الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

سوريا.. تفاوضٌ بالنار بين واشنطن وموسكو

سميح صعب *         

يحمل تكرار الاحتكاكات الجوية بين مقاتلات روسية وطائرات مُسيّرة أميركية فوق سوريا، أكثر من مغزى، بعضه يتعلق بالوضع السوري، وبعضه الآخر يمتد إلى أوكرانيا والمواجهة الأوسع بين واشنطن وموسكو.  

حتى الأربعاء الماضي (26/7/2023)، اشتكت القوات الأميركية من 6 مضايقات روسية لمُسيّراتها من طراز “إم كيو-9 ريبر” في شهر تموز/ يوليو، فوق شمال غرب سوريا، أثناء قيامها بمهمات تعقب لقادة تنظيم “داعش”، وفق الراوية الأميركية. أما روسيا فتقول إن مقاتلاتها تتصرف دفاعاً عن النفس ووفق الأسلوب الاحترافي في مثل هذه الحالات.

ما يسترعي الإنتباه هو أن غالبية الاحتكاكات الجوية تحصل فوق شمال غرب سوريا. ومعلوم أنه يوجد في هذه المنطقة جيب لـ”هيئة تحرير الشام” (“جبهة النصرة” سابقاً) وجماعات جهادية أخرى بينها تنظيم “حراس الدين” المنشق عن “هيئة تحرير الشام” والذي بقي على ولائه لتنظيم “القاعدة”. وهذه التنظيمات هي على تماس مع قوات الجيش السوري وحلفائه في محافظتي إدلب واللاذقية.

لكن ما الذي يجعل روسيا ترتاب في النشاط الجوي الأميركي فوق هذه المنطقة؟

أولاً؛ تعتبر هذه المنطقة ضمن مجال عمل القوات الروسية الأقرب إليها منذ عام 2015.

ثانياً؛ تتمركز القوات الأميركية في شرق سوريا وفي شمال شرقها حيث تنتشر “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) التي يقودها الأكراد، فضلاً عن تمركزها في قاعدة التنف عند المثلث الحدودي السوري مع الأردن والعراق، وهذا ما يجعلها بعيدة نسبياً.

ثالثاً؛ الطلعات الجوية الأميركية ترافقت مع سخونة الجبهة في الفترة الأخيرة، بعدما بدا أن مسار التطبيع التركي- السوري، أقرب إلى الطريق المسدود، بسبب الضغوط الأميركية على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهو ما عبّرت عنه تركيا في موافقتها على انضمام السويد إلى حلف “الناتو” مؤخراً، مقابل ضمانات ومكاسب أميركية نالها الرئيس التركي.

وإذا مضينا في تعداد الظروف المحيطة بتوالي الاحتكاكات الجوية الروسية-الأميركية، يبرز عامل تعزيز القوات الأميركية في الشرق السوري وفي العراق بأكثر من ألفي جندي في وقت سابق من تموز/ يوليو. وكأن إدارة الرئيس جو بايدن المستاءة من الانفتاح العربي على دمشق الذي تُرجم بعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، تريد الإيحاء بأن الأزمة السورية لم تنتهِ بعد وأن التطبيع مع سوريا لم يحن أوانه. والملاحظ هنا أن بايدن من خلال تعزيز القوات الأميركية في سوريا، يمضي في مسار معاكس، لرأي غالب في الولايات المتحدة لا يرى فائدة استراتيجية من استمرار الوجود العسكري الأميركي في سوريا، خصوصاً في ضوء التعرض لهجمات متكررة من فصائل موالية لإيران، وإمكان تصاعد الموقف بين الجانبين في المرحلة المقبلة.

على هذه النقطة بالذات بماذا يجيب مسؤولون أميركيون؟ يقولون إن التصعيد الجوي الروسي في سوريا هو خدمة تؤديها موسكو لإيران، ويتحدثون عن اتصالات بين قادة عسكريين روس وإيرانيين من “فيلق القدس” على مستوى متوسط في سوريا، من أجل تحقيق هدف واحد مشترك، ألا وهو إخراج القوات الأميركية من سوريا، بحسب ما يرى جون هاردي مدير روسيا في “مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات” التي تتخذ من واشنطن مقراً لها.

ومن هنا جاء تعزيز القوات الأميركية في سوريا والعراق. ليس هذا فحسب، بل أعلنت أميركا، الأربعاء الماضي (26/7/2023)، عن وصول 12 مقاتلة “إف-35” إلى الشرق الأوسط بهدف تعزيز الردع في مواجهة إيران، بعد تكرار محاولات اعتراض سفن تجارية في المدة الأخيرة. وقد يتوسع دور هذه المقاتلات “إذا تطلب مسرح العمليات ذلك”، وفق ما جاء في بيان الإعلان الأميركي.

وتعزيز الحضور العسكري، يرمي إلى نفي الاعتقاد السائد بأن أميركا انسحبت من المنطقة في السنوات الأخيرة، وبأنها تكتفي بحضور متواضع، ما أدى إلى تعزيز موقع إيران والقوى المتحالفة معها، في العراق وسوريا واليمن ولبنان.

ومن يُراقب حركة الزيارات لمسؤولين أميركيين إلى السعودية في الأشهر الأخيرة، وآخرهم مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، الخميس الماضي (27/7/2023)، يلمس جهداً أميركياً دؤوباً لإقناع الرياض بالانفكاك عن العلاقات المميزة التي نسجتها في العامين الماضيين مع الصين وروسيا، في مقابل ترتيبات معاكسة لاتفاق بكين الذي طبّع العلاقات مع إيران، وإظهار أن واشنطن لم تغادر الشرق الأوسط.

ووفقاً للكاتب الأميركي في “النيويورك تايمز” توماس فريدمان، ثمة اتجاه لدى بايدن للدفع في ما تبقى من ولايته نحو إحداث اختراق على صعيد تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، وذلك على خطى سلفه الجمهوري دونالد ترامب الذي رعى “اتفاقات إبراهام” بين أربع دول عربية وإسرائيل في العام الأخير من ولايته.

وروسيا بطبيعة الحال في قلب التطورات في المنطقة برغم انشغالها بالحرب الأوكرانية. وها هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يؤكد، السبت (29/7/2023)، أنه ما من أحد يريد وقوع صدام مباشر بين قوات “الناتو” وروسيا في سوريا، لكنه أضاف: “إذا أراد أحد ذلك فإن روسيا مستعدة”.

ومع تعثر الهجوم الأوكراني المضاد، بدأت روسيا في سوريا، على حد قول الباحث في مركز كارنيغي للسلام العالمي أندرو ويس، “ممارسة الترهيب ونزع الشعور بأن الولايات المتحدة لن تتعرض للتحدي، لكن الولايات المتحدة تحاول ألا تأكل الطعم، في الوقت الذي تحمي فيه ناسها على الأرض وفي الجو”.

هل يقود استمرار “المضايقات” الروسية للمُسيّرات الأميركية إلى صدام جوي مباشر بين الولايات المتحدة وروسيا؟

لعل السلوك الذي اتبعته واشنطن بعد إسقاط مقاتلتين روسيتين لمُسيّرة أميركية من طراز “إم كيو -9 ريبر” فوق البحر الأسود في آذار/مارس الماضي، يُقدّم نموذجاً لما يمكن أن يكون عليه الأمر في سوريا. في البحر الأسود، تجنبت أميركا بعد تحطم مُسيّرتها الاقتراب من مسارات تحليق المقاتلات الروسية هناك.

وليس من مصلحة روسيا الذهاب أبعد في استفزاز الولايات المتحدة والدخول في اشتباك مباشر معها في سوريا. والرسائل الروسية المراد إيصالها عبر الأجواء السورية، لا شك أن الولايات المتحدة قادرة على فك شيفرتها.

روسيا الأكثر اطمئناناً إلى وضع قواتها على الجبهة في أوكرانيا، تريد القول إن الحرب هناك، لن تجعلها تنسحب من سوريا أو من مواقع نفوذ محسوبة على روسيا في المجال الإقليمي القريب أو الدول الأبعد.

وما مطاردة النفوذ الغربي، وتحديداً الفرنسي، في مالي وبوركينا فاسو إلا خير دليل على ذلك. وعندما وقع انقلاب النيجر، الأربعاء الماضي، ساد الاعتقاد لوهلة، بأن روسيا وعبر مجموعة “فاغنر” الناشطة في مالي وبوركينا فاسو، قد استكملت حلقة النفوذ في منطقة الساحل، بينما كان بوتين يستقبل القادة الأفارقة في سان بطرسبرج، تحت أنظار الولايات المتحدة التي تجهد لعزل روسيا على الساحة الدولية.

لماذا “فاغنر”؟

في مؤشر إلى أن مجموعته ستواصل لعب دور في سياق تعزيز أجندة السياسة الخارجية الروسية في إفريقيا، قال رئيس مجموعة “فاغنر” يفغيني بريغوجين في رسالة صوتية إن ما يحدث في النيجر هو كفاح شعب ضد مستعمريه، مبدياً استعداده لدعم الإنقلابيين، وعارضاً خدمات “فاغنر” لفرض النظام في ذلك البلد الإفريقي.

وكان بريغوجين قد قال الأسبوع الماضي لدى انتقاله إلى بيلاروسيا، إن أمام مقاتليه دوراً يؤدونه في إفريقيا.

ماذا يعني ذلك؟

من سوريا إلى إفريقيا إلى أميركا اللاتينية، تبعث روسيا برسائل تؤكد تمسكها بالنفوذ خارج حدودها، في خضم الصراع مع الولايات المتحدة، وهو صراع قاد سيرغي شويغو لزيارة بيونغ يانغ، ليكون أول وزير دفاع روسي يزور كوريا الشمالية منذ إنهيار الإتحاد السوفييتي.

* كاتب وصحافي لبناني

المصدر: 180 بوست

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.