الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

تزويد أوكرانيا بالذخائر العنقودية.. والمُثل الليبرالية

ياسمين عبداللطيف زرد *

نشرت مجلة “Foreign policy” مقالاً للكاتب (“ستيفن والت” Stephen M. Walt)، يرى فيه أنه إذا كانت الإدارة الأمريكية الحالية- بقيادة جو بايدن- تؤمن حقاً بالقناعات الليبرالية، ما كان عليها أن ترسل القنابل العنقودية لأوكرانيا، وتُعرض الأشخاص العزل للخطر. الكاتب رأى أن المنظور الليبرالى يعاني من عيبين، أولهما أن الدول الليبرالية تريد فرض قناعاتها على غيرها من الدول دون احترام قيم وعادات الأخيرة، أما العيب الثاني فهو أن الدول الليبرالية في حال تعرض مصالحها للخطر تكون هي نفسها أول من يخرق المبادئ الليبرالية. طالب الكاتب في ختام مقاله الأصوات الليبرالية بضرورة الاعتراف بهذه الثغرات لتحقيق السلام العالمي… نعرض من المقال ما يلي:

بدأ الكاتب حديثه قائلاً إن إدارة بايدن دائماً ما تُمجد الديمقراطيات في مقابل الأنظمة الاستبدادية، وتبرز التزامها بـ«نظام دولي قائم على القواعد»، كما تصر على أنها تأخذ حقوق الإنسان على محمل الجد، لكن إذا كان هذا الخطاب صادقاً، ما كان على الإدارة الأمريكية أن تصدر قرارها المثير للجدل بتزويد أوكرانيا بالذخائر العنقودية، بقنابل تشكل مخاطر جسيمة على المدنيين والمدنيات كان اُنتقد استخدامها بشدة في أوكرانيا من قبل.

ولكن، وكما حدث في قضايا بارزة أخرى على سبيل المثال العلاقات مع العربية السعودية على إثر اغتيال جمال خاشقجي، والقمع الإسرائيلي المتزايد للشعب الفلسطيني، يتم التخلص من القناعات الليبرالية بمجرد أن تصبح غير ملائمة. إذ عندما تكون الدول في مأزق وتشعر بالقلق من احتمال تعرضها لانتكاسة، فإنها تتجاهل مبادئها وتضعها جانباً وتفعل ما تعتقد أنه يساعدها على تحقيق مصالحها!

  • • •

في الحقيقة، الليبرالية تعني أن جميع البشر يمتلكون حقوقًا طبيعية معينة، لا ينبغي التعدي عليها تحت أي ظرف من الظروف، وللحفاظ على هذه الحقوق، يعتقد التيار الليبرالى أن الحكومات يجب أن تكون مسؤولة أمام مواطنيها ومواطناتها من خلال انتخابات حرة ونزيهة؛ وتكون مُقيدة بسيادة القانون؛ كما يجب أن يكون المواطنون والمواطنات- في ظل النظام الليبرالى- أحراراً في التعبير والعبادة والتفكير كما يشاؤون بشرط ألا تضر ممارسة هذه الحقوق بالآخرين. وهذه المبادئ يؤمن بها معظم الأمة الأمريكية.

لكن بالنسبة للتيار الليبرالي، الحكومات الشرعية الوحيدة هي تلك التي تلتزم بهذه المبادئ، حتى وإن كانت لا تفعل ذلك بشكل مثالي.

وحين يأتي الأمر إلى السياسة الخارجية، يميل التيار الليبرالى إلى تقسيم العالم إلى دول جيدة (تلك التي لديها أنظمة شرعية تستند إلى مبادئ ليبرالية)، وأخرى سيئة تؤمن بكل شيء آخر، ويُلقون بمعظم- إن لم يكن بكل مشاكل العالم- على الأخيرة. هم باختصار يعتقدون أنه إذا كانت كل الدول ديمقراطية ليبرالية، فإن تضارب المصالح سوف يتلاشى وتختفي الحروب.

طبعاً هذه النظرة الليبرالية للشؤون الدولية جذابة، فبدلاً من رؤية العلاقات بين الدول في شكل صراع فقط على الموقع الدولي أو الإقليمي، تقدم الليبرالية رؤية للتقدم إلى الأمام والوضوح الأخلاقي.

تسمح هذ الرؤية للجانب الأمريكي وحلفائه أن يستمروا في توسيع النظام الليبرالي على أمل أن يظهر سلام دائم في نهاية المطاف ويتسم العالم بالرخاء والعدل. وإلا، ما هو البديل؟ هل يريد أي شخص فعلاً الممارسات التعسفية للسلطة، أو قمع الحريات، أو قيام الدول بفعل كل ما تريد دون قيود؟

  • • •

ومع ذلك، يرى كاتب المقال أن المنظور الليبرالي يعاني على الأقل من عيبين خطيرين؛ العيب الأول هو أن الليبرالية تأسست على ادعاء بأن كل إنسان- في أي مكان- لديه حقوق معينة غير قابلة للتصرف. أعلن جورج دبليو بوش هذا الرأي في خطاب تنصيبه الثاني، عندما قال إن الهدف النهائي للسياسة الخارجية الأمريكية هو «إنهاء الاستبداد في عالمنا. لماذا هذا ضروري؟ لأن بقاء الحرية في أرضنا يعتمد بشكل أساسي على وجود الحرية في البلاد الأخرى». لكن إذا تم تطبيق هذه السياسة، فإن هذا يعني صراعاً لا ينتهي مع البلدان التي لديها تقاليد وقيم وأنظمة سياسية مختلفة.

العيب الثاني لليبرالية هو هشاشة قناعاتها، كما يظهر في قرار الرئيس جو بايدن إعطاء أوكرانيا ذخائر عنقودية. فعندما يثبت الجانب الشرير (في هذه الحالة روسيا) أنه أكثر مرونة مما كان متوقعاً ولم يتحقق النصر بسرعة، فسيبدأ التيار الليبرالى في تبني سياسات كان يتجنبها من قبل. مثلاً، جورج دبليو بوش أشاد بفضائل الحرية، لكن إدارته قامت أيضاً بتعذيب السجناء! والحالة الأكثر حداثة هي زيارة ممثلين من لواء آزوف في حزيران/ يونيو الماضي لجامعة ستانفورد، وهي ميليشيا أوكرانية ذاتَ ماضٍ موثق جيداً تتبنى أفكاراً نازية وتؤمن بتفوق البيض، لكن استعداد الجانب الليبرالي مثل فرانسيس فوكوياما للترحيب بممثلي آزوف في ستانفورد أظهر مرونة أخلاقية ملحوظة ومخجلة!

  • • •

على أي حال، السياسة هي فن وفي بعض الأحيان تخضع القناعات الأخلاقية إلى الاختبار لتحقيق أهداف أكبر. فمثلاً، تحالفت الولايات المتحدة مع روسيا الستالينية لهزيمة ألمانيا النازية وهذا النوع من النفعية الأخلاقية منتشر على نطاق واسع. كما أسقطت الولايات المتحدة ما يقرب من 6 ملايين طن من القنابل على فيتنام في أثناء الحرب هناك (ما يقرب من ثلاثة أضعاف ما أسقطته على ألمانيا واليابان خلال الحرب العالمية الثانية)، ناهينا عن إضرار سياستها الخارجية «خاصة العقوبات» بالمدنيين والمدنيات في سوريا وإيران وأماكن أخرى.

مثل هذا السلوك ليس مفاجئاً للتيار الواقعي الذي يؤكد أن غياب سلطة مركزية في السياسة العالمية يجبر الدول على القلق بشأن أمنها ويقودها أحياناً إلى التصرف بقوة تجاه الدول الأخرى لأنهم أقنعوا أنفسهم بأن القيام بذلك سيجعلهم أكثر أماناً. ومع ذلك، هذه الحقيقة لا تبرر التجاوزات التي ترتكبها كل من الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية في بعض الأحيان.

في الواقع، التيار الليبرالي هو المسئول عن الكثير من المشاكل أكثر من أولئك الذين يُزعم أنهم واقعيون غير أخلاقيين قساة القلب. ببساطة لأن النهج الواقعي للسياسة العالمية من شأنه أن يُنتج عالماً أكثر عقلانية وسلاماً، لأنه يدرك أن المجتمعات الأخرى لديها قيم تريد الحفاظ عليها بقدر ما قد ترغب الدول الليبرالية في نشر قيمها. لهذا السبب، تؤكد الواقعية على الحاجة إلى أخذ مصالح الدول الأخرى في الاعتبار واتخاذ إجراءات دبلوماسية حكيمة. وكان من الممكن أن يساعد هذا النهج الولايات المتحدة على تجاوز نتائج وأخطاء سببت معاناة كبيرة وشوهت صورة واشنطن في العديد من الأماكن.

باختصار، استعداد التيار الليبرالى للتخلي عن قناعاته في مواجهة الأحداث الدولية غير المريحة هو خير دليل على قوة المنظور الواقعي. وسيكون من الأفضل للأصوات الليبرالية التي تهيمن على خطاب السياسة الخارجية الأمريكية أن تكون أكثر استعداداً للاعتراف بهذه الثغرات، وإلا أصبحت أقل استقامة عند الدفاع عن توصياتها السياسية. عندها فقط سيصبح الخطاب العام أكثر حضارة وإنتاجية، ومن المؤكد حينها أن معدل نجاح السياسة الخارجية للولايات المتحدة سوف يتحسن.

……………….

النص الأصلي 

ـــــــــــــــــــــــ

* كاتبة صحفية ومترجمة مصرية

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.