الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الذكاء الاصطناعي.. والمجال العسكري

كما قللت الثورة الصناعية من الحاجة إلى عمال، فإن ثورة الذكاء الاصطناعي ستجعل البشر أقل ميلاً للتضحية بأرواحهم من أجل سلطة سياسية معينة. في ضوء ذلك، نشر موقع («بروجيكت سانديكيت» Project Syndicate) مقالاً للكاتب (هارولد جيمس «HAROLD JAMES»(*))، يقول فيه إن الحياة الصناعية وثورة تكنولوجيا المعلومات جعلت السكان غير مؤهلين لا نفسياً ولا جسدياً لشن الحروب، مما دفع بالجيوش إلى الاستعانة بتقنيات حديثة كبديل عن البشر مثل الطائرات بدون طيار… نعرض من المقال ما يلي:

إن التطور السريع للذكاء الاصطناعي لا يغير المفاهيم التقليدية للعمل فحسب، بل يغير أيضا طبيعة الهوية الإنسانية والبشرية. وفي حين أن التطورات التكنولوجية السابقة غيرت السلوك والمظاهر البشرية، فإن الذكاء الاصطناعي سيعيد تشكيل المعتقدات الاجتماعية والسياسية الأساسية للأفراد، بما في ذلك طبيعة ودور الدولة.

خلال الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، حلت الطاقة الميكانيكية- التي يغذيها في الغالب حرق الكربون- محل القوة البشرية والحيوانية كمصدر للطاقة لاستخدامها في إنتاج السلع الصناعية والاستهلاكية. ومع تقدم هذه الثورة في القرن العشرين، اقتصر العمل البدني الشاق على مجموعة ضئيلة من المهن.

تُمثل ثورة تكنولوجيا المعلومات خطوة أخرى إلى الأمام في هذه التنمية البشرية. ونظراً لتولي الآلات المزيد من المهام المعرفية، تُشرف أجهزة الكمبيوتر الآن على الروبوتات التي تقوم بالعمل البدني. وفي ظل التخلص من العمل الذهني (مثل العمليات الحسابية المعقدة التي اعتاد العاملون في المحلات التجارية على أدائها)، استمر نفس النمط القديم، حيث توقف العديد من الأشخاص عن استخدام تفكيرهم في العمل وكرسوا هذه الطاقات لحل ألغاز الكلمات المتقاطعة أو لعبة «السودوكو» أو لعبة الكلمات على الإنترنت «ووردل».

وتذهب ثورة اليوم إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، لأنها تؤثر على كيفية تعريف العمل الجماعي. وربما يكون هذا التطور أوضح في المجال العسكري، لكنه له أيضاً انعكاسات على المشاركة السياسية وحتى على فهمنا للسلطة الشرعية.

فقد شهد القرن العشرين أشد الحروب تدميراً في تاريخ البشرية، والتي أنتجت بدورها دافعاً جديداً لإضفاء النمط الديمقراطي. ونظراً إلى أن الجنود وعائلاتهم كانوا بحاجة إلى مكافأة على تضحياتهم، فقد أدت كلتا الحربين العالميتين إلى تمديد الامتياز. ترى الليبرالية السياسية الكلاسيكية أنه لا ينبغي أن يتوقع من الناس التضحية بأرواحهم من أجل كيان سياسي معين ما لم يكن لديهم رأي في هذه المسألة.

ومع ذلك، تُوفر التكنولوجيا وسيلة فعالة لتجاوز هذه العملية. وفي مختلف أنحاء العالم، لم يعد من المتوقع بشكل متزايد أن يتعرض سكان المناطق الحضرية المتعلمين للجوانب الصارمة للشئون الإنسانية. في حالة روسيا، اعتمد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على مجموعات المرتزقة شبه المستقلة، وسكان المناطق النائية، بل وحتى السجناء لشن حربه في أوكرانيا، لأنه يعلم أن سكان موسكو وسانت بطرسبرج غير مناسبين جسدياً والأهم من ذلك نفسياً لهذه المهمة.

هذه ليست مشكلة جديدة بطبيعة الحال. فقبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، كان القادة العسكريون في الدول الأوروبية الكبرى قلقين بشأن كيفية حشد جيوش كبيرة، بالنظر إلى أن الحياة الصناعية الحديثة جعلت العديد من المجندين غير مناسبين جسدياً للخدمة العسكرية. واليوم، لا يزال المُخططون العسكريون يشاركون نفس المخاوف.

في عام 2017، قدّرت وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون» أن 71٪ من الشباب الأمريكي (الذين تتراوح أعمارهم بين 17 و24 عاماً) غير مؤهلين للخدمة، ومنذ ذلك الحين ارتفع هذا المعدل إلى 77٪. ومع ذلك، يتمتع البنتاجون بتقنيات لم يكن من الممكن أن تتخيلها الأجيال السابقة. يتم شن الحرب من قبل الأجهزة الحديثة والمتطورة- مثل الطائرات بدون طيار «الدرون»- تماماً كما كانت الأعمال الصناعية والكتابية في العصور السابقة.

يمكن فهم العواقب السياسية لأتمتة الحرب بمجرد النظر في كيفية تغير المجتمع بشكل عام في العصر الحديث. في مجتمع القرون الوسطى، كان البشر ينقسمون عموماً إلى ثلاث فئات: الخُطباء الدينيون، والمحاربون، والعاملون، أولئك الذين خطبوا أو صلوا (رجال الدين)، أولئك الذين حاربوا (الطبقة الأرستقراطية)، والبقية الذين قاموا بالفعل ببعض «الأعمال» في شكل عمل يدوي.

وبسبب قدرتهم القتالية، تمكنت الطبقة الأرستقراطية في الأصل من المطالبة بسلطة سياسية هائلة. لكن بعد أن توقفوا عن القتال وتقاعدوا، تلاشت شرعية حكمهم. ومع ظهور الجيوش الضخمة عقب الثورة الفرنسية، تم إضفاء الطابع الديمقراطي على الحرب، وكذلك الحال بالنسبة للسياسة. ولكن الآن بعد أن تم استخدام التكنولوجيا في خوض الحرب، بدأ الناس يفقدون القوة من جديد.

ماذا سيكون مصير الفئات الاجتماعية المتبقية؟

تماماً كما نجحت الثورة الصناعية في تقليص الحاجة إلى العمال الفعليين، فإن ثورة الذكاء الاصطناعي تجعل البشر غير مؤهلين في المجال العسكري.. إذ مثل العمال من قبلهم، أصبح المحاربون مجرد آلات.

هل هم أيضاً عُرضة لتأثير التكنولوجيا الزاحف والدمار الوجودي في نهاية المطاف الذي تسببه التكنولوجيا؟

وخوفاً من ذلك، يدعو بعض النقاد وقادة التكنولوجيا إلى «وقف مؤقت» لتطوير الذكاء الاصطناعي. لكن تطور التكنولوجيا لم يتوقف أبداً بسبب رغبات بعض الناس.

…………….

النص الأصلي

ــــــــــــــــــــ

(*) أستاذ التاريخ والشؤون الدولية بجامعة برينستون، متخصص في التاريخ الاقتصادي الألماني والعولمة وشارك بعدة كتب منها ‘صنع الاتحاد النقدي الأوروبي’.

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.