الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كتاب «في الفكر السياسي»؛ (الجزء الأول).. الحلقة الثانية

 (الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة الثانية من الجزء الأولالجزائر في دمشق” بقلم الأستاذ “عبد الكريم زهور”

الجزائر في دمشق

عبد الكريم زهور

   على الأعراف بين مرحلتي الحرب والسلم، مرحلتي الهدم والبناء، انفجرت ثورة الجزائر عن مُتناقضاتها، وانفجرت على طريقتها بعنف. فلم يمتلك العرب أنفسهم من الدهشة ومن الغصة. لقد سموّا بها كثيراً فأنِسوا طبيعتها الإنسانية، أنِسوا أنها تخوض في التراب الإنساني، وأنها لا تخرج على المصائر الانسانية جميعهاً .

   «.. ومن حق شعبنا هناك (في الجزائر) على الإنسانية أن تحني له رأسها. إنها تجربة بطولية من نوع خاص، ما أظن أن شعباً غير شعبنا في الجزائر عانى لها مثيلاً، لا في تألقه في المعركة وهو يثبت وجوده بالفعل، ولا في مظلمات السجون تحت ما لا يطيق الخيال من عذاب وهو يتوهج ويؤكد وجوده بالنفي والانكار..

   « إن شعبنا في الجزائر حين كشف عن خير ما في الإنسان، أكّره أعداءه على أن يكشفوا بالمقابل عن أحط ما في الانسان. فكأن المعركة أكثر من معركة شعب يستخلص وجوده وحريته الإنسانيين قطرة قطره، وانقلبت إلى معركة بين الخير والشر، استعلت على الزمان، فهي موضوع تأمل مجرد لا موضع  معاناة حية، الجسد الإنساني أحد أدواتها . ولذلك، كما لم يمتحن الانسان الحي مثلما يُمتحن أخوة لنا في الجزائر، فكذلك لم تُمتحن الإنسانية كلها، ضميرها وحقيقتها، مثلما تُمتحن الآن في موقفها من ثورة الجزائر..» (مكان ثورة الجزائر في القضية العربية، جريدة البعث،28/3/1958)

   هكذا تجلت لنا ثورة الجزائر في إبان مرحلتها الدموية، حدثاً إنسانياً ولكنه يتجاوز مستوى الإنسان، حدثاً تاريخياً نسبياً ولكنه يلامس المطلق. وهي كذلك من وجهة النظر الشاملة، التي تعف عن الجزئيات وتعفو عن المتناقضات.

   وظل الإنسان العربي الساذج عند النظرة الشاملة التي أحاطت بثورة الجزائر من بعيد. فعجب: كيف يختلف قادتها؟ إنهم من طينة أخرى غير طينة الزعماء والساسة الذين بلا ويعرف. وأخذه القلق الصادق والخوف على هذه الثورة العظيمة، التي عرجت بالشرف العربي إلى ذروة سامقة لم يبلغها العرب إلا في العقود الخمسة الأولى بعد الرسالة، أن تتحطم من داخلها بعد أن عجزت القوى الرهيبة عن تحطيمها من خارجها.

   أما العربي الثوري فلم يستطر لبه خوفاً على الثورة ولم يجزع للانقسام يشق بعنف ما بين قادتها، بل ربما كان موقفه موقف “بن بله” حين وصف الأزمة بأنها مفيدة وقال «لقد كانت كاشفة للنيات والاتجاهات».

   لأن الثوري يعرف: أن الثورات بعامة تحمل في جوفها التأزم، على الأقل في مستوى القيادات. لأن الثورة في كل لحظة اختيار، في كل لحظة قرار مصيري. فالتوتر أصل فيها، فلا غرابة أن تكون في أزمة دائمة. ولا تخرج ثورة الجزائر ولم تخرج على طبائع الثورات. ولكن أزماتها كانت تُغطى بحذر وتخفي بعناية. أما حين وصلت إلى منعطف البناء لم يعد في الامكان تغطية الأزمة، بل لم يعد من الضروري تغطيتها.

   ويعرف أيضاً: أن ثورة الجزائر إذا كانت قد انطلقت من مبدأ الاستقلال الوطني، فقد مرت في تجارب عميقة عنيفة فاغتنت ونضجت. والثورة وإن كانت تشكل بجملتها وجوداً حياً متكاملاً، فهي تتألف من أفراد يتفاوتون في القدرة على تمثل التجربة، وفي صلابة المزاج، فلا بد دائما من التناقض ومن الصراع، ولا بد من اسقاط الخائرين المتهاوين على جوانب الطريق الشاق.

 وهذا ما قد حصل بالفعل وقبل الأزمة الأخيرة في ثورة الجزائر، فلطالما تعرضت للاختلافات ولأنواع من الصراع ومن التصفيات العنيفة أيضاً.

   لم يخفّ الثوري العربي على ثورة الجزائر، ولم يقف موقفاً محايداً من الصراع، بل كان متحيزاً، ولا بد للثوري من أن يكون متحيزاً. وفي يد الثوري العربي قسطاس لا يخيب في هذه المرحلة: حيث تهدم الثورة كل أنظمة التخلف والتبعية أنظمة الاقطاع والرأسمال «الوطني»، حيث تكون الثورة عربية واشتراكية،  تكون ثورة  صحيحة، ولهذه الثورات يتحيز.

   فماذا كان موقف الجهاز السياسي السوري من أزمة ثورة الجزائر؟ هل خاف عليها خوف الإنسان العربي الساذج، أم تحيُّز الثوري العربي؟ لقد خاف هذا الجهاز السياسي بل ذُعر ولكن من الاتجاه الثوري وتحيز ولكن للاتجاه المعاكس للثورة.

وقد  خصصنا هذا المقال لبيان هذا الموقف. ولكن تجربة شهري الأزمة في ثورة الجزائر تجربة نموذجية للخطة الثورية التي لا تنفك أعينها عن أهدافها ولكنها عبر التنفيذ تهاجم وتناور وتتراجع ثم تندفع إلى أن تبلغ أهدافها – لذلك فصلنا القول شيئاً لنضع هذه التجربة بين يدي الثوريين العرب في هذا  المشرق الذي انتحرت فيه حتى الآن كل الثورات.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 

يتبع.. الحلقة الثالثة بعنوان: المرحلة الأولى(1/3).. بقلم الأستاذ “عبد الكريم زهور”

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.