الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كتاب «في الفكر السياسي»؛ (الجزء الأول).. الحلقة الأولى

(الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة الأولى من الجزء الأول- تعريف بقلم الدكتور “جمال الأتاسي”

                                                      في الفكر السياسي

1 – الجزائر في دمشق – عبد الكريم زهور

2 – الستالينية و المسألة القومية – الياس مرقص

3 – الاشتراكية العربية و اسطورة الخصائص – جمال أتاسي

4 – حول تجربة حزب البعث – ياسين الحافظ

5 – قنابل في الفجر – عبد الكريم زهور

                     ………………………………….

                            دار دمشق

                          للطباعة و النشر

                   …………………………………..

دار دمشق

للطباعة و النشر و التوزيع

أديب تنبكجي

دمشق – شارع بور سعيد -هاتف 11665

طبعة أولى

15/2/1963

تعريف

     هذه المجموعة من البحوث التي تضمُّها صفحات هذا الكتاب، هي بداية لسلسلة من الدراسات النظرية والتحليلات السياسية أخذنا على أنفسنا أن نقوم بها لنُسهم، ضمن حدود طاقاتنا وامكانياتنا، في توضيح التجربة التي يعيشها شعبنا العربي في هذه المرحلة من تاريخ نضاله القومي ومن تاريخ الصراع البشري.

     وسنحاول خلال هذه الدراسات بحث التجارب النضالية التي عاشت في مشرقنا العربي، وإيضاح الجوانب السلبية فيها والعثرات التي لاقتها، بغية تغذية الوعي الجماهيري وإيضاح الطريق بصورة محددة وعلمية أمام الحركة الثورية العربية المؤمنة بالقومية العربية كإطار لنضالها ومرمى لأهدافها.

     كما أننا سنحاول- خدمة لهذه الحركة- تقديم وتلخيص التراث الاشتراكي الانساني، وبيان جوانبه السلبية والإيجابية، بغية إنارة الطريق الوعر أمام التحرك الجماهيري العربي السائر في طريق الوحدة والاشتراكية والديمقراطية الشعبية.

     وإننا في هذه المجموعات من الدراسات لا ننطلق من نظرية محددة معينة، ولكن سنحاول- قدر الإمكان- استيحاء ما هو إيجابي وتقدمي وثوري في التجارب الثورية الإنسانية، على نحو يكفل صفاءً علمياً تاماً، نواجه به الواقع العربي المُجزأ والمتخلف والمستثمر.

     لقد قطع التحرك الجماهيري العربي شوطاً طويلاً في مسيرته. إلا أن هذا التحرك الجماهيري بقي تجريبياً، وعفوياً إلى حدٍ كبير . ولكن أمام الظروف الثورية الجديدة التي يطرحها النضال التحرري والصراع الطبقي على صعيد الوطن العربي، يصبح تجسيد هذا التحرك على الصعيد الأيديولوجي ضرورة ملحة. فالنضال العربي قد قطع أشواطاً طويلة من نضال ذي طابع سلبي، وأصبح يقترب ويستشرف نضالاً ذا طابع إيجابي بناء، لذا كان إملاء هذا النضال بمضمون نظري المهمة العاجلة الأساسية أمام الحركة الثورية العربية، لأن المشروع الثوري الذي يرمي إلى بناء واقع جديد ويهدف إلى تحرير الإنسان وتغيير الوطن العربي تغييراً كلياً وجذرياً لا بد أن يوصَل ببناء نظري متكامل يوضح طريق البناء بصورة ملموسة ومفصلة.

     فالحركات اليسارية العربية  في المشرق مهددة بالتردي إلى وضع مماثل لذلك الوضع الذي آلت اليه الأحزاب الراديكالية العتيقة في الغرب، فالشعارات العامة العريضة لم تعد قادرة على مجابهة الواقع العربي المعقد المتطور . . وبصورة خاصة في مرحلته الجديدة، مرحلة البناء الإيجابي. واذا كانت هذه الشعارات قد استطاعت أن تلخص على نحو صحيح أهداف الكفاح العربي.. واذا استطاعت أن ترسم الإطار الثوري الصحيح للقضية العربية، إلا أنها أصبحت بحاجة لإغنائها نظرياً بصورة علمية، تتيح انفتاحاً عملياً كاملاً وواعياً على جميع جوانب القضية العربية.

     وإذا كان هذا شأن اليسار العربي، فإن الحركة الشيوعية نفسها، قد انهارت في المشرق العربي، (بل وفي الوطن العربي كله)، رغم ذلك التراث العالمي الضخم الذي تنتسب إليه. لقد انهارت بحكم تعارض تكوينها وأسلوب عملها مع الضرورات القومية ومع حاجات الجماهير وتطلعاتها، وبحكم جمودها العقائدي أيضاً وبحكم عدائها للحركة القومية العربية. فهي قد عجزت حتى عن تمثّل التطورات التي خضعت لها النظرية الشيوعية في السنوات العشر الأخيرة. إن تجربة الشيوعيين في العراق بعد ثورة تموز 1958، وأن هذا المنطق الغريب الذي ينتهجه أولئك الذين مازالوا ينطقون باسمها هنا في سوريا، ليدلاّن على أن هذه الحركة قد أصبحت متخلفة عن المرحلة الثورية التي تعيشها جماهير الشعب. فهي أبعد ما تكون عن أن تغذي نضالاً شعبياً أو عملاً ثورياً، ولم يعد لها إلا دور سلبي ومعطل.

     إن التحرك الجماهيري الثوري العربي يُغذ السير، ونحن في هذه المجموعات من البحوث نعمل للمساهمة في إعطاء وعي لهذا التحرك، ونشارك في محاولة وضع قواعد نظريته ودستور عمله ونضاله.

     ولقد كتبنا منذ عدة أشهر تحت عنوان ” النظرية والعمل ” مبينين فهمنا لحدود مثل هذا البحث النظري وضروراته، ونُعيد هنا في هذا التعريف ما كتبناه في ذلك الحين على سبيل التأكيد:

     «الحركات اليمينية، ليست بحاجة لنظرية تكون دليلها في العمل السياسي، فهي تعيش على بقايا نظريات فات أوانها وعلى بقايا تقاليد. إنها في تكوينها، عدوة للفكر المنظم، وهي عندما تلجأ للبحث النظري، إنما تنطلق من موقف سلبي، للرد على اليسار الذي يتسلح بالعقيدة والفكر الجريء المقدام. ومهمة المفكرين الذين سخروا عقولهم وأقلامهم لليمين أن يزرعوا التشتت في الأفكار، وأن يُضلوا الناس ويصرفوهم عن واقع الصراع الاجتماعي، الى عالم مصطنع من التأمل المغرق في المثالية الكاذبة والتجريد.

     وسياسة اليمين، سياسة محافظة في تكوينها، فهي تتلفت دائماً إلى الوراء، وكل مستقبل بعيد، مظلمٌ في وجهها، واليميني مهما أغرق في الادعاء، فهو لا يريد في الواقع تبديل المجتمع، إن خير مجتمع هو هذا الذي يعيش فيه اليوم، وهو لا يريد صنع التاريخ، فالتاريخ بنظره لا يصنعه البشر، وكأنه مُسير بعوامل ذاتية أو بقوى تخرج عن إرادة البشر.

     وللحركات الانتهازية موقف يلتقي من الوجهة العملية مع موقف اليمين، مهما تكن ادعاءات هذه الحركات كبيرة وضخمة. إن التزام السياسة بنظرية وخطّة بعيدة المدى يُثقل كاهل الانتهازية، لأنها ليست بحاجة لدليل يهديها إلى طريق العمل، فمصالحها ووصوليتها هما دليلها الدائم. والتحلل من الالتزام بنظرية، يعطي للانتهازي حرية المناورة وحرية التلاؤم مع تقلب الظروف والأوضاع. وهو عندما يضطر لأن يتبنى رأياً أو موقفاً، يستطيع أن يستعير من أي طرف شاء، ويستطيع أن يعلن من الأفكار حسب مقتضيات حاجته ومصلحته. وأخطر فئة على اليسار الثوري، هي تلك الفئات الانتهازية التي تتبنى أحياناً شعارات الثورة والاشتراكية فتزيّفها وتُحرفها وتفّرغها بالتالي من كل محتوى عميق أصيل.

     أما الإنسان الذي يؤمن بالثورة، واليسار الذي يعتقد أن الانسان هو الذي يصنع التاريخ، والمناضل الذي يكافح لتبديل المجتمع وإزالة ما فيه من استغلال ومن عبودية وضياع للإنسان؛ فلا بد له من صورة ومن خطة لهذا التبديل؛ لا بد أن تكون غايته واضحة المعالم؛ وطريقها إليها واضح أيضاً؛ لا بد له من أن يرسم خطته وأن يسير عمله مستلهماً نظرية أو وجهة نظر تكون دليلاً له وواقياً من التعثر والانحراف؛ ولا بد  لأفكاره من أن تندمج في حياة البشر والتاريخ الذي يصنعه البشر؛ وأن تسري في عروق الحوادث وأن تعيش واقع صراع الانسان مع الطبيعة.

     فالتفكير الثوري، تفكير واقعي كل الواقعية، ولكنه يملك فوق ذلك؛ القدرة على الانسلاخ عن الواقع ليتطلع إليه خلال نظرته إلى المستقبل ومن خلال إرادته في تبديل هذا الواقع والمشروع الذي يضعه لهذا التبديل.

     من الممكن للإنسان أن يعمل لكل يوم بيومه. وأن ينخرط في النضال من خلال مطالب مباشرة، ومن غير أن يرسم المرامي البعيدة لعمله، ولكن تحليل الواقع، من خلال وجهة نظر واضحة، هو الذي يسمح بتصور المستقبل، وبالسير نحو هذا المستقبل من غير ترد في مهاوي الانتهازية أو الانحراف، وهو الذي يسمح للمناضل أن يؤثر وأن يعمل وهو على معرفة واعية بدوافع عمله وبمبرراته وأهدافه. وبدون هذا التحليل، بدون منطق في فهم التاريخ، بدون نظرية للصيرورة الاجتماعية، لا يمكن أن تقوم حركة ثورية حقيقية. فالتحليل النظري، ومواجهة الأفكار والمذاهب المختلفة بالدراسة والنقد، ووضع الأفكار على محك الواقع الذي نعيشه والتجربة التي نمر بها، أشياء ضرورية للحركة الثورية، ضرورة الغذاء للإنسان.

     ومن الممكن أن تقوم معارضة يسارية صارمة، بل ومن الممكن أن تنفجر ثورة  بدءاً من مطالب مباشرة، أو بشكل تجريبي، كالثورة القومية التي تنفجر بدءاً من مطلب الشعب في أن ينتزع حريته وأن يقرر مصيره، و لكن الحركة الثورية لا يمكن أن تنهض وتستمر، ولا يمكن أن تكون أداة تبديل جذري وأداة بناء لدولة جديدة ما لم تستند إلى نظرية وعقيدة.

     إن الحاجات المستعجلة للنضال، قد تسبق التخطيط النظري في البداية، فواقع النضال وضرورات المعركة قد لا يسمحان له بالانتظار، فيأخذ بما يجده جاهزاً من أفكار ومن شعارات مطروحة (وهذا ما نراه في المراحل السلبية الأولى من النضال؛ عندما تكون المعركة محددة المرامي والأهداف، كالنضال من أجل التحرر من الأجنبي، أو لقلب حكم رجعي عميل) أما عندما يريد المناضل أن يرتفع إلى المستوى الحقيقي للثورة، إلى مستوى التحويل الجذري للمجتمع وللعلاقات الإنسانية، فلا بد للتخطيط النظري من أن يتقدم ومن أن يواكب العمل والنضال، ومن أن يعطيهما الوعي والوضوح، ومن أن يكشف لهما الغاية ومعالم الطريق.

     والذي جر الكثير من المآسي، على الحركات اليسارية في المشرق العربي وعلى الخط الثوري للشعب العربي، هو سبق السياسة للخطة، وسبق العمل للنظرية؛ فدليل النضال ظل خطوطاً وشعارات عامة، فولّد التخبط والتناقض في سياسات الحركات الشعبية وفي مواقفها، وفسح المجال أمام الانتهازية التي دبت في أوصال هذه الحركات، مما ترك لليمين مجال التزييف والتضليل وبعثرة الأفكار وحرف الشعارات وتشويهها.

     فالفكر اليساري الذي ينادي بالثورة وبالوحدة والاشتراكية، مُطالب بأن يجند نفسه للعمل، وأن يدخل المعركة، ويخطط لها فـلا يترك للسياسة التجريبية أن تسبقه وتلزمه بما تجـرّ من انحرافات ومآسي وتناقضات، انه مطالب بأن يملأ الشعارات بمحتواها الواضح الوازن؛ ليصبح عبء حملها ثقيلاً على الانتهازي الدهمائي؛ وليصبح لقضية الثورة أبناؤها الذين يحملون مسؤولية ما يقولون وما يعملون.

     إن النظرية الثورية، لا يمكن أن تصّطنع ولا أن تلقن، وهي لا تستعار من الغير، بل هي عملية خلق لا تقوم إلا من خلال المعاناة والنضال، وجميع الذين يؤمنون بثورية العمل الشعبي في الوطن العربي، مطالبون بأن يجندوا أفكارهم لتخطيط مبادئ ونهج هذه الثورة.

     والثورة في الفكر مثل الثورة في العمل . إنها تبدأ من الرفض ومن موقف سلبي، لكي تصل إلى البناء . إنها تنشُد تحرير الانسان، تهدف خلق انسان جديد، وفي هذا السبيل لا بد لها أن تبدأ رفضاً صارماً لواقع الظلم ولكل ما يضيّع الانسان ويستبد بحريته ومصيره ».

     وثمة مسلمة ينطلق منها كل تفكير ثوري:

   « وإنك لن تستطيع أن تقهر إلا الشيء الذي تستطيع أن تدحضه، ليس بمقدورك أن تتمثل، إلا التفكير الذي تضعه على محك النقد ومن هنا يكون البدء »

 

 

 جمـــال أتاسي

 12 شباط عام 1963

 

 

 

 

 

 

 

………………

يتبع.. الحلقة الثانية بعنوان: الجزائر في دمشق(1).. بقلم الأستاذ “عبد الكريم زهور”

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.