الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

فرنسا المأزومة قرب منحدر!

عبد الله السناوي *

لا تلخص الاحتجاجات العنيفة، التي اجتاحت باريس ومدن عديدة أخرى، الأزمة الفرنسية بكامل تجلياتها. انتفاضات الضواحي وجهٌ للأزمة، وليست الأزمة كلها.

قد يغري الهدوء الظاهر بعد أيام عاصفة بالغضب الجامح في الشوارع تخريباً وتدميراً وصداماً مروعاً بين المتظاهرين الغاضبين على مقتل شاب من أصل جزائري في السابعة عشرة من عمره برصاص ضابط شرطة أن الأزمة انقضت.

إنها النار تحت الرماد، جذوتها كامنة ومرشحة للاشتعال مرة أخرى.

الاحتجاجات بكل عنفها تعبير عن غضب مكتوم متوارث تمددت أسبابه إلى أحدث أجيال المهاجرين، خاصة من دول المغرب العربي، الجيل الثالث أو الرابع، كلهم تحت العشرين من أعمارهم.

وفق أرقام الشرطة الفرنسية فإن (70%) من آلاف الموقوفين تحت سن الـ(17) عاماً.

إرث الماضي الاستعماري ماثل بقوة تحت الجلد السياسي والاجتماعي وممتد إلى الحاضر والمستقبل.

نفي الإرث الاستعماري تجهيل ببعض حقائق الأزمة الخانقة، حيث الشعور بالغبن والتمييز وعدم المساواة متأصل ويحتاج إلى مقاربات جديدة تعترف وتعتذر عن آثام الماضي وتعمل على تصحيح العلاقات بين مواطني الدولة وفق قواعد وقيم الجمهورية الفرنسية، والكف عن لغة التعالي والإنكار.. كأن يقال: «فليعودوا إلى بلادهم»!

هذه بلادهم الآن.. نحن نتحدث عن ستة ملايين مواطن، نسبة معتبرة من السكان، لم يعودوا رقماً طارئاً على الحياة الفرنسية، هم الآن في صلبها ويستحيل أي حديث جدي عن المستقبل دون أن يكونوا طرفاً فيه.

انتقال إرث الغضب والتهميش من جيل لآخر تعبير عن فشل سياسات الإدماج في المجتمع الفرنسي، وأنه في حاجة إلى مقاربات جديدة.

انتفاضة الضواحي، التي ضربت فرنسا عام (2005) في ولاية الرئيس «جاك شيراك»، تكررت مرة ثانية في (2023) بسيناريو مشابه تحت حكم «إيمانويل ماكرون».

في انتفاضة (2005) شُلت العاصمة تماماً في (27) تشرين الأول/ أكتوبر، دمرت مبانٍ وسيارات عامة وخاصة، أعلنت حالة الطوارئ في (8) تشرين الثاني/ نوفمبر، واعتقل آلاف المواطنين.

اهتزت صورة الرئيس وبرزت على السطح صراعات شبه مُعلنة بينه وبين وزير داخليته الطموح لخلافته «نيكولا ساركوزي».

حسب رواية الصحفي الفرنسي الأشهر «إريك رولو»، كما استمعتُ إليه ذات مساء على نيل القاهرة قبيل الانتخابات الرئاسية التي صعدت بـ«ساركوزي» إلى مقعد الرئاسة، بعد عامين بالضبط من انتفاضة الضواحي، أنه لم يكن يتورع عن الكلام باستخفاف عن رئيس الجمهورية أمام الصحفيين الفرنسيين.

فيما كان «شيراك» يلقي خطاباً متلفزاً بمناسبة عيد الثورة الفرنسية، طلب وزير داخليته إغلاق التلفزيون، قائلاً لمرافقيه من الصحفيين: «لماذا لا يكف عن هذا الكلام الفارغ؟»!

بعد مغادرته قصر الإليزيه انتقم «شيراك» لنفسه في مذكراته معرِضاً وساخراً من وزير داخليته وخليفته.

المثير أن كليهما اتُهم في ذمته المالية وجرت محاكمته.

كشفت انتفاضة الضواحي الأولى عمق الشروخ في البنية الاجتماعية وعمق شروخ أخرى في بنية الحكم تحولت بمضي الوقت إلى فوالق سرعان ما انهارت بإفلاس معلن للنخبة السياسية الفرنسية بجناحيها الجمهوري والاشتراكي، اليميني واليساري معاً في التوقيت نفسه.

قفز المصرفي الشاب «إيمانويل ماكرون» إلى الرئاسة من فوق ركام ذلك الإفلاس، على أمل ترميمها وإعادة صياغتها من جديد، لكن تجربته أكدت الإفلاس ولم تنفِهِ ونالت من أوزان بلاده وأدوارها في أفريقيا وداخل التحالف الغربي.

بالأفكار والتوجهات فهو أقرب إلى يمين الوسط، أو الحزب الجمهوري بإرثه الديجولي.

وبالتجربة العملية، فقد اختاره الرئيس الاشتراكي الأخير «فرنسوا أولاند» لتولي حقيبة الاقتصاد.

عندما استشعر تقوّض فرص «أولاند» في تجديد ولايته لم يتورع عن أن يرشح نفسه ويدفعه إلى الانسحاب من السباق الرئاسي.

شعر «أولاند» بالخذلان دون أن يكون بوسعه أن يصنع شيئاً، كان كل شيء قد انتهى.

بدا صعود «ماكرون» تعبيراً عن ضجر فرنسي من النخبة السياسية التقليدية، التي أفلست تماماً وضرَبها الفساد.

كانت تلك أزمة جوهرية ضربت مؤسسات الدولة ونالت من الموقع الرئاسي.

لم يكن ممكناً أن يجدد «ماكرون» ولايته لدورة ثانية، مع التراجع الفادح في شعبيته، لولا أن الطرف الآخر في جولة الإعادة اليمينية المتطرفة «مارين لوبان».

بدا التصويت العام أقرب لاستفتاء على رفض «لوبان» بتوجهاتها الشعبوية ضد الاتحاد الأوروبي والمهاجرين والأقليات، لا تجديد ثقة في سياسات الرئيس.

بأية قراءة موضوعية يصعب التعويل على السياسات المتبعة لتدارك أسباب ودواعي انتفاضة الضواحي الجديدة.

جرى توظيف العنف المفرط، الذي ارتكبه المحتجون، إلى إنكار أسباب الاحتجاجات، التي فجرت الأحداث، دون اعتراف بالممارسات الأمنية العنصرية التي ترتكب بحق المواطنين من أصول عربية وإفريقية، أو إبداء أدنى استعداد للتصحيح والتصويب.

في توظيف آخر للعنف، الذي شابَ الاحتجاجات المدان بطبيعة الحال، تحولت القضية من أزمة تهميش إلى أزمة شغب تقتضي الضرب بيد من حديد لإعادة الاستقرار والهدوء مرة أخرى.

نُسب لمسؤولين حكوميين أن ما جرى أزمة مجتمعية لا أزمة ضواحي!

الكلام يبدو متماسكاً لكنه في حقيقته تهرب من مواجهة الأزمة في وجهها المباشر، أزمة تهميش وإقصاء وتفلت عنصري في بلد اكتسب هيبته التاريخية من إرثه في المساواة وإعلاء حقوق المواطنة ودولة القانون.

بمثل هذه المعالجات يصعب ألا تعود، بحادث أو آخر، انتفاضات الضواحي لتهز فرنسا من جديد.

بالنسبة لـ«ماكرون» فقد كان شاغله الأول مع اندلاع الاحتجاجات ألا يضطر أن يفرض حالة الطوارئ كما فعل «شيراك» في (2005)، أو أن تفلت الحوادث عن أية سيطرة في أوضاع اقتصادية صعبة تعانيها البلاد.

بصياغة أخرى، نحن أمام ترحيل لأزمة الضواحي، دون اعتراف حقيقي بأسبابها ودواعيها.

الأزمة الفرنسية سياسية بالمقام الأول وتتولد منها بقية الأزمات والاضطرابات.

الخشية هنا أن تجد فرنسا نفسها مدفوعة باليأس والإحباط إلى انتخاب مرشح يميني متطرف في الانتخابات الرئاسية المقبلة.

بخياراته المعادية للأجانب وسكان الضواحي والمسلمين والاتحاد الأوروبي نفسه سوف يضع فرنسا على فوهة انفجار.

بمثل هذا السيناريو، قد تخسر فرنسا روحها ومبادئ جمهوريتها.

إذا لم تتدارك أزمتها فإن السقوط من منحدر سيناريو لا يمكن استبعاده.

* كاتب صحفي مصري

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.