محمد المنشاوي *
أعاد عرض فيلم «أوبنهايمر» قضية الأمن النووي، وجدوى إنتاج وامتلاك، واستخدام أسلحة الدمار الشامل إلى صدارة النقاش السياسي والفكري في العديد من الدوائر الأمريكية.
الفيلم الذي يُعرض على مدار ثلاث ساعات كاملة، يأخذ المشاهد بين سراديب مشروع مانهاتن لصناعة أول قنبلة نووية في التاريخ البشرى إبان الحرب العالمية الثانية. وكما هو الحال مع العديد من جوانب قرارات السياسة الخارجية والأزمات الدولية خاصة ما يتعلق بقرار الحرب أو استخدام سلاح فتاك للمرة الأولى، يتعرض الفيلم لكيفية تأثير الشخصيات والتاريخ والثقافة السياسية على عملية صنع القرار النووي.
وكانت «أخلاقية استخدام السلاح النووي» من أهم القضايا الخلافية التي يتجدد الجدل حولها مع كل ذكرى أو مناسبة ترتبط باستخدام الولايات المتحدة للسلاح النووي. ويرى فريق من المفكرين أن استخدام القنبلتين النوويتين في ضرب مدينتي هيروشيما ونجازاكي، هو ما وضع نهاية للحرب العالمية الثانية في مسرحها الآسيوي، وهو ما منع من استخدامها بعد ذلك في أي صراع أو نزاع، حتى لو كانت أطرافه تمتلك القنابل النووية، وهو ما حدث مع الاتحاد السوفييتى في أفغانستان، وروسيا في أوكرانيا، وقبلهما الولايات المتحدة في فيتنام والعراق. كما يؤمن هذا الفريق أن لجوء واشنطن لاستخدام السلاح النووي ساهم في خلق حالة من السلام غير المسبوق بين الدول الكبرى، ومنع وقوع حروب عالمية ينتج عنها وفاة عشرات الملايين كما حدث في الحربين العالميتين التي عرفتهما البشرية في النصف الأول من القرن العشرين.
- • •
قبل أشهر جدد تحذير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش من أن العالم على بعد «خطوة واحدة غير محسوبة» قد تؤدي إلى «الإبادة النووية»، إلى مخاوف غير مسبوقة، وسط تصاعد حدة أزمات أبرزها أوكرانيا وتايوان، وهي أزمات يملك أطرافها آلاف الأسلحة النووية.
وقال جوتيريش في مستهل مؤتمر للدول الموقعة على معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، «حالفنا الحظ بشكل استثنائي حتى الآن. لكن الحظ ليس استراتيجية ولا يقي من التوترات الجيوسياسية التي قد تتفاقم إلى حد نزاع نووي». وحذر الأمين العام من تزايد مخاطر الانتشار النووي، وأكد أن العالم بحاجة إلى معاهدة عدم انتشار السلاح النووي الآن أكثر من أي وقت مضى. من جانبه، عبر الرئيس الأمريكي جو بايدن عن استعداده للتوصل لاتفاق جديد لنزع الأسلحة النووية مع روسيا، ودعا موسكو إلى التصرف بحسن نية، بينما قال نظيره الروسي فلاديمير بوتين إنه لا يمكن أن يكون هناك فائزون في أي حرب نووية.
وبالفعل لن يكون هناك أي فائز في أي حرب نووية بين الدول الكبرى المالكة لهذه الأسلحة، وربما لهذا السبب لم تندلع، وربما لن تندلع، حرباً بالمعنى الشامل بين هذه الدول النووية.
نعم دفعت اليابان وحدها الثمن من أجل أن تنعم البشرية بعصور لم يلجأ فيها أحد للسلاح النووي بسبب نظريات الردع وإمكانية التدمير المتبادل والمؤكد (قدرة إطلاق الضربة الأولى أو الضربة الانتقامية) ومن ثم تبني مبادرات منع الانتشار النووي على نطاق واسع.
- • •
من هنا نجح فيلم «أوبنهايمر» في تذكير المشاهدين حول العالم بالعواقب المدمرة التي أعقبت أبحاث الاستخدام المزدوج للأسلحة النووية والحاجة الماسة إلى إصلاح معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية.
ولعقود من الزمان، كان النقاش الدائر حول سياسة منع الانتشار النووي ونزع السلاح النووي عرضة لمنافسة القوى العظمى وعدم الاستقرار الإقليمي، ولكن الحقيقة هي أنه في حين أن الحرب النووية قد تبدو بعيدة، إلا أن سعى المزيد من الدول للحصول على السلاح النووي لم يتوقف يوماً.
لم ترحب الدول الحائزة للأسلحة النووية بقيود سياسات منع الانتشار النووي، ورفضت جميع الدول المالكة للأسلحة النووية التوقيع على معاهدة حظر الأسلحة النووية لعام 2017.
تجادل الولايات المتحدة ومنتقدو معاهدة حظر الأسلحة النووية بأنها تتناقض مع معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية القائمة بالفعل، بينما يجادل المؤيدون بأنها تبنى على المعاهدة السابقة وتم إنشاؤها للمساعدة في معالجة إحدى نقاط ضعف معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية.
- • •
مشاهدة فيلم أوبنهايمر سمحت بفتح نقاش موسع وإجراء تقييم نقدي لما حدث، وتأثيره على مسار التاريخ البشرى. وتطرح أسئلة حول جدوى استمرار إجراء تحديثات هامة في ترسانات الدول المالكة للأسلحة النووية. ويحيط هذا النقاش بأسئلة جديدة تتعلق بالتكنولوجيات الحديثة وعلى رأسها تطبيقات الذكاء الاصطناعي العسكرية. وبينما يستمر العلماء في الوقت الراهن في السباق لاستخدام الذكاء الاصطناعي في تطبيقات عسكرية متقدمة، فإننا نجهل الكثير بشأن مستقبل هذا السباق، على العكس مما كان عليه الحال في حالة العالم «أوبنهايمر». كل ما نعرفه هو أنه مثلما أصبحت الأسلحة النووية جزءاً لا غنى عنه من الأمن القومي، فإن الذكاء الاصطناعي أيضاً أصبح كذلك ويستمر في التطور إلى حدود نجهلها.
يأمل فريق من المفكرين أن يدفع النجاح الذي حققته البشرية في تسخير الذرة كسلاح، ومن ثم وضع رقابة، وقواعد دولية عليها، إلى تطبيق نفس الأفكار من أجل التحكم وتنظيم تطور الذكاء الاصطناعي، وتطبيق آلية رقابية من نوع ما عليه. وسيتطلب ذلك بالطبع عملاً شاقاً، قانونياً ودبلوماسية، وسياسياً وعسكرياً. وتحمل مخاطر عسكرة الذكاء الاصطناعي سهولة نقلها وانتشارها وإنتاجها على العكس من الأسلحة النووية.
وفي حين أن فيلم «أوبنهايمر» لا يجيب على أي أسئلة تتعلق بعسكرة الذكاء الاصطناعي، أو حدوده، إلا أنه من المؤكد أنه سيُبقي النقاش مستمراً حول سلاح فتاك لا يعرف أحد حدود قوته بدقة بعد، إذ إنه سلاح لن يتم التوصل إليه يوما ما، بل هو سلاح سيستمر في التطور إلى ما لا نهاية.
* كاتب صحفي مصري متخصص في الشؤون الأمريكية
المصدر: الشروق