الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

في ذكرى معركة ميسلون – بين التبعية والاستقلال لا توجد منطقة وسطى

معقل زهور عدي

في العهد الفيصلي بين الأعوام 1918– 1920 تقاطع خطان سياسيان مختلفان، خط سياسي يمثله الأمير فيصل بن الحسين (الملك اعتبارا من 8/3/1920) وخط سياسي تمثله جمعية الفتاة العربية وحزبها حزب الاستقلال وحولها الأحزاب الوطنية واللجان الشعبية وجمهور واسع من الشعب السوري.

حافظ الخط السياسي للأمير فيصل على علاقة غير متكافئة مع الدولة البريطانية، كان يحاول فيها السير بخطوات حذرة ضمن الهامش الذي تسمح  فيه السياسة البريطانية في المنطقة مراعيا ما أمكن الخط السياسي الآخر بل مدعياً في كثير من الأحيان انتماءه لخط العربية الفتاة الذي أطلق المؤرخون عليه أيضا “برنامج دمشق” وقد لخصت ذلك الخط لائحة المؤتمر السوري العام الأول المنعقد في 7 حزيران/ يونيو عام 1919 المقدمة إلى اللجنة المنبثقة عن مؤتمر السلام الدولي (كنغ – كراين) والتي أوفدها المؤتمر لسورية لاستطلاع رأي السوريين في الوحدة والاستقلال والانتداب.

تضمن “برنامج دمشق” أفكاراً واضحة حول استقلال ووحدة سورية الطبيعية من جبال طوروس شمالاً وحتى العقبة جنوباً ومن البحر المتوسط غرباً وحتى مابعد البوكمال شرقاً, ورفض الانتداب الفرنسي, ورفض مشروع الاستيطان الصهيوني بفلسطين وطلب رفع أية حواجز اقتصادية أو سياسية بين العراق وسورية.

ظل هذا البرنامج بدون تعديل حاكما للنشاط السياسي للعربية الفتاة ولحزب الاستقلال والأحزاب القريبة منها مثل حزب العهد وحزب الاتحاد السوري وللجان الشعبية (لجان الأحياء واللجنة الوطنية العليا للدفاع) ومثل بحق موقف الغالبية من الشعب السوري مقابل أقلية كانت مهادنة للانتداب الفرنسي,  أما من كان يفكر  بعودة الدولة العثمانية فقد انقطع أمله سريعاً وبدأ يتلمس موقفه بين التأييد لبرنامج دمشق أو الابتعاد عنه الى هذا الحد أو ذاك.

لم يعمل الأمير فيصل لبناء الأسس اللازمة لتحويل برنامج دمشق من مجرد شعار إلى حقائق على الأرض فقام بتسريح جيش الشمال العربي الذي دخل دمشق في مطلع تشرين الأول/ نوفمبر عام 1918, وتم تجريده من السلاح وجمع سلاحه وإخراجه من سورية بطلب من الادارة البريطانية في مصر, وأهمل عن قصد بناء الجيش حتى مطلع كانون ثاني/ يناير عام 1920 بعد أن انسحب الجيش البريطاني من سورية ليحل محله الجيش الفرنسي في إشارة واضحة لبدء تنفيذ الانتداب الفرنسي على سورية وفق اتفاق سايكس- بيكو, وخطب فيصل في 28 أيار/ مايو وقبل هجوم الجيش الفرنسي على دمشق بشهرين قائلاً: “بقينا سنة دون أن نتمكن من تنظيم وحدة للاستعراض, بينما لم يمر شهران على قانون التجنيد حتى رأينا لنا جيشاً ولو قليلاً”، في محاولة مكشوفة لرمي المسؤولية في التقصير ببناء الجيش بعيداً عنه في حين أنه هو من كان بيده القرار وليس سواه في كل المرحلة السابقة.

لكنه اعتراف لا يحتاج بعده لإثبات في إهمال بناء القوة التي كانت ستحمي دمشق من جيش الجنرال غورو, ولا تتركه يمر بالسهولة التي مر بها ليدخل دمشق مختالاً ومستهيناً بمقاومة السوريين, هذا الغرور والاستهتار بالشعب السوري الذي دفعت فرنسا ثمنه غالياً فيما بعد عبر ثورات سورية لا تهدأ حتى اضطرت للجلاء.

ارتبكت حكومة فيصل أيما ارتباك عندما وصلها الإنذار الفرنسي, وكان فيصل يكرر باستمرار على مسامعها ومسامع الشعب أن الدول العظمى خاصة فرنسا وبريطانيا لا تُكن لسورية سوى النوايا الطيبة, وأن كل خلاف معها يمكن حله بالتفاهم والتفاوض!, وفجأة نزل إنذار غورو على فيصل وحكومته كوقع الصاعقة, كاشفاً الغطاء عن الحقيقة التي تم تزييفها وتجاهلها طيلة الوقت, وزاد من الخوف والقلق والذهول أن بريطانيا التي كانت بالنسبة لفيصل الأم الحنون تخلت عنه بصورة تامة, بل ونصحته بقبول إنذار غورو مما يعني نهاية الدولة السورية.

عندما حلت ساعة الحقيقة اكتشف فيصل وحكومته أن الوقت قد فات على إعداد جيش قادر على مواجهة الجيش الفرنسي المُحتشد على الحدود مع لبنان, وأن ما لديهم من قوات لا يكفي للصمود سوى بضعة ساعات حسب رئيس الأركان ياسين الهاشمي, بالتالي لا بد من الاعتراف بالواقع وتجنيب البلاد معركة خاسرة بكل المقاييس.

بالطبع لم يكن الوقت متسِعاً للتفكير في لماذا وكيف أضعنا معظم الفرصة لتكوين الجيش خلال أكثر من عام, ومن المسؤول عن ذلك؟

مرة أخرى تصرف فيصل وحكومته بدافع الوهم بأن خط الاستسلام والتبعية لا بد أن يعطي ثمرة ما ولو كانت مُرة مع فرنسا كما كان الحال عليه مع بريطانيا, وتم تسريح الجيش وتركه لمواقعه الحصينة في جبهة “مجدل عنجر” حيث كان متحكماً بالطريق لدمشق, وكان يمكن أن يوقع في الجيش الفرنسي خسائر كبيرة بحكم الموقع الجغرافي وطبيعة الأرض. بالرغم من محدودية الإمكانات المتاحة.

وفي لحظة عصيبة انصاع وزير الحربية البطل (يوسف العظمة) للأوامر بتسريح الجيش ومغادرته مواقعه, فهو لم يعتد كضابط قاتلَ في معارك كثيرة في الدولة العثمانية على العصيان وعدم تنفيذ الأوامر. ولعبت شخصية الأمير فيصل (الذي كان قد أصبح ملكاً) والهالة التي أحاطت به دوراً في تنفيذ أوامر الانسحاب وتسريح الجيش, وفوجئ الجميع أن ذلك كان مجرد حيلة للجنرال غورو لفتح الطريق أمام الجيش الذي لن يتوقف قبل دخول دمشق بغض النظر عن قبول الانذار وتسريح الجيش.

بلا شك فقد تملك البطل يوسف العظمة الإحساس الشديد بالندم والذنب لإخلاء المواقع الحصينة في مجدل عنجر وتسريح الجيش الذي كان قد غادر مواقعه ووصل دمشق بارتباك شديد وفوضى عامة، ومن خلال إحساسه العالي بالشرف والوطنية المتدفقة في دمه قرر الاستشهاد واقفاً أمام سيل الدبابات وقنابل المدفعية والطائرات, مع ثُلة محدودة من الجنود تراوحت تقديرات أعدادهم بين 700 جندي وألف وخمسمئة مع احتساب المتطوعين. مقابل قوة معززة بالدبابات والمدفعية والطيران قدرت بأكثر من عشرة آلاف جندي فرنسي وإفريقي يعمل تحت إمرة الضباط الفرنسيين.

استُشهد يوسف العظمة كما أراد تماماً, لكنه لم يعرف كم إن شهادته ستكون عظيمة وخالدة، فوق كل التخاذل والخيانة التي طفت على السطح وبقيت في مزابل التاريخ. هكذا أعطتنا ميسلون الدرس والرمز معاً.

الدرس أن لا منطقة وسطى بين التبعية والاستقلال، بين الوطنية والذيلية، بين الخيانة والبطولة.

والرمز الذي يُلهم الأجيال أن الشعب السوري قادر على أن ينجب الأبطال ويتعلق بهم، ويزدري التخاذل ويكره الخيانة والتفريط بالأوطان.

المصدر: صفحة الكاتب على وسائل التواصل

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.