عرفت غزواً واستيطاناً بلغ ذروته في الحملات الإفرنجية التي احتلت البلد واستوطنته وأقامت فيه الممالك والإمارات، وهي الحملات التي عُرفت في ثقافات الإفرنج بالحروب الصليبية. غير أن حاضر الفلسطينيين الإنساني استطاع أن يتغلب على هذه التأويلات المتعددة، لأن فلسطين اليوم تقاوم مثلما قاومت بالأمس كي لا تسمح للأسطورة بأن تستولي على التاريخ وتدمر الحاضر.
3 – البقاء
هل تشكل إسرائيل جواباً على المحرقة النازية؟
لا شك في أن المجازر الوحشية، ومعسكرات الإبادة التي أقامها النازيون، والتعاون الأوروبي مع “الحل النهائي”، أعطت مسوغاً لغضّ النظر والتواطؤ الغربي مع المشروع الصهيوني، علماً بأن المشروع نفسه، بالمنظورين السياسي والتاريخي، نشأ في أواخر القرن التاسع عشر كمشروع كولونيالي، وكجزء من المغامرة الكولونيالية الأوروبية. وبصرف النظر عن السذاجة الستالينية التي اعتبرت إسرائيل قاعدة لمقاومة الإمبريالية البريطانية، فإن إسرائيل حافظت على ارتباطها بالمغامرة الإمبريالية الأوروبية، وقد تجلى ذلك في حرب السويس في سنة 1956، كما تحولت إلى قاعدة أمامية في الحرب الباردة بين القوتين العظميين مثلما بات واضحاً من خلال قراءة حربَي 67 و73. وهي تحاول اليوم، وبصعوبة، أن تبيع قوتها كأداة في الحرب على الإرهاب، وهي حرب قادت إلى كوارث العراق وأفغانستان، لتَضْمُر اليوم أمام الصراع الأميركي – الصيني، مروراً بالصراع الأميركي – الروسي على الهيمنة.
وقد اصطدم هذا المشروع بإصرار الفلسطينيين على البقاء، ذلك بأن المعركة بالنسبة إليهم هي معركة بقاء بقدر ما هي معركة حرية وتحرر. فالصراع ليس بين حقّين مطلقين، مثلما صور المسألةَ الكاتبُ الإسرائيلي أموس عوز، وإنما هي مواجهة بين احتلال وتطهير عرقي من جهة، وبين شعب يسعى للبقاء وحماية حقّه في اسمه وأرضه وحريته من جهة ثانية.
4 – الأقدام السوداء
التمفصل بين محاولة الحكومة الإسرائيلية السيطرة على المجال القضائي، وبين الاحتلال، جليّ وواضح إلى درجة أن لا أحد في المستوى السياسي الإسرائيلي بأجنحته المتنوعة يريد أن يراه أو يعترف به.
فقد وصلت إسرائيل إلى حافة اليهو- نازية بحسب المفكر الإسرائيلي يشاياهو ليبوفيتش الذي رأى أن احتلال 1967 سيقود إليها.
إن التظاهرات الصاخبة التي عمّت إسرائيل ليست ثورة ديمقراطية مثلما يقال ويشاع في وسائل الإعلام الليبرالية، إذ كيف يمكن الكلام على ديمقراطية الاحتلال المتمثلة في ديمقراطية القانونَين اللذين يطبّقان في الضفة الغربية: قانون مدني إسرائيلي للمستوطنين، وحكم عسكري يخضع له الفلسطينيون؟
هذه التظاهرات الصاخبة هي إشارة إلى انقسام أيديولوجي واجتماعي حادّ في المجتمع الإسرائيلي، بين المتدينين والعلمانيين، وبين النيوليبراليين والفاشيين، لكن الغريب والمستغرب هو إخراج الفلسطينيين من معادلة هذا الصراع الكبير. ومهما تكن نتائح هذا الصراع، فإن هذا الانقسام سيشكل السمة الغالبة في المحتمع اليهودي في إسرائيل.
إن عماء المستوى السياسي الإسرائيلي عن رؤية الاحتلال، أو عن الاعتراف بالأثر المدمر لقانون القومية على الفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، مستغرب وينمّ عن عنصرية بالغة الفجاجة.
لقد استطاع الكاتب الإسرائيلي أموس كينان، في روايته “الطريق إلى عين حارود” أن يرى أن الفلسطيني الأصلاني وحده يملك المعرفة بالأرض، وهو الوحيد القادر على قيادة الإسرائيلي الهارب من جحيم الانقلابات العسكرية والفاشية إلى عين حارود.
غير أن عين حارود، كمكان يتجمع فيه الإسرائيليون المعارضون للفاشية، لا وجود لها اليوم في إسرائيل، وربما كان هذا هو السبب الذي جعل المجتمع الإسرائيلي عاجزاً عن رؤية أن خلاصه هو في يد ضحيته.
نعود إلى سؤالنا: كيف تستقيم الديمقراطية في دولة تحتل شعباً آخر، وتريد محو اسمه ومصادرة أرضه؟
ليس صحيحاً أن نظام الأبارتهايد الزاحف هو محصلة انقلاب سياسي قام به المستوطنون والتيار الديني، فهؤلاء لا يشبهون الأقدام السوداء الذين قادوا انقلاباً عسكرياً فاشلاً بهدف منع فرنسا من الاعتراف بحقّ الجزائريين في تقرير المصير. المقارنة ليست صحيحة لأن الأبارتهايد ليس جديداً، وإنما كان كامناً وجرى التأسيس له ببطء، وقد تحول اليوم إلى سياسة شبه رسمية إسرائيلية في القدس والضفة الغربية وغزة.
تتخذ النكبة اليوم في فلسطين أربعة أشكال: تطهير عرقي في القدس؛ نظام كولونيالي وتمييز عنصري في الضفة الغربية؛ تحويل قطاع غزة إلى غيتو مقفل؛ التعامل مع فلسطينيي 48 كمواطنين من الدرجة الثانية ووضعهم في دائرة الاتهام.
هذه الأشكال الأربعة هي نتاج سياسة شارك في صوغها مختلف تيارات السلطة في إسرائيل، من اليسار العمالي، إلى اليمين الليكودي، وصولاً إلى يمين الوسط، وانتهاء بالصهيونية الدينية.
الاحتلال هو مرض إسرائيل، وهو ليس مرضاً جديداً، إنه مرضها التكويني. وقد بدأت أعراض هذا المرض تظهر مع التطهير العرقي في سنة 1948 بصفته خطيئة إسرائيل الأصلية بحسب دومينيك فيدال، واستمرت مع احتلال 1967.
اسم هذه الخطيئة هو استعمار فلسطين، والتطهير العرقي هدفها. أمّا أداتها اليوم فهو الأبارتهايد الذي يسعى لفصل الفلسطينيين عن أرضهم، ويعطي المستوطنين اليد العليا في القرار السياسي، بهدف العودة إلى مقولة: أرض بلا شعب لشعب يستولي على الأرض.
5 – المرئي والمحجوب
يستطيع السائح اليوم أن يجول في جميع أنحاء الضفة الغربية من دون أن يرى أي قرية فلسطينية، إذ تكفلت الطرق الالتفافية بصنع هذه “الأعجوبة”.
فحوى القول هو أن الفلسطيني الذي يريد أن يبقى في “أرض إسرائيل”، عليه أن يكون محجوباً ولامرئياً.
لقد سبق أن قام التبييض الأخضر (Green Washing)، والتعبير لسري مقدسي، بمحو أثر القرى الفلسطينية التي هُدمت في سنة 1948، عبر زراعة الغابات الكثيفة التي محا أخضرها علامات المكان.
واليوم يقوم الاحتلال بتبييض المكان من خلال الدم المسفوك من جهة، وعبر إقفال المدن والقرى ومحاصرتها بالمستعمرات، من جهة أُخرى.
غير أن الاحتلال نسي أو تناسى أن الدم الفلسطيني أحمر وليس بلا لون، وأن الفلسطيني يعيد صوغ صورته بالألم والدم، مزيلاً الحجاب الذي يفرض عليه أن يكون لامرئياً. “فبعد 120 عاماً على استعمار فلسطين، لا يزال الفلسطيني يردد نشيد مُمكنه الوحيد: أنا أموت، إذاً أنا موجود”، مثلما كتب عبد الرحيم الشيخ.
اللامرئي يصير مرئياً عبر المقاومة، فالجواب الفلسطيني على النكبة المستمرة هو مقاومة مستمرة.
التقط وليد دقة سر العلاقة بين المرئي والمحجوب في قصتَيه: “سر الزيت” و”سر السيف”، راسماً المسار النكبوي الممتد منذ 75 عاماً بلغة المقاومة المستمرة. فالأطفال الذين يقاومون بالإخفاء والإظهار في “سر الزيت”، يكتشفون استمرارية المقاومة في “سر السيف”.
إن صورة الفلسطيني الصاعد من ركام أوسلو تحتاج كي تكتمل إلى أصوات يهودية تشعر بأن كتاب النكبة يجب أن يُقفل بالنضال من أجل الحرية والمساواة، أي كي يصير الحقّ هو حقيقة فلسطين.
غير أن الاستنتاج الذي نخلص إليه هو أن كتاب النكبة المستمرة لم يجد نهايته الإسرائيلية، لأنه يواجَه بمقاومة شعب قرر ألّا يموت.
إن فشل إسرائيل بعد خمسة وسبعين عاماً في تحويل نكبة الفلسطينيين إلى حقيقة راسخة ونهائية يعود إلى مقاومة الشعب الفلسطيني.
إنه صراع مديد على مَن سيضع نقطة النهاية لهذا الكتاب المأسوي.
وغداً، وبعد أن يُطوى هذا الكتاب، سيكتشف المؤرخون عبثية تحويل الأساطير إلى تاريخ، ولاعقلانية المشروع الاستعماري الصهيوني الذي لم يترك وراءه سوى الخراب.
………………………
(-) هذا النص هو مقدمة كتاب “النكبة المستمرة” الذي سيصدر قريباً، وكان قد أُلقي كمحاضرة افتتاحية لورشة عمل بعنوان “المثقفون ونزع الاستعمار في فلسطين / إسرائيل”، في 15 – 17 نيسان / أبريل 2023، والتي أقيمت في جامعة بنسلفانيا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* روائي وكاتب مسرحي وناقد وأستاذ جامعي لبناني
المصدر: “مجلة الدراسات الفلسطينية”