سليمان أبو ارشيد *
في كتابه «العبرنة والعولمة في المشهد اللغوي لدى الفلسطينيين في إسرائيل» الذي صدر حديثا عن “مؤسسة الدراسات الفلسطينية”، يقول الباحث بروفيسور “محمد أمارة”(**)، إن اللغة العربية بقيت اللغة المُهيمنة لقرون طويلة على الرغم من وجود العديد من اللغات في المشهد اللغوي الفلسطيني، حيث تُعزز حضورها وحيويتها بعد الفتح الإسلامي لفلسطين، وعلى الرغم من أن فلسطين مر عليها مستعمرون من مختلف الشعوب، فإنها حافظت على هويتها العربية والإسلامية، وكذلك على اللغة العربية.
ويشير إلى أن التغيير الجذري حدث بعد التحولات الجيوسياسية في المنطقة وإنشاء إسرائيل، التي قامت بتهويد الحيز، وجعل العبرية اللغة المهيمنة في المجالات العامة. وعلى الرغم من إبقاء العربية لغة رسمية (إلى أن سن قانون القومية سنة 2018 وألغيت رسميتها) فإنها في الواقع كانت مفرغة من مضامينها القومية.
ويرى ‘أمارة’ أن اللغة أساسا ممارسة ثقافية، وأنها موقع للتنافس الأيديولوجي، كونها تشتمل على علاقات قوى غير متجانسة بين المجموعات والأفراد وأن الصراعات المؤدلجة أكثر حدة من غيرها من الصراعات، حيث تكون لها انعكاسات وتفاعلات لغوية واضحة وقوية، ويتبنّى وجهة النظر التي تعتبر اللغة جزءا من الحالة الاستعمارية السائدة في الصراع الدائر في الشرق الأوسط، والتي انبثقت من مفهوم الاستشراق اللغوي المكمل للحالة الاستعمارية وتجلياته في حالة اللغة العربية ومكانتها في إسرائيل.
ويشير كذلك إلى أن دراسة التاريخ الاجتماعي للغة العربية ونتاجاتها والمواقف منها داخل إسرائيل تنبثق من السياق الاستعماري، حيث رأت مؤسسات الدولة اللغة العربية كلغة أجنبية، ومسألة السيطرة عليها هي تعبير عن القوة الاجتماعية والسياسية لليهود في الدولة.
ومثلما هي الحال في الأنظمة الاستعمارية الأخرى، تعمل اللغة في خدمة المؤسسة التي تعمل، كما يقول، من ناحية على مصادرة الفضاء الثقافي- الإقليمي وقدرة اللغة العربية على أن تكون أداة لتعزيز الهوية القومية، ومن ناحية أخرى هي تنظر إلى اللغة لدى الأقلية العربية الفلسطينية في إسرائيل. على أنها أقل شأنا ولا تلائم المجتمع اليهودي الذي يرى أنه يمتلك ثقافة أعلى شأنا في الشرق الأوسط.
ويشير ‘أمارة’ إلى أن مؤسسات الدولة والعرب الفلسطينيين أنفسهم إلى اللغة العربية الفصحى رمزا للوطنية والقومية، وبالتالي أدركوا أن الطلاقة فيها والسيطرة عليها من شأنه أن يمكن من تعزيز هوية هذه المجموعة، ولذلك عملت الدولة على منع هذه العملية.
وبهذا الصدد، حاور “عرب 48” ب. محمد أمارة حول موضوع الكتاب وتأثير العبرنة والعولمة على اللغة والهوية الثقافية للفلسطينيين في إسرائيل.
“عرب 48”: منذ مدة طويلة وأنت تكتب وتبحث هذا الموضوع أكاديميا وتحذر سياسيا من خطر العبرنة والأسرلة ولاحقا العولمة على لغتنا وهويتنا الثقافية والوطنية، ولك قي هذا المقام قول مشهور إنه “لم يسلم من العبرنة سوى المقابر والمنابر”، والكتاب الجديد جاء تتويجا لهذا الجهد؟
ب. أمارة: صحيح، لدي عدة مقالات أكاديمية باللغة الإنجليزية عن هذا الموضوع والكتاب جاء ليشمل كل هذه المواضيع وباللغة العربية.
نحن كشعب عربي فلسطيني نواجه بعد النكبة تحديات مجتمعية هائلة من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، ومن النواحي الثقافية اللغوية الرمزية فقد نكب شعبنا بلغته ومصادره الثقافية أيضا.
لقد كنا الأمة المهيمنة والثقافة المهيمنة في المنطقة لآلاف السنين، كما نستطيع أن ندعي وخلال قرون طويلة وثقها التاريخ الحديث، ورغم مرور استعمارات وشعوب كثيرة بقيت اللغة العربية هي اللغة السائدة والمهيمنة فيها.
المعادلة تغيرت مع قدوم الاستعمار الصهيوني لفلسطين وإنشاء دولة إسرائيل، فالحديث لا يجري عن لغة جديدة دخلت لتحتل مكان وحيز فقط، بل عن عبرنة بمعنى سياسة أيديولوجية هي عبارة عن هندسة لغوية لتغيير الواقع بجغرافيته وتاريخه ومسمياته ومعالمه المختلفة.
وإن كانت العبرنة قد استهدفت اليهود وخاصة ذوي الأصول العربية والقادمين من دول شمال إفريقيا والمشرق العربي، إلا أنها شملت المكان وما بقي عليه من سكان أصليين نجوا من عملية التهجير الواسعة وظلوا في قراهم ومدنهم.
العبرنة لدى اليهود شملت حتى تغيير أسماء العائلات إلى أسماء عبرية وفرض تعليم اللغة العبرية عليهم، وصولا إلى الاستهتار بثقافتهم العربية ومحاولة سلخهم عنها وإدخالهم في “بوتقة الصهر” وفي عملية العبرنة المجتمعية الشاملة.
في هذا الإطار جرى نقاش فيما يخص ما تبقى من عرب وهل يتم الإبقاء على لغتهم في مدارسهم وفي الحيز الخاص بهم، وهذا ما كان لأنهم لا يريدون ولا يستطيعون دمجهم في المجتمع الاستيطاني الجديد.
“عرب 48”: ربما من حسن حظنا أن الثقافة اليهودية ذات الأصول الدينية التي بني عليها المجتمع الاستيطاني الجديد ترفض الآخر وتعتبرهم “أغيار”؟
ب. أمارة: لهذا السبب كانت السياسة التي استعملت تجاهنا تقضي بالإبقاء على استعمال اللغة العربية ولكن بعد تفريغها من مضامينها الثقافية وارتباطها بالرموز الوطنية والقومية الفلسطينية والعربية.
وهي سياسة أسميتها تفصيل الهوية العربية على مقاس الدولة الإسرائيلية وخلق هوية عربية إسرائيلية مشوهة، فقد علمونا العربية بالتركيز على اللغة الكلاسيكية ليقولوا لنا إن العربية هي لغة الماضي، بالمقابل علمونا العبرية المشبعة بالمضامين الصهيونية والتوراتية.
وبعد محو 530 قرية فلسطينية عن الوجود غيروا أسماء مواقعها وحرفوا الأسماء العربية ولم يسلم مكانا في فلسطين من العبرنة التي طالت كل شيء، وقد قلت في تصريح سابق لي كما أشرت إلى أنه “لم تسلم سوى المقابر والمنابر من العبرنة”، واليوم أنا أتراجع لأنه حتى شواهد قبور الجنود أبناء الطائفة الدرزية الذين يسقطون في الجيش الإسرائيلي تكتب باللغة العبرية، إلى جانب تحويل العديد من الجوامع في المدن التاريخية إلى حانات وخمارات تعلوها لافتات باللغة العبرية.
“عرب 48”: مؤخرا اصطدمت العبرنة بالعولمة التي فرملتها بعض الشيء، علما أن الأخيرة لا تقل خطورة على لغتنا وثقافتنا؟
ب. أمارة: العبرنة تغلغلت إلى قلب الحالة العربية الفلسطينية، سواء إن في المدرسة أو البيت أو الشارع وغزت بشكل مكثف المشهد اللغوي، حيث نراها ونسمعها في الحديث اليومي وفي لافتات المحلات وفي مرافق التعليم، حتى أننا لا نجد أي مجال من مجالات الحياة غير مشبع باللغة العبرية.
كما أن هناك ظواهر خطيرة مثل خليط العربي والعبري وهي ما أسميتها العبرية، على غرار العرنسية التي كانت سائدة في دول جنوب إفريقيا، وهناك ظاهرة كتابة الكلمات العبرية بأحرف عربية وهي كلها ظواهر تساهم في خلق لغة هجينة وثقافة مشوهة.
عندما نتحدث عن عبرنة وأسرلة فإن تخوفنا ليس فقط على اللغة العربية بل على الهوية العربية الفلسطينية، إذ تسللت الأسرلة عبر الكلمات إلى عمق هويتنا، وخصوصا أننا نحكي عن جيل لا ينظر إلى جوهر الأشياء بل إلى مظاهرها، فهو يقول أريد أن أكون متساويا ولا يعنيني كيف ولماذا؟ وأريد المادة ولا يعنيني كيف؟
كما أن بيننا وبينهم فجوة كبيرة لا يمكن جسرها إذا أردنا التمسك بمسلماتنا وثوابتنا، وهي فجوة موجودة حتى مع اليساريين اليهود، بمعنى أنهم لن يقبلوك متساويا على الإطلاق ودون أن تقدم تنازلات جوهرية، إلا إذا شعروا أنهم مهددون بشكل حقيقي واضطروا للوصول إلى تسوية حقيقية، وهذا سيناريو بعيد حاليا.
“عرب 48”: هناك أكثر من عامل يكرس الفوقية اليهودية، يرتبط بالغرب الاستعماري والصهيونية واليهودية ذاتها، ولكن كما ذكرت فإن العولمة تخفف من حدة العبرنة فهناك جيل أصبح يتواصل باللغة الإنجليزية كلغة عالمية وهو ليس بحاجة للغة العبرية؟
ب. أمارة: صحيح العولمة كسرت الحدود الجغرافية وسهلت التواصل والتنقل وحولت العالم إلى قرية صغيرة، كما يقولون، ولكن العولمة هي ليست اللغة الإنجليزية فقط ولا هي لافتات المحلات التي استبدلت العبرية بلغتها وشارات ماركاتها لتتجاوز اللغة ذاتها، وإنما هي تقتحم مجال كل شخص يبدأ حياة اقتصادية وتجارية وسياحية وغيرها.
واللغة الإنجليزية بصفتها لغة العولمة أصبحت اللغة الكاسحة أو القاتلة كما يطلقون عليها، لكن دخلت تحت مظلة العولمة لغات أخرى، وقد تستغرب إذا ما قلت لك إن آلاف مؤلفة من الفتيات العربيات يعرفن اللغة التركية، ليس من المسلسلات فقط بل من السفر والتواصل مع تركيا بصفتها دولة مسلمة، هذا ناهيك عن اللغة الكورية واليابانية وغيرها من اللغات.
ولكن الشباب العرب الذين يحاولون الاستغناء عن اللغة العبرية في أجواء العولمة يعودون ويصطدمون بالواقع في مرحلة التعليم والعمل في الجامعات والسوق الإسرائيلي، بصفتهما المجال شبه الوحيد المفتوح أمامهم رغم انفتاح أبواب التعليم في الجامعات الأجنبية والفلسطينية.
“عرب 48”: لكن تهديد العولمة على لغتنا وثقافتنا لا يقل خطورة عن العبرنة؟
ب. أمارة: صحيح ولكن رغم سيئاتها فإنها إضافة إلى ما ذكرته عن فرملة العبرنة فإنها بحكم ارتباطها بالتكنولوجيا الحديثة، فتحت أمامنا آفاقا واسعة للتواصل وإغناء اللغة والثقافة العربية، وفكت الحصار الثقافي إذا جاز التعبير الذي كان مضروبا علينا وسهلت التواصل الافتراضي والفعلي مع محيطنا العربي ومع مصادرنا الثقافية ومن خلال وسائل الاتصال والاعلام المتنوعة.
………………
(**) بروفيسور محمد أمارة: شغل منصب رئيس الدارسات العليا في كلية بيت بيرل (2014-2018)، ورئيس الرابطة الإسرائيلية لدارسة اللغة والمجتمع (2016-2019)، ورئيس مُشارك في جمعية سيكوي (2010-2020). في سنة 2019، حصل على درجة الأستاذية الكاملة (Full Professor) وعمل حتى عهد حديث في جامعة بار يلان في قسمي العلوم السياسية واللغة الإنجليزية لسنوات عديدة. وعمل أيضا محاضرا زائرا في جامعة تل أبيب، وفي العديد من الجامعات الأوربية والأميركية.
كان من مؤسسي مركز دراسات المركز العربي للحقوق والسياسات ورئيس الهيئة الإدارية الأول. وشغل منصب المدير الأكاديمي لوحدة الأبحاث في دراسات. وكان الرئيس الأول للمجلس التربوي العربي الأول (2011-2013).
تشمل اهتماماته الأكاديمية مجالات التربية اللغوية، السياسة اللغوية، علم اللغة – الاجتماعي، اللغة والهوية، اللغة والسياسة، الهويات الجماعية، والتصدع اليهودي – العربي في إسرائيل، ونشر العشرات من المقالات في دوريات عالمية وفصول في كتب وألف العديد من الكتب باللغتين العربية والإنجليزية.
ــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب فلسطيني
المصدر: عرب 48