علي حبيب الله *
دقّينا نوبات الحربْ
مِدّ جيوشك لاقينا
وبتعرفنا ملوك الغربْ
لمّا غضبنا ومشينا
هذه الردة الشعرية- الشعبية، التي دارت على ألسن ثوار الجليل تحت أزيز رصاص بنادقهم أيام الثورة الفلسطينية الكبرى 1936- 1939، هي ردة حِطينية في أصلها، لأنها وُلدت على لسان حاديها وشاعرها الشعبي مصطفى يوسف البدوي المشهور بـ “الحِطيني”. وليست أبياتها إلا تذكيرًا بمعركة قرون حِطين قبل قرون من الزمن، فقد اعتبر الحطاطنة التحاقهم بالثورة على الاستعمار البريطاني بمثابة امتداد لسردية مقارعة الصليبيين ودحرهم في قريتهم حِطين في زمن صلاح الدين.
ما بين القرِن والجُرن:
لم تكن معركة قرون حطين ضد الصليبيين سنة 1187م الوحيدة التي استرخت في ذاكرة الحطاطنة، وإنما عرف الحطاطنة مواجهة أخرى على أرضهم أطلقوا عليها اسم “معركة حطين”، وهي تلك التي دارت رحاها في يوم 30 آذار/ مارس من سنة 1857م، حيث واجه فيها المتمرد عقيلة آغا الحاسي أكراد سلطات الدولة العثمانية. كان عقيلة الحاسي يعود في نسبه إلى عشيرة “حاسة” التي تعود في جذورها إلى قبيلة “الهنادي” وليس عرب المواسي كما كان يُظن في بعض المراجع الحديثة التي أشارت إلى تلك المعركة(1)، إنما عرب المواسي الذين نزلوا وتوطّنوا منطقة الوعرة السوداء شمالي حطين في العهد العثماني، وكانت من العشائر البدوية التي تحالفت وساندت عقيل آغا، ومثلها عشائر أخرى مثل عرب الوهيب في وادي الحمام، وعربان الصقر والصبيح في منطقة مرج ابن عامر في خمسينيات القرن التاسع عشر ضد سلطات الباب العالي وأكرادها الذين استخدمهم العثمانيون للقضاء على عقيلة وحركته في الجليل.
صبيان هنادي ملتفين بحرامات
وحرابهم تشبه برق الظلامِ
صالح آغا صاح بالخيل صيحات
كرفت الخيل في وادي الحمامِ(2).
كانت هذه بعض من أبيات قصيدة شعبية أنشدها بدو المواسي والوهيب في الوعرة السوداء ووادي الحمام المُحيطين بحطين تخليدًا لنصرهم مع عقيلة آغا الحاسي في معركته ضد الأكراد وزعيمهم حسن بن شمدين آغا المدعوم من السلطات العثمانية. إذ نزل الأكراد بفرق عسكرهم أرض القنّارة في منطقة قرون حِطين عند موقعٍ يسمى الحِمى، وهي حِمى عقيلة الحاسي. وعند ساعات ظهر يوم الثلاثين من آذار سنة 1857 هاجم عقيل وحلفاؤه من بدو وفلّاحي قضاء طبرية ومرج ابن عامر الأكراد في قرون حطين، وظلوّا يدحرونهم حتى ساحة مقام النبي شعيب إلى أن صاح عقيلة برجاله أن قِفوا احترامًا لحرمة نبيّ الله شعيب ومقامه بعد أن أعمل السيف بالأكراد وزعيمهم حسن بن شمدين الذي قتله عقيلة في حطين، وأمر بنقله ودفنه في قرية لوبية، ويقال إن عقيلة قد نحر على قبره بقرتين(3). في قرية لوبية المُهجرة، ظل أهلها حتى عام النكبة يُطلقون على أحد المواقع المُحيطة بقريتهم اسم “ذراع شمدين” نسبة إلى مدفن حسن بن شمدينة آغا الكردي.
لقد طاردت خيل عقيلة أغا وحلفائه من بدو وفلّاحي الجليل فلول الأكراد حتى وادي الحمام شمالي حطين، وقد سمى البعض تلك المواجهة بـ “معركة حطين”(4) لأنها وقعت فيها، بينما أطلق عليها بعض بدو قضاء طبريا ومرج ابن عامر اسم “يوم جرن الموت”(5). وما بين قرن الموت ضد الصليبين، وجرن الموت ضد العثمانيين وأكرادهم سيرة لمعركتين حِطينيتين سُفح الدم في كلتاهما عند قرونها وسهلها كما وحُقن الدم فيهما عند مقام شعيبها نبي الله.
لم تعرف حطين أراضيها بورًا، لكنها في أيام “السفر برلك” غدت كذلك، يوم أن بدأ العثمانيون في الحرب العالمية الأولى بسحب رجال القرية إلى الجبهات في البلقان والسويس واليمن، إلى الحدّ الذي خلت حطين فيه من شبابها ورجالها، فالذي لم يؤخذ للسفربرلك فلّ هائمًا على وجهه في البراري بعيدًا عن أعين الأتراك، الأمر الذي أدى إلى تركهم أراضيهم ومحاصيلهم لتتحول موارس وحقول حطين إلى أرض بور.
ومما ظلَّ يرويه معمرو قرية حطين حتى نهاية القرن الماضي عن فظائع الأتراك أيام السفربرلك، أنه إذا ما تخلف أو هرب أحدهم من الجندية، كان الأتراك يمسكون زوجته، ويربطونها بحبل مشبوك بسرج حصان، ويجرّونها تعذيبًا لها وابتزازًا لزوجها الهارب، ثم يحتجزونها إلى أن يسلّم زوجها نفسه. وحتى أصحاب العاهات والإعاقات البدنية لم يسلموا كذلك من التجنيد الإلزامي في الحرب، إذ كانوا يسخّرون للعمل في مطابخ الجيش العثماني. محمود شعبان استشهد في العريش، وهو في الطريق إلى جبهة السويس سنة 1914، والشهيد فياض حسين السعدي الذي قُتل في معركة الترعة في السويس في نفس(6).
لقد جاع الحطاطنة مثلما جاع كل أبناء جِلدتهم في فلسطين، وبر الشام عموما في تلك الأيام، ليس لأنها الحرب فقط، إنما بسبب الجراد الذي اجتاح البلاد في العام الثاني من الحرب. إذ جاء على الأخضر واليابس فيها، مما اضطر الناس في حينه إلى البحث عن بقايا حَب الشعير في روث الدواب وأكله(7).
أول الدم:
في ليلة من ليالي حر آب/ أغسطس سنة 1929، كانت تقطع مياه نهر الأردن من عند مخاضة يعقوب قرب جسر البنات بغلة ومعها رجلان تعمّدا عبور النهر بالبغلة من مخاضته وليس عبر الجسر، لأن هذا الأخير كان مراقبًا تحت أعين الإنجليز، وفيما كان أحدهما يشد البغلة من رسنها، بينما يحاول الآخر نهرها من خلفها، مستعجلين إياها لقطع النهر، كانت الدماء تقطر من أطراف جِلالها (سرجها) لتختلط بماء النهر. ذلك الدم، هو دم جميل سويد ابن قرية حطين المحمول على ظهر البغلة مصابًا، جاءوا به من أجل عِلاجه في دمشق على إثر هجوم اشترك فيه في اليوم السابق مع بعض الحطاطنة على “كوبانية عين القَتب” أو “مستعمرة متسبيه”.
كانت أول تذكرة مواجهة انتزعها أهالي حطين ضد سلطات الاستعمار ومستعمرات اليهود الصهاينة، تعود إلى ما يُعرف بأحداث البراق سنة 1929. على إثر تلك الأحداث التي اندلعت في التاسع من آب/ أغسطس عمّت الاحتجاجات عموم مدن وأرياف فلسطين، وبعد أن هاجم الصفديون حارة اليهود في مدينتهم صفد، هاجمت مجموعة من شباب قرية حطين اليهود في مستعمرة “ميتسبيه” أو كوبانية عين القَتب كما ظلّ يسميها الحطاطنة والواقعة شرقي حطين. لم يختر مسلحو حطين مهاجمة تلك المستعمرة الصهيونية، إلا أنها أقيمت على أراضيهم، أرض عين القَتب الحطينية أو أرض الوسطاني التي تنازل عنها أهالي القرية قسرًا لقائم مقام طبرية أيام العثمانيين فوزي رمضان وهو ثري من أثرياء بيروت، الذي كان يستغل حاجة الناس في قرى ريف طبرية في إعفائهم من التجنيد الإجباري في الجيش التركي مقابل تنازلهم عن بعض أراضيهم ليُسجلها باسمه هو(8).
كل ما كان يملكه الحطاطنة من سلاح في ذلك الحين، هو جفت صيد، وفرد كرادغ تركي، وبارودة تركية قصيرة. استدعى هجوم أهالي حطين تدخل قوات سلطات الاستعمار البريطاني، التي طوقت قرية حطين، وقتلت حامد الإمام ابن أسرة الإمام التي استقدمها صلاح الدين الأيوبي من صفد إلى حطين لتكون قيّمة على شؤون الجامع العمري في القرية بعد إعادة ترميمه وبناء مئذنته وقتها. كما جُرح اثنان من أهالي حطين في ذلك الطوق هما حسين شعبان وجميل سويد(9). كان الهجوم على المستعمرة الصهيونية، ومن ثمّ طوق الإنجليز قرية حطين، وكان استشهاد حامد الإمام بمثابة الانطلاقة لمسيرة حطين النضالية ضد الاستعمار البريطاني والصهيونية في فلسطين، إذ ستكون مغارة أم العمد شمالي حطين على موعدٍ مع الثوار وثورة فلسطين الكبرى سنة 1936.
من مغارة أم العمد:
حطين بحكم موقعها ووقوعها على الطريق الواصل بين مدينة طبرية ومدن مثل الناصرة وعكا، جعلها ذلك في أتون الثورة، خصوصًا بعد اشتعالها في الجليل على إثر مقتل ضابط لواء الشمال لويس أندروز في أواخر أيلول/ سبتمبر سنة 1937. بحسب الروايات، كان قاسم السعدي ومحمود شعبان هما المرشدان للثورة وتنظيمها في حطين، كما أنهما كانا يقضيان بين الناس لفض النزاعات بينهم في سنوات الثورة في حطين(10).
اشترك ثوّار حطين في كمائن وأعمال فدائية متعددة تحت قيادة عبدالله الأصبح ابن قرية الجاعونة، ومن أبرز المواجهات التي خاضها الثوار الحطاطنة كانت معركة “رأس القصيبعة” الواقعة غربي حطين، حيث هاجم البريطانيون ثوار القرية بشاحنات عسكرية، وتصدى لها الثوار، ما استدعى تدخّل الطيران الحربي البريطاني لقصفهم، دون أن يُصاب أحد، كما شارك ثوار حطين في كمين الجبل الحامي الذي نصبه ثوار قرية لوبية لدورية إنجليزية على طريق قرية عيلبون غربي حطين، وقد استشهد في هذا الكمين قائد فصيل قرية لوبية المُكنى “أبو مصطفى”(11).
في نيسان/ أبريل سنة 1937، كان ثوّار حطين على موعدٍ مع وادي العمود من قضاء طبرية، في عملية فدائية نظم لها كل من ذيب الإمام “أبو درويش” من حطين، ومحمود درويش من مدينة صفد، ومعهما مجموعة كبيرة من مجاهدي منطقتي طبرية وصفد، وقُتل فيها عدد كبير من الجنود الإنجليز، واستشهد من الثوار تسعة عشر مجاهدًا. على إثر هذه العملية، وتحديدا في يوم 24/4/1937 فرض المندوب السامي غرامة مالية على حطين، وكلّف أهلها بتقديم عشر بنادق، ما حدا بالحطاطنة مغادرة القرية جميعًا باستثناء العُجّز منها. كما احتجز المندوب السامي مبلغاً قيمته 30 جنيهًا كان قد جمعه أهالي القرية لبناء مدرسة(12)، كما شارك ثوار حطين في معركة القديرية أو البطوف الكبرى في تاريخ 30/12/1937، والتي اعتبرت من أكبر معارك الثورة ضد الاستعمار البريطاني في الجليل، إذ اشتركت فيها فصائل ونجدات عربية قُدرت بالمئات من ثوار قرى الجليل عمومًا بما فيها حطين. استمرت المعركة طوال نهار ذلك اليوم، وقد تكبد الإنجليز خسائر كبيرة، بينما استشهد ثمانية من الثوار المجاهدين.
بعد أن ازدادت وتيرة المواجهات والعمليات الفدائية ضد الدوريات والقوات البريطانية منذ أواخر سنة 1937 في الجليل، صارت حطين مثل قرى كثيرة تتعرض بشكل دائم للتطويق العسكري وتفتيش المنازل، حيث صار يُخلط حبوب البيوت بزيتها، ثم سكب الكاز عليها لتلفها، وذلك في عادة تعمدت فيها قوات الاستعمار البريطاني معاقبة أهالي المدن والقرى لدعمهم واحتضانهم الثورة والثوار(13). مما دفع ذلك الثوار إلى الفرار إلى المغاور والجبال بعيدًا عن أعين الإنجليز، فغدوا مطاردين تتعقبهم الدوريات وكلاب أثرها.
“يا رب يا صَمد يا واحد أحد، تحمي الشباب في أم العمد…” كانت هذه واحدة من تمائم التضرع التي تعودت الحطينيات من نساء وأمهات ثوار القرية ترديدها في ظل فرار الثوار من قريتهم وتعقب الإنجليز لهم. حيث كانت مغارة أم العمد الواقعة شمالي حطين عند وادي الحمام ملاذًا لثوار القرية وآخرين من القرى المجاورة، إذ كان يُنقل لهم الطعام والرسائل والرصاص عندها(14). ومثلما كانت أم العمد مأوىً للثوار، كان مقام النبي شعيب مخبأً لسلاح القرية، في اعتقاد بأن السلاح في كنف نبي الله شعيب يظلُّ في مأمن حتى من أنف كلب أثر الإنجليز(15).
يوم السرايا:
راحت عساكر بيها وتيتمت أطفال
والله وأكبر على الى ما حضر فيها…
كان هذا آخر بيت في قصيدة قالها شاعر قرية المجيدل المهجرة فرحان السلّام عن معركة طبرية، والتي أطلق عليها أهالي حطين اسم “معركة السرايا” نسبة إلى سرايا طبرية التي تحولت إلى مقر حاكم طبرية البريطاني(16). حيث داهمها ثوار القضاء، وحرروها ليومين في الثاني والثالث من تشرين أول/ أكتوبر سنة 1938. لم يخض ثوار حطين ذلك الهجوم لوحدهم بالطبع، إنما اشتركوا فيه، وكانوا على رأس الهجوم مع مئات المجاهدين من شتى فصائل مدن وقرى الجليل ومرج ابن عامر.
لم يقتحم جميع الثوار المجاهدين طبرية في حينه، إنما كمنت بعض فصائلهم على طريق الناصرة – طبرية لقطع الطريق على دوريات النجدة الإنجليزية، كما رابط فصيل يحيى الهواش ومعه فصيل خالد السعود من عرب الخوالد على طريق سمخ – طبرية عند الحمّامات لمنع وصول القوات البريطانية للمدينة، وقد أوقع هذان الفصيلان فعلًا بثلاث مركبات عسكرية بريطانية على تلك الطريق، كانت قادمة لنجدة طبرية، وقُتل منها بعض جنودها. أما على طريق صفد – طبرية، فقد رابط عليها فصيل عرب المواسي بقيادة شهاب الحمود، واشتبك مع القوات البريطانية القادمة من صفد لطبرية عند قرية المجدل(17).
سهلت تلك الكمائن على الطرق المؤدية إلى طبرية، على باقي الفصائل الثلاثة المُهاجمة لطبرية اقتحامها المدينة والسيطرة على السرايا فيها. وقد انضم ثوار حطين وقتها لفصيل أبي عاطف المُغربي بقيادة من قرية عموقة، بينما الفصيلان الآخران، كانا فصيل قرية إندور بقيادة يوسف عبد الخالق، وفصيل عرابة البطوف بقيادة صالح منصور(18).
من مآثر تلك المعركة، التي ظلّ يتذكرها أهالي حطين على لسان الحاج رشيد أحمد السعدي أخو الشهيد سعيد أحمد السعدي الذي اشترك في تلك المعركة، هو تسلل فصائل الثوار إلى عمق مدينة طبرية عبر أنابيب مياه الصرف الصحي التي أنشأها البريطانيون بعد الطوفة الكبرى (الفيضان) سنة 1934 من أجل تصريف المياه الجارية(19). وما كان لذلك التسلل أن يمر بنجاح وسلام لولا الحطاطنة الذين خَبروا مداخل ومخارج مدينة طبرية، فأدلّاء تسلل الثوار عبر الأنابيب كانا حسين عطا السعدي، وفرج نايف أبو سويد من قرية حطين(20).
بحسب الروايات، فإن أبا عاطف المُغربي كان أول من اقتحم السرايا، وقتل حرّاسها من اليهود واستولى على أسلحتهم، ولدوره خلّد له الشاعر فرحان السلّام بيتًا خاصًا به في القصيدة ذاتها، قال فيه:
الليلة اللي دخل أبو عاطف لها عنوان
خلع أبواب انفتحوا أهاليها
سيستشهد المُغربي قائد فصيل قرية عموقة لاحقًا، في معركة الشجرة سنة 1948 من عام النكبة، وكذلك المجاهد محمد يوسف البدوي ابن قرية حطين شقيق الشاعر – الحادي الحطيني، حيث سيستشهد في عام النكبة بمعركة لوبية. وقد اشترك البدوي في هجوم السرايا وقام بحرف جميع مستندات مكتب الحاكم فيها، وأخذ مفاتيح السرايا يومها، وقدّمها بحسب ما يروى هدية باسم ثوار حطين وقضاء طبرية إلى مقر قيادة الثورة في دمشق في حي الميدان، إذ سلّمها لمحمد الأشمر قائد المقرّ، وقد كافأه هذا الأخير ببدلة شامية تقديرًا لدوره في معركة السرايا(21). كما أشار الحاج أحمد الحايك في مقابلة معه إلى دور والده يوسف عبد الخالق الحايك قائد فصيل إندور في مهاجمة حي اليهود في طبرية والسيطرة عليه خلال معركة السرايا(22).
في اليوم التالي لمعركة السرايا، طوّقت قوات الإنجليز قرية حطين، لإدراكها دور الحطاطنة وثوارهم في تدبير هجوم طبرية واقتحام السرايا، وقد نسفت القوات البريطانية بالديناميت بيتيّ الحاج قاسم السعدي وخليل جفالة(23). غير أن الانتقام الإنجليزي الأكبر من حطين وأهلها جاء في العاشر من تشرين ثاني/نوفمبر 1938، فقد وثّق جميل عرفات نقلًا عن مُهجري قرية حطين المذبحة الرهيبة التي ارتكبها الإنجليز في ذلك اليوم بعد أن طوّقوا القرية، وأخرجوا جميع رجالها إلى إحدى ساحتها، ثم اختاروا ستة رجال من بينهم، وأعدموهم رميا بالرصاص على مرأى من أهاليهم، وكان شهداء تلك المذبحة هم: نمر خالد أبو سويد، أحمد حسين أبو سويد، سليم البهنس، عبدالله العناني، مصطفى أحمد بيكه ويوسف جنيد، وهذا الأخير من قرية فراضية(24).
التشييع الأخير:
ظلت حطين معمّدة بدماء أبنائها طوال فترة الاستعمار البريطاني للبلاد، خصوصًا خلال سنوات الثورة الكبرى 1936 – 1939، وقد خلّد شاعرها الشعبي الحطيني مآثر ثوار قريته وشهدائها الذين كانوا قضوا بالعشرات، في قصائده وردّاته الشعرية الشعبية. كما كان الحطاطنة سياسيًا من مؤيدي المفتي الحاج أمين الحسيني وحزبه الحزب العربي الفلسطيني في تلك الفترة أسوة بمعظم باقي قرى الجليل ومرج ابن عامر.
كما بقيت علاقة الحطاطنة بجيرانهم من يهود المستعمرات محفوفة بالتوتر الدائم إلى ما بعد انتهاء الثورة الكبرى طوال سنوات الأربعينيات. ومع ذلك، لم يقبل أهالي حطين بفعل النقيصة، أو إلى ما يُسيء إلى شرف العداء والخصومة مع مستعمريهم، فحين قام أحد رعيان القرية بضم قطيع ضائع من الغنم لقطيعه، تعود ملكيته ليهود “مستعمرة متسبيه” المجاورة رفض أهالي الحطاطنة ذلك، وأعادوا القطيع لأصحابه(25).
في يوم العاشر من حزيران/ يونيو من عام النكبة سنة 1948، خرج كل أهالي حطين وعن بِكرة أبيهم في تشييع “أبو شكيب الحطيني” محمد يوسف البدوي أخو شاعر القرية الحطيني. كان جثمان أبي شكيب محمولًا على أكتاف أبناء قريته نحو مقام النبي شعيب في آخر زيارة للمقام، وآخر جنازة شيّعها الحطاطنة في قريتهم حطين، قبل اقتلاعهم وطردهم منها في ذلك العام. استشهد أبو شكيب في معركة لوبية التي خاضها مع فصيل قريته في يوم التاسع من حزيران/يونيو 1948، وتطول قائمة شهداء حطين في معارك أحداث عام النكبة من طبرية وناصر الدين إلى لوبية وحطين، كما لاحقت العصابات الصهيونية دماء الحطاطنة إلى ما بعد سقوط قريتهم في السابع من تموز/ يوليو 1948 في عليبون والصفصاف، وذلك في حكاية أخرى فصلها يطول.
………………….
هوامش:
(1). راجع: سلايمة فادي، السعدي، مجدي، قرية حطين: ريحانة صلاح الدين، صفحات للدراسات والنشر، دمشق، 2011، ص 46. أشار هذا المرجع نقلا عن مصطفى الدباغ في موسوعته إلى أن عقيلة أغا الحاسي يعود في نسبه لعرب المواسي، بينما عشيرة حاسة كانت تعود للهنادي، والتي نزل بعض منها قرية الدلهمية جنوبي طبرية، وبقوا فيها حتى عام النكبة.
(2). منصور، القس أسعد، تاريخ الناصرة: من أقدم أزمانها إلى أيامنا الحاضرة، دار الأهلية، الأردن – عمان، 2020، ص 114-115.
(3). منصور، القس أسعد، المرجع السابق، ص 113.
(4). سلايمة، فادي، والسعدي، مجدي، المرجع السابق، ص 45.
(5). منصور، جوني، عقيلة آغا الحاسي: الرجل وعصره، مطبعة النصر التجارية، نابلس، 2018، ص 115.
(6). سلايمة والسعدي، المرجع السابق، ص 48.
(7). المرجع السابق، ص48.
(8). عرفات، جميل، من ذاكرة الوطن: من قرانا المهجرة في الجليل، 1999، جزء 1، ص 111.
(9). سلايمة والسعدي، المرجع السابق، ص50.
(10). المرجع السابق، ص 51.
(11). المرجع السابق، ص51.
(12). عرفات، جميل، المرجع السابق، ص114.
(13). راجع: السعدي، رشيد أحمد، حطين، مقابلة شفوية، موقع فلسطين في الذاكرة: ضمن مشروع تدوين الرواية الشفوية لنكبة فلسطين، ج1، تاريخ 24/6/2008.
(14). السعدي، رشيد أحمد، المقابلة السابقة.
(15). المقابلة السابقة.
(16). المقابلة السابقة.
(17). سلايمة والسعدي، المرجع السابق، ص 53.
(18). المرجع السابق، ص 53.
(19). السعدي، رشيد أحمد، المقابلة السابقة.
(20). سلايمة، والسعدي، المرجع السابق، ص53.
(21). المرجع السابق، ص54.
(22). الحايك، أحمد يوسف عبد الخالق، إندور، مقابلة شفوية، موقع فلسطين في الذاكرة: ضمن مشروع تدوين الرواية الشفوية لنكبة فلسطين، تاريخ 2-6-2007.
(23). السعدي، رشيد أحمد، المقابلة السابقة. وأيضا: سلايمة والسعدي، حطين: ريحانة صلاح الدين، ص54.
(24). عرفات، جميل، المرجع السابق، ص 115.
(25). سلايمة والسعدي، المرجع السابق، ص 60.
ـــــــــــــــــــــــــ
* كاتب فلسطيني وباحث في التاريخ الاجتماعي
المصدر: عرب 48