أحمد الدَبَشْ *
صدر عن الدار العربية للعلوم ناشرون (بيروت، ط1، 2021)، الترجمة العربية لكتاب “حرب المئة عام على فلسطين ـ قصة الاستعمار الاستيطاني والمقاومة 1917- 2017″، للمؤرخ الفلسطيني الأمريكي رشيد الخالدي، ترجمة: د. عامر شيخوني. والكتاب في الأصل صدر باللغة الإنجليزية تحت عنوان (The Hundred Years War on Palestine).
في المقدمة يكتب الخالدي: “إن هذا الكتاب ليس تَصَوُّراً باكياً لمئة سنة مضت من تاريخ فلسطين، اقتباساً من النقد الرائع الذي كتبه المؤرخ الكبير “سالو بارون” (Salo Baron) عن روح الكتب التاريخية اليهودية في القرن التاسع عشر. اتُّهم الفلسطينيون من طرف المتعاطفين مع الذين اضطهدوهم بأنهم منغمسون في الشعور بأنهم ضحايا. وفي الحقيقة، فقد واجه الفلسطينيون ظروفاً شاقة بل ومستحيلة أحياناً، مثلهم في ذلك مثل جميع السكان المحليين الأصليين الذين واجهوا حروباً استعمارية كما أنهم تعرضوا لهزائم متكررة”.
اختار المؤلف التركيز على ست نقاط تَحَوّل في الصراع على فلسطين، تبدأ هذه الأحداث الستة بوعد بلفور 1917، تحت عنوان “الإعلان الأول للحرب 1917- 1939″، يُظهر المؤلف: أنه في الجزء الأول من القرن العشرين كان يعيش في فلسطين تحت الحكم العثماني مجتمع عربي نشيط وحيوي يخوض سلسلة من التحولات المتسارعة مثلما كانت أحوال كثير من مجتمعات الشرق الأوسط الأخرى حوله”.
فقد كان “الشعور بالهوية ينشأ ويتطور لدى جزء كبير من السكان. كان جيل جدي [يوسف ضياء] يعرف عن نفسه ويُعرف عادةً بانتمائه إلى العائلة أو الدين أو المدينة أو القرية. كانوا يعتزون بأصولهم من جدة عظام ويفتخرون بإجادتهم اللغة العربية لأنها لغة القرآن وبإرثهم من الثقافة العربية”. هذا الجيل تعرض لصدمات خارجية قوية كان لها تأثيرات عميقة على المجتمعات خاصة شعورها بالهوية، فـ”ازدادت الإمبراطورية العثمانية ضعفاً”. ووجد الناس في فلسطين أنفسهم “تحت احتلال جيوش أوروبية”. و”حجزت بلادهم لتصبح وطناَ قومياً لآخرين”، و”وعد البريطانيين للشريف حسين باستقلال العرب وحقهم في تقرير المصير”.
كانت الصحافة الفلسطينية واحدة من أهم النوافذ التي اعتمد عليها الخالدي، “التي تبين تصور الفلسطينيين لأنفسهم وفهمهم للأحداث بين الحربين”. تمنح هذه المصادر إحساساً بتطور الهوية بين الفلسطينيين مع ظهور مفردات مثل (فلسطين) و(الفلسطينيين). وتظهر مراجعة المؤلف للصحف والمذكرات وغيرها من المصادر التي انتجها الفلسطينيون “تاريخاً يصفع تلك الأساطير الشائعة عن الصراع التي تتركز على عدم وجودهم أو على غياب وعيهم الجماعي”.
يلخص الخالدي المأزق الفلسطيني بعد سنة 1917، ويصفه بـ”المأزق الثلاثي”، فقد وجد الفلسطينيون أنفسهم، في وضع فريد، فـ “لم يكن عليهم فقط مواجهة السلطة الاستعمارية في العاصمة، وهي لندن، بل كان عليهم أيضاً مواجهة حركة استعمارية استيطانية كانت تعتمد على بريطانيا إلا أنها كانت مستقلة عنها، ولها أهدافها القومية الخاصة المزينة بتبرير من الكتاب المقدس والمدعومة بقاعدة دولية راسخة وتمويل عالمي”.
في النقط الثانية، يستطرد المؤلف قصة النكبة والشتات الفلسطيني وصعود قوى دولية جديدة، تحت عنوان “إعلان الحرب الثاني 1947- 1948″، ويرى الخالدي أن الشعب الفلسطيني دخل حرب 1948 منهكاً، فـ”الفلسطينيين ظلوا مفرقين وممزقين سياسياً وبقي كثير من زعمائهم في المنفى أو في السجون البريطانية، وفشلوا في القيام بما يكفي من التحضيرات والاستعدادات للعاصفة القادمة”. وحدث أمران مهمان يشيران إلى العقبات التي ستواجه الفلسطينيين، أولهما: كانت علاقتهم مع كثير من الأنظمة العربية محفوفة بالمخاطر بسبب ارتباط الزعماء العرب ببريطانيا. وهذا يعني أن الفلسطينيين لم يتمكنوا من الاعتماد على أي تأييد حقيقي من تلك الأنظمة العربية الضعيفة آنذاك.
وثانيهما: خيبة أمل الفلسطينيين المريرة بعدم ذكر فلسطين في البيان الرسمي التأسيسي للجامعة العربية، واحتفاظهم بالسيطرة على اختيار ممثلين عن فلسطين. وبحسب المؤلف لم يستطيع الفلسطينيون تشكيل تحالف عربي فعال ولم يكن لديهم جهاز دولة حديثة على الرغم من مشاعرهم الوطنية القوية وتشكيل حركة وطنية كانت قوية بدرجة كافية لتوجيه خطرٍ مؤقت على السيطرة البريطانية خلال ثورة 1936.
بعد سنوات من نكبة 1948، تغيرت الحالة الفلسطينية إلى الرغبة بمقاومة إسرائيل، ما أدى إلى هجمات انتقامية إسرائيلية على الدول العربية.
يلخص المؤلف النقطة الثالثة بـ”إعلان الحرب الثالث 1967″، وتمكنت أرتال المدرعات الإسرائيلية في ستة أيام من احتلال سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية ومرتفعات الجولان. إلا أن كل ذلك حرَّك شرارة انطلاق الحركة الوطنية الفلسطينية، فـ”كانت حرب 1967 بعثاً غير عادي للوعي الوطني الفلسطيني ومقاومة إنكار إسرائيل للهوية الفلسطينية”. و”شاهدت نهضة مهمة لمؤسسة سياسية فلسطينية. لعب كتاب وشعراء من الشتات الفلسطيني ومن داخل فلسطين دوراً حيوياً في هذه النهضة ثقافياً وسياسياً من أمثال غسان كنفاني ومحمود درويش وإميل حبيبي وفدوى طوقان وتوفيق زياد بالإضافة إلى غيرهم من الموهوبين المُهتمين من الرسامين والمثقفين. ساعدت أعمالهم على إعادة تشكيل الهوية الفلسطينية.. وأظهروا إصراراً عنيداً على استمرار الهوية الفلسطينية وصمودها في وجه احتمالات محبطة رهيبة”. وأدت الهزيمة إلى شعور الفلسطينيين بالحاجة إلى تنظيم أنفسهم سياسياً وعسكرياً، بعد انتصار المقاومة الفلسطينية في معركة الكرامة 1968. ونجح الفلسطينيون في فرض “أنفسهم في خريطة الشرق الأوسط”.
ينتقل الخالدي إلي النقطة الرابعة، وهي غزو لبنان 1982، تحت عنوان “إعلان الحرب الرابع 1982″، ويعتبِر المؤلف غزو لبنان 1982 نقطة تحول في الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين، وكانت أول حرب كبيرة منذ 15 أيار/ مايو 1948 استهدفت الفلسطينيين وليس جيوش الدول العربية. وينظر الخالدي إلى غزو لبنان 1982 “كعملية مشتركة بين إسرائيل وأمريكا”. وأن الغزو أضعف “القضية الفلسطينية بشكل خطير بعد خروج منظمة التحرير من بيروت”.
يرى المؤلف في النقطة الخامسة بعنوان “إعلان الحرب الخامسة 1987- 1995″، أن منظمة التحرير الفلسطينية استعادت دورها تدريجياً نتيجة الانتفاضة الفلسطينية 1987، التي اعتبارها “مثالاً رائعاً للمقاومة الشعبية ضد الاضطهاد، وأول نصر صريح للفلسطينيين في حرب الاستعمار الطويلة التي بدأت سنة 1917”. وينتقد الخالدي اتفاق أوسلو 1993، بالقول: “الفشل في التوصل إلى اتفاق أفضل من الاتفاق الذي نتج عن أوسلو. كان الإحتلال سيستمر مثلما هو الآن على كل حال إنما بدون غطاء حكم ذاتي فلسطيني، وبدون تخفيف العبء المالي عن إسرائيل لشؤون حكم وتسيير أمور شعب من ملايين البشر، وبدون (التنسيق الأمني) الذي كان من أسوء نتائج أوسلو”. وبحسب الخالدي كان معنى اتفاق أوسلو الأمني، هو، “تجنيد منظمة التحرير كمتعهد ثانوي للاحتلال”.
وفي النقطة السادسة والأخيرة، “إعلان الحرب السادسة 2000- 2004″، يتناول الخالدي فيها الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للشعب الفلسطيني بعد دخول السلطة الفلسطينية، وبحسب المؤلف “أصبحت الأحوال في الواقع أسوأ بالنسبة للجميع فيما عدا قلة من الأفراد الذين كانت لهم مصالحهم الاقتصادية أو الشخصية مُتداخلة مع السلطة الفلسطينية والذين استفادوا من تطبيع العلاقات مع إسرائيل”. يشير المؤلف إلى عدة عوامل اشعلت الانتفاضة الثانية في أيلول/ سبتمبر 2000، “ازدياد سوء أوضاع الفلسطينيين بعد أوسلو، وخيبة الأمل في التوصل إلى دولة، والتنافس الشديد بين منظمة التحرير الفلسطينية وحركة حماس”.
يعتقد الخالدي أن الانتفاضة الثانية شكلت “إخفاقاً كبيراً للحركة الوطنية الفلسطينية”. وأنها قد محت “الصورة الإيجابية عن الفلسطينيين التي نشأت وتطورت منذ سنة 1982، وخلال الانتفاضة الأولى، ومحادثات السلام”. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2004 توفي ياسر عرفات في مستشفى بباريس “ضمن ظروف غامضة”. وانتخب محمود عباس رئيساً للسلطة الفلسطينية في عام 2005، وبعدها بعام جرت الانتخابات التشريعية وفازت حماس. و”تزايد الصراع بينها وبين حركة فتح”. ونتيجة لذلك “قامت حركة حماس سنة 2007 بانقلاب مضاد وسَحقت قوات دحلان بسرعة بعد قتال مرير”. ويرى المؤلف أن إسرائيل استغلت “الانقسام العميق بين الفلسطينيين وعزل قطاع غزة لإطلاق هجمات وحشية جوية وبرية على القطاع بدأت سنة 2008 واستمرت حتى 2012 و2014 خلفت دماراً كبيراُ في مدنها وفي معسكرات اللاجئين ومعاناة قاسية في انقطاع الكهرباء وتلوث المياه المتكرر”.
ينهي الخالدي هذه النقطة بالقول: “على مر قرن كامل من الحرب على فلسطين كانت العاصمة الأمريكية المُرتكز الذي لا يمكن الاستغناء عنه في حرية تصرف إسرائيل، وظلت ملتزمة بالمشروع الصهيوني الاستعماري مثلما كان اللورد بلفور منذ مئة سنة”.
يلاحظ القارئ في هذا الكتاب تركيز الخالدي على دور الولايات المتحدة الأمريكية في دعم الكيان الصهيوني، أكثر من تركيزه على المشروع الاستيطاني الصهيوني ومقاومة الشعب الفلسطيني، ويولى اهتماماً كبيراً للرأي العام الغربي والأمريكي، فهو دائم الخشية على صورة الفلسطيني ما دفعه لرفض الانتفاضة الثانية، واعتبرها مسؤولة على تشوية صورة الفلسطيني، وهذا موقف غريب من شخص يعتبره تيار عريض من المثقفين مؤرخاً وأكاديمياً، ولم يكن موقف الخالدي من ثورة 1936ـ 1939، موضوعياً أيضاً، فقد حملها مسؤولية إضعاف المجتمع الفلسطيني وتفكيك بنيته الاجتماعية، واستنزاف موارده الاقتصادية!
يتبنى الخالدي الإدعاء بأن حماس أسستها إسرائيل! وهو الأكاديمي الضليع، يستند على مقال صحفي دون أي مراجع أو مصادر! أن صحة هذا الزعم تسقط أمام رفض حماس الاعتراف بالكيان الصهيوني، وتمسكها بالمقاومة ـ حتى الآن ـ فلو أسست إسرائيل حماس فما الحاجة إلى اغتيال كل هذا العدد من قادتها! ولماذا خاضت حماس كل هذه الحروب، التي أرست قواعد جديدة للاشتباك في الأراضي الفلسطينية المحتلة! يبدو لي أن الاكاديمي المرموق وقع تحت تأثير الروايات الغربية ، وأصبح أسير ما يصدر من الاعلام الغربي! وكأن ما يصدر عن هذا الاعلام هو شهادة حسن سير وسلوك لشعبنا الفلسطيني!
* كاتب وباحث فلسطيني
المصدر: عربي 21