علي حبيب الله *
للوهلة الأولى، قد يستغرب القارئ من سؤال: لمَ يفتتح المؤرّخ الفلسطينيّ مصطفى العبّاسي الصفحات الأولى من كتابه عن مدينة طبريّة بالإشارة إلى دور “ظاهر العمر الزيدانيّ” باستقدامه يهودًا من مدينة إزمير التركيّة إلى مدينة طبريّة ليستقرّوا فيها؟!. لم تذكر المصادر ولا المراجع العربيّة الّتي تناولت سيرة ظاهر العمر، بأنّه جلب يهودًا من تركيّا العثمانيّة لتوطينهم في مدينته البكر طبريّة. رغم تأكيد تلك المصادر، على تسامح ظاهر والزيادنة عمومًا مع الجماعات الدينيّة والإثنيّة في الجليل.
غير أنّ العبّاسي يستند في روايته إلى مصادر وكتب تذكاريّة عبريّة- يحسب ذلك لدراسته-منها كتاب “أغاني البلاد” للحاخام الصفديّ يعقوب بيراب، الّذي أرّخ وأقرّ بفضل ظاهر العمر عندما اقترح في سنة 1738 على الحاخام حاييم أبو العافية الّذي كان يقيم في مدينة إزمير- سميرنا في حينه- داعيًا إيّاه المجيء إلى طبريّة والسكن فيها مع من يرغب من طلّابه وأتباعه. وقد استجاب أبو العافية الحاخام فعلًا لدعوة ظاهر، وقدّم إلى مدينة طبريّة في سنة 1840، حيث استقبله ظاهر العمر بنفسه. وفي ظرف أقلّ من عامين، كان ظاهر قد منح ضيوف مدينته اليهود القادمين بيوتًا ودكاكين وساحات إلى أن صاروا من أهل المدينة.
ما أراده العبّاسي لقارئه، من هذه الإشارة في مقدّمته، هو المفارقة الّتي تنطوي عليها حكاية العرب في طبريّة مع يهود مدينتهم. حيث تجيب الصفحات الأخيرة من كتّاب طبريّة العربيّة على تلك المفارقة بعد اقتلاع وطرد العرب في طبريّة من مدينتهم في نيسان/أبريل سنة 1948. وخلاصتها في قول العبّاسي ” لقد احتضن الشيخ ظاهر العمر وأبنائه في طبريّة الحاخام أبو العافية وأتباعه اليهود منذ سنة 1740، بينما اليهود من أحفاد أبو العافية هم أنفسهم، من طردوا حاضنيهم أحفاد الشيخ ظاهر من مدينتهم طبريّة سنة 1948″.
ما بين عامي 1740 و1948 قرنان ونيّف من الزمن. ومع أنّ العبّاسي يفرد الفصل الأوّل فقط من كتابه لتاريخ طبريّة أيّام العثمانيّين. إلّا أنّ كتابه قد اختصّ بتناول تاريخ مدينة طبريّة في ظلّ الاستعمار البريطانيّ على البلاد، فكان عنوان كتابه “طبريّة العربيّة تحت الحكم البريطانيّ 1918-1948: دراسة اجتماعيّة وسياسيّة” الصادر عن المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات ضمن سلسلة ذاكرة فلسطين في الدوحة.
في أهمّيّة الكتاب لمصادره:
لا نبالغ إذا قلنا، إنّ كتاب العبّاسي هو واحد من أهمّ الدراسات الفلسطينيّة الحديثة الّتي أرخت لمدن فلسطين قبل نكبتها. وهذا ليس لأنّه المؤلّف ولا منهجيّته أو مصادره ومراجعه على أهمّيّتها طبعًا. بل لأنّها طبريّة، طبريّة المدينة العربيّة – الغوريّة، والمقصيّة من ذاكرتنا الفلسطينيّة.
من المعلوم أنّ قليلة هي الدراسات العربيّة – الفلسطينيّة الّتي تناولت تاريخ مدينة طبريّة حديثًا، مثلما جرى التأريخ لمدن فلسطينيّة أخرى منها: القدس ونابلس ويافا وحيفا. ومردّ ذلك، أوّلًا وأخيرًا، إلى ندرة المصادر والمراجع العربيّة المتعلّقة بمدينة طبريّة لأسباب مختلفة لا محلّ للخوض فيها هنا.
وما يحسب للعبّاسيّ في كتابه، فضلًا عن بعثه تاريخ مدينة طبريّة في فترة الاستعمار البريطانيّ، هو نبشه في مصادر ومراجع متّصلة طبريّة وتاريخها، لم يسبق أن تمّ النبش فيها أو حتّى الإشارة إليها، منها بالعربيّة، مذكّرات تعود للشيخ طاهر الطبري ابن مدينة طبريّة الّذي كتبها في عام 1949 تحت عنوان “الحيران” من جزأين لم تنشر لغاية الآن، وكان العبّاسي أوّل من أشار إليها واستند إليها في كتابه. إضافة إلى مذكّرات صدقي عبد السلام الطبريّ، أحد أبرز الشخصيّات القياديّة في مدينة طبريّة قبيل النكبة وأثناءها، والّتي ظلّ يحتفظ بجزء منها أبناء عائلة الطبريّ في مدينة الناصرة إلى يومهم هذا.
كما للمصادر والمراجع العبريّة الّتي استعان بها المؤلّف دور هامّ وكبير في تسليط الكشّافات على جوانب مختلفة من تاريخ طبريّة قبل النكبة. للحدّ الّذي يمكننا القول فيه، إنّ المصدر العبريّ كان هو الأساس الّذي اعتمد عليه العبّاسي في كتابه. ليس فقط على مستوى أرشيفات الدولة الرسميّة على اختلافها، وسجلّات محاضر جلسات بلديّة طبريّة في فترة “الانتداب”. إنّما أيضًا المذكّرات والكتب التذكاريّة العبريّة، تعود ليهود عاشوا في طبريّة قبل نكبة 1948 وبعدها، الأمر الّذي أثرى الدراسة في مساحات مختلفة. وما يؤخذ على العبّاسي إهماله للإرث الشفويّ – المرويّ عن طبريّة وريفها، – هو متوفّر بالمناسبة – باستثناء بعض كتب أدب التذكّر، مثل: “أنيس الصايغ عن أنيس الصايغ” و”سيرة غير مكتملة” ليوسف الصايغ اللّذين اعتمدهما العبّاسي في كتابه. بينما كان يمكن للمرويّ – الشفويّ أن ينبّه المؤلّف إلى كثير من القضايا لو استعان به. خصوصًا في ما يتعلّق بأحداث نكبة المدينة وتهجير أهلها سنة 1948. فضلًا عن أهمّيّة الرواية الشفويّة في توضيح نظرة أهالي طبريّة لهويّة مدينتهم في ظلّ يهودها فيها.
وجه عروبيّ ووجوه عربيّة مغيّبة:
يتضمّن كتاب طبريّة العربيّة…. أحد عشر فصلًا، أفرد مصطفى العبّاسي الأوّل منها، لتاريخ طبريّة زمن العثمانيّين مع بعث المدينة وتجديد بنائها في القرنين الثامن والتاسع عشر في زمن الشيخ ظاهر العمر، ودوره في إعادة إعمارها، وتشكّل تكوينها السكّانيّ والاجتماعيّ وتقسيمات حاراتها فضلًا عن مؤسّسات الحكم والإدارة فيها. حيث ظلّت طبريّة طوال تلك الفترة بلدة صغيرة تقوم على مساحة لا تتجاوز الـ 200 دونم، ومحاطة بسور لم يسمح لأهالي طبريّة بالبناء خارجه، رغم محاولة الأهالي ذلك في سنة 1902 بعد تفشّي عدوى الكوليرا (الهوى الأصفر) في طبريّة إلّا أنّها محاولة باءت بالفشل. وظلّت كذلك إلى حين انقضاء الحكم العثمانيّ وقدوم البريطانيّين. بينما عنت باقي الفصول العشرة من الكتاب في دراسة مدينة طبريّة منذ بداية الاستعمار البريطانيّ وحتّى نهايته عام النكبة ما بين 1918- 1948.
يستعيد كتاب طبريّة العربيّة ذاكرة المدينة نافضًا عنها غبار الدهر والتهويد معًا، إذ لم يترك العبّاسي جانبًا من حياة العرب فيها، إلّا وقد أفرد له فصلًا، خصوصًا تلك الجوانب المتّصلة بالدينيّ والسياسيّ والمعيشيّ، والاجتماعيّ والثقافيّ، والسياحيّ كذلك. فقد تناول المكانة الدينيّة الإسلاميّة الّتي غيّبتها نكبة المدينة ثمّ صهينتها، منها جامعًا (مسجدًا) العمريّ والبحر، ومعهما كنائس نصارى المدينة وأديرتهم فيها. وكذلك المقامات والزوايا والمزارات، وأهمّها مقام الستّ “سكينة بنت الحسين” أو “سكينة” كما تعود أهالي طبريّة بعامّيّتهم تسكين حرف سين اسمها. ثمّ حارتي أو محلّتي طبريّة القديمة ” المحلّة الشماليّة” وهي الحيّ الإسلاميّ، و”المحلّة القبليّة” يسكنها اليهود. وكذلك الأحياء الحديثة الّتي بناها الطبريّون شبًّا عن طوق سور مدينتهم القديم، مثل أحياء: جبّ اللبان والقلعة وجبل اللوزات”. ثمّ الوجه المائيّ لمدينة طبريّة، وعلى رأسها البحيرة أو البحرة بحسب عامّيّة أهالي طبريّة، والّتي كانت مصدرًا لرزق أهلها العرب في المدينة، سواء صيد السمك أو السياحة فيها. فضلًا عن “حمّامات طبريّة” الساخنة في جنوب المدينة، و”تنّور أيّوب” الواقع على الشاطئ الشماليّ لبحيرة طبريّة، حيث كانت هذه المواقع وجهة صحّيّة وسياحيّة يقصدها المرضى والزوّار المستجمّون والحجّاج من كلّ حدّ وصوب.
أفرد العبّاسي في كتابه فصلًا خاصًّا للحديث عن أعيان طبريّة والعائلات القياديّة فيها وبالأخصّ عائلة “الطبريّ” أشهر عائلات المدينة الّتي جمعت بين الثراء وملكيّة الأرض من جانب، والقيادة الدينيّة والسياسيّة للمدينة من جانب آخر، حيث تناول العبّاسي سيرة بعض من شخصيّات هذه العائلة ودورهم في إدارة الأوقاف ونقابة الأشرف، ومناصب مثل الإفتاء والقضاء في طبريّة. فضلًا عن دور عائلات طبرانيّة أخرى مسلمة مثل الخرطبيل والعاقل وعبداللّه الّتي برزت في مجالي التجارة وإدارة الأعمال، وعائلات مسيحيّة- على قلّة المسيحيّين في المدينة- مثل الصبّاغ والحسيني والبشّوتي وغريب، الّتي كان لها دور فاعل في حياة المدينة الإداريّة والاقتصاديّة.
إنّ تناول العبّاسي لسيرة العائلات القياديّة في المدينة، خصوصًا عائلة “الطبريّ” المتنفّذة مردّه كما يقول إلى “أنّ الدراسات الفلسطينيّة الحديثة قد أولت اهتمامًا لمكانة الأسر الحاكمة والقياديّة في المدن الكبرى مثل القدس ويافا وحيفا ونابلس. في حين عائلات في مدن الجليل مثل قدورة ونحوي في صفد، والفاهوم في الناصرة، والشقيري والسعديّ وبيضون في عكّا، والطبريّ في طبريّة، ظلّت مهمّشة وبعيدة عن دائرة اهتمام المؤرّخين والباحثين”.
ربّما ينظر لتناول تاريخ “العائلات القياديّة” في طبريّة، على أنّه تناول فيه نزعة نخبويّة يستبطنها المؤلّف في كتابه. غير أنّنا نجد في الإشارة لسيرة هذه العائلات أهمّيّة في أمرين: الأوّل، أنّ التأريخ للأسر الطبريّة في طبريّة، هو تأريخ للوجه العربيّ والعروبيّ للمدينة بعد أن أسقطت المدينة من ذاكرتنا. والثاني: هو دور هذه العائلات مثل عائلة الطبريّ، ومسؤوليّتها عن مصير مدينتهم وأهلها العرب فيها. خصوصًا في ظلّ الصراع مع سلطات الاستعمار البريطانيّ، ومن ثمّ مع الصهاينة في أحداث نكبة عام 1948، إذ تتحمّل شخصيّات قياديّة من عائلة الطبريّ وزرًا كبيرًا عمّا حلّ بطبريّة ونكبة أهلها.
كما لم يفوّت مصطفى العبّاسي أن يخصّ ريف طبريّة بفصل من كتابه، حيث أشار إلى قرى قضاء طبريّة الّتي كان عددها 26 قرية مع انقضاء الحكم العثمانيّ وبداية حكم الاستعمار البريطانيّ. إذ أشار المؤلّف التشكيل الاجتماعيّ والمذهبيّ لتلك القرى وعلاقتها بمدينة طبريّة وأعيانها في مجالات مختلفة.
تحوّلات، تهويد وصهينة المدينة:
كان أوّل ما خيّب أمل الطبرانيّين من سلطات الاستعمار، هو اختيار البريطانيّين مدينة الناصرة مركزًا لإدارتهم في منطقة الجليل بدل عكّا. وليس طبريّة، الّتي ظنّ أهلها بأنّ مدينتهم أحقّ في أن تكون مركزًا، نظرًا لمكانتها الدينيّة والسياحيّة ووفرة الماء، وينابيعها الحارّة فيها. غير أنّ أهمّ ما تنطوي عليه مرحلة حكم الاستعمار البريطانيّ منذ سنة 1918 لمدينة طبريّة هي التحوّلات والإجراءات الإداريّة والتنظيميّة، الّتي لم تؤدّي في الأخير غير إلى تهويد مؤسّسات ومرافق ووضع يعود طبريّة على سكّة صهينتهم.
لقد وضع البريطانيّون أيديهم مثلًا، على “حمّامات ينابيع طبريّة” الّتي كانت بالنسبة لأهالي طبريّة وقفًا إسلاميًّا ومصدرًا معيشيًّا ظلّت تقوم على إدارته عائلتي ناجيًا والفاخوريّ الطبرانيتين. ففي سنة 1929 تمّ نقل ملكيّة الينابيع الساخنة إلى حكومة الاستعمار. ثمّ منح في سنة 1932 امتياز الينابيع لشركة يهوديّة تسمّى Hot Sprimgs Company ووقعت اتّفاقيّة تشغيل معها لمدّة ستّين عامًا.
وذلك في محاولة أرادت منها سلطات الاستعمار الاستئثار بمقدرات المدينة ومواردها المعيشيّة من جانب، وتجريف طبريّة المدينة، وتجريدها من مرافقها ومؤسّساتها الأهليّة من جانب آخر. فضلًا عن تمكين اليهود من موارد المدينة ومؤسّساتها.
غير أنّ أهمّ إجراء اتّخذته سلطات الاستعمار البريطانيّة نحو تهويد مؤسّسات المدينة ووضعها على سكّة صهينتها، هي تلك المتعلّقة بإدارة بلديّة طبريّة، وتحديدًا هو تهويد منصب رئاسة البلديّة. إذ قامت السلطات البريطانيّة في سنة 1923 بفرض رئيس يهوديّ لبلديّة مدينة طبريّة هو زكيّ الحاديف- اغتيل لاحقًا في أحداث الثورة- فتمّ نقل منصب رئاسة البلديّة بشكل دائم للطرف اليهوديّ. وهذا خلافًا لما تعارف وتوافق عليه أهالي مدينة طبريّة على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم في المرحلة العثمانيّة، فبموجب التقسيم العثمانيّ لمناصب إدارة البلديّة الثلاثة العليا، كان الرئيس مسلمًا، والسكرتير أو الكاتب يهوديًّا، وأمين الصندوق مسيحيًّا.
هذا إضافة إلى استغلال سلطات الحكومة الاستعماريّة للأوبئة والأمراض والكوارث الطبيعيّة الّتي حلّت في المدينة من أجل تفعيل سياسات تدخلها مثل تدخّلها في إعادة تنظيم طبوغرافيا المدينة وفضائها مثلما فعلت وتدخّلت على أثر كارثة فيضانات سنة 1934 أو يعرف في ذاكرة أهل طبريّة بـ”سنة الطوفة”. ولم يبق من طبريّة إلّا البحيرة عربيّة أو ذات وجه عربيّ بحسب العبّاسي، حيث ظلّ صيد السمك فيها مهنة يحترفها ويهيمن عليها العرب.
يداوم المؤرّخ مصطفى العبّاسي على مدار فصول دراسته لطبريّة بوصفها مدينة “مختلطة” ممّا يقودنا ذلك إلى سؤال متّصل بهويّة المدينة.
هل كانت طبريّة مدينة مختلطة؟
يعتبر مؤلّف الكتّاب طبريّة “مدينة مختلطة” بحكم الوجود التاريخيّ لليهود فيها منذ زمن العثمانيّين. وقد شكّل اليهود في طبريّة أكثريّة ديمغرافيّة على فترات مختلفة منذ ما قبل الاستعمار البريطانيّ للبلاد. ومن هنا تعبير “عرب طبريّة” الّذي داوم العبّاسي على استخدامه على مدار فصول الكتاب، وهو استخدام يحيل إلى “يهود طبريّة” أي إلى فكرة اختلاط المدينة. وقد عنون العبّاسي بعض فصول كتابه بمصطلح “المدينة المختلطة”.
يعود مصطلح “المدينة المختلطة” في أدبيّاتنا ودراساتنا السياسيّة والتاريخيّة في الداخل الفلسطينيّ إلى عدوى أو عضّة القاموس الاستعماريّ في قاموسنا الوطنيّ. فالمصطلح “مدينة مختلطة” إشكاليًّا، لناحية سياق نشأته، إذ يعود صكّه واستخدامه إلى ما قبل قيام الدولة العبريّة في مرحلة الاستعمار البريطانيّ للبلاد مع “لجنة بيل” الّتي تشكّلت على أثر الثورة الكبرى 1936-1939 حيث أشارت اللجنة في تقريرها إلى بعض المدن الفلسطينيّة على أنّها “مدن مختلطة” مثل عكّا وحيفا ويافا وصفد ومنها طبريّة. والمقصود هو “اختلاطها” بالعرب واليهود.
كانت النظرة الاستعماريّة لفكرة “اختلاط” بعض مدن فلسطين متّصلة باليهود وتحديد اليهود الصهاينة المهاجرين منذ نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين إلى تلك المدن. إذ لم تعتبر القدس ولا الخليل مدن “مختلطة” بحسب تقرير لجنة بيل مثلًا، رغم وجود اليهود تاريخيًّا في هاتين المدينتين. بالتالي، كان مفهوم ” المدينة المختلطة” يعني في مرحلة “الانتداب” المدينة العربيّة الّتي يسكنها مهاجرون يهود، بينما صار مفهوم “الاختلاط” وفق قاموس الصهاينة بعد قيام الدولة العبريّة تعني المدن اليهوديّة التي تبقّى فيها بعض العرب.
عمومًا، لم تكن طبريّة مدينة “مختلطة” إنّما كانت مدينة عربيّة متنوّعة المذاهب والأديان، وإن عاش فيها اليهود، وكانوا أكثريّة ديمغرافيّة فيها تاريخيًّا. فإنّ هويّة المدينة بقيت عربيّة حتّى عام النكبة.
وإذا كان العبّاسي يقصد تحوّل طبريّة لـ”مدينة مختلطة” في ظلّ الاستعمار البريطانيّ للمدينة ومع ازدياد حركة المهاجرين الصهاينة للبلاد، حيث المرحلة الّتي يستهدفها كتابه. فإنّ العبّاسي نفسه يؤكّد في كتابه على تراجع تعداد اليهود في طبريّة لصالح الزيادة العربيّة في هذه المرحلة تحديدًا.
تفيدنا ذاكرة أهالي طبريّة الشفويّة، والّتي همشها العبّاسي في كتابه، في الإجابة على سؤال نظرة أهالي طبريّة في هويّة مدينتهم. والّتي لم يروا فيها مدينة “مختلطة” إنّما عربيّة وإسلاميّة- بالمعنى الحضاريّ للإسلام- فيما أطلقوا على يهود مدينتهم تسمية “يهود وطنيّين” في إشارة لكونهم جزءًا من النسيج الحضاريّ العربيّ- الإسلاميّ الّذي كانت عليه مدينة طبريّة طوال تاريخها الحديث.
نكبة أحفاد الشيخ ظاهر:
كثيرة هي التفاصيل الّتي تناولها صاحب كتّاب طبريّة العربيّة عن دور المدينة مع الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة في ظلّ الصراع سواء مع سلطات الاستعمار البريطانيّة في ثلاثينيّات القرن الماضي، أو مع الصهيونيّة لاحقًا في حرب النكبة عام 1948. وقد أفرد العبّاسي الفصلين التاسع والعاشر من كتابه لدور المدينة في الصراع.
التزمت مدينة طبريّة العربيّة بخطّ الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة على مستوى النشاطات والتحرّكات، في ظلّ الصراع مع سلطات الاستعمار والصهيونيّة لاحقًا. إلّا أنّه التزام اتّسم بحسب العبّاسي بالاعتدال والابتعاد عن الصدّام المباشر مع اليهود مقارنة بالمدن الأخرى الّتي يسمّيها “المختلطة”. ومردّ ذلك يعود لكون طبريّة فيها أغلبيّة يهوديّة، وقد اتّسمت علاقة العرب في طبريّة بيهود مدينتهم بالتعايش وحسن الجوار.
على سبيل المثال، كان للشيخ طاهر الطبري وباقي القادة الطبرانيّين العرب نشاطًا وطنيًّا منذ مطلع عشرينيّات القرن العشرين على مستوى حضور المؤتمرات الوطنيّة القطريّة والتجمّعات وإرسال الاحتجاجات المكتوبة وتنظيم النشاط الوطنيّ في مدينتهم، ولكنّهم تجنّبوا القيام بإجراءات عمليّة في مدينتهم مثل المظاهرات والإضرابات أو المسيرات.
ولاحقًّا خصوصًا مع الإضراب الكبير في سنة 1936 لم تلتزم طبريّة العربيّة بالإضراب كما التزمت به باقي المدن الفلسطينيّة، رغم دعم النخب والعائلات القياديّة الطبريّة خطّ الحسينيّين.
إنّ المراوحة بين الالتزام بنهج الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة من جانب، وتجنّب الإجراءات النضاليّة الفعليّة في مواجهة سلطات الاستعمار البريطانيّ واليهود في المدينة من جانب آخر، هو الثيم الّذي ظلّ يحكم نهج النخب والعائلات القياديّة الطبرانيّة العربيّة. إنّ قراءة العبّاسي لهذا النهج هي قراءة صحيحة، لكنّها اختزاليّة، لأنّها تختزل ذاكرة مدينة طبريّة النضاليّة بموقف وأداء أعيانها وعائلاتها القياديّة وتهمّش موقف ونضال الشرائح الأخرى في المدينة والريف، والّتي خاضت معارك ومواجهات مسلّحة في المدينة ومحيطها وريفها مع سلطات الاستعمار البريطانيّ تحديدًا.
وحتّى حين أشار العبّاسي إلى تصاعد الأحداث والمواجهات الدامية في المدينة أثناء الثورة، خصوصًا في أحداث سنة 1938، فقد أشار لها بوصفها وقائع هامشيّة جرت على هامش خطّ نضال النخب والعائلات القياديّة – قيادات من عائلة الطبريّ تحديدًا -. ولاحقًا في أحداث النكبة عام 1948 بعد أن صار جزء كبيرًا من يهود طبريّة في صفّ الصهيونيّة، ركّز العبّاسي على دور “اللجنة القوميّة العربيّة في طبريّة” المشكلة أعضاءها من عائلات المدينة المتنفّذة، والّتي ظلّت تحت هيمنة عائلة الطبريّ، وتحديدًا القياديّين الشيخ نايف الطبري وصدّقي الطبريّ، واللّذين حاولا تجنّب المواجهة مع الصهاينة اليهود، أكثر ممّا حاولا تجنيب مدينتهم منها، كما يظنّ العبّاسي. لأنّهما لم يجنّبا مدينتهم وأهلها العرب فعلًا من الاقتلاع والطرد في الأخير.
في المقابل، يمرّ العبّاسي على ذكر المناضل الطبرانيّ صبحي شاهين مرور الكرام، والّذي رفض هيمنة عائلة الطبريّ على اللجنة القوميّة، كما ورفض شاهين الانصياع لأوامر قائد قوّة حامية طبريّة “كامل سعيد الطبري” شقيق الشيخ نايف. نظّم صبحي شاهين مجموعة فدائيّة معظمها من أبناء قرى ريف طبريّة للدفاع عن مدينة يهيمن عليها المتنفّذون من شبه الإقطاعيّين والأعيان. وللتأكيد، فقد أشار مصطفى العبّاسي إلى عدم رغبة زعماء عائلة الطبريّ، وخاصّة الشيخ نايف دخول مسلّحين من قرى ريف طبريّة العربيّة للدفاع عن المدينة، كما رفضوا الـ”تدخّل الخارجيّ” أي دخول قوّات جيش الإنقاذ لطبريّة، تحت ذريعة الخوف من ردّة فعل الجانب اليهوديّ في المدينة.
أخيرًا، كانت طبريّة أوّل مدينة عربيّة سقطت وطرد أهلها منها، خلال أحداث النكبة، وذلك في يوم 18 نيسان/ أبريل 1948، بعد مذبحة ارتكبها الصهاينة، وراح ضحيّتها ما لا يقلّ عن ثمانين عربيًّا طبرانيًّا من بينهم أطفال ونساء، وطرد أكثر من خمسة آلاف عربيّ من المدينة. استعرض العبّاسي، روايات ثلاث، حول طرد العرب من طبريّة. الأولى، رواية الصهاينة أنفسهم، الّتي زعمت بأنّ العرب في طبريّة لم يطردوا بل “غادروا بيوتهم بمحض إرادتهم”. والثانية، الرواية البريطانيّة، الّتي زعمت بأنّ الإخلاء تمّ بناء على طلب أحد القادة العرب من أبناء المدينة – لم يذكر البريطانيّون اسمه – أمّا الرواية الثالثة، فهي رواية الجانب العربيّ الفلسطينيّ حيث يشير العبّاسي مقتبسًا عن صاحب كتاب “نكبة فلسطين والفردوس المفقود” عارف العارف، بأنّ البريطانيّين مارسوا ضغوطًا شديدة على العرب في طبريّة بعد استسلامهم وأمروهم بإخلاء المدينة. بينما رواية الطبرانيّين المرويّة بعيون أهلها ظلّت مغيّبة.
يخلص العبّاسي إلى أنّ “إخلاء”- هو طرد وليس إخلاءً- أهالي طبريّة مردّه لأمرين: الأوّل، “الضغط العسكريّ الّذي مارسته قوّات الهاغاناه”. المقصود هو ما اقترفته العصابات الصهيونيّة. والثاني، يتمثّل في “الضغوط البريطانيّة الشديدة على العرب في طبريّة لإخلاء بيوتهم ومدينتهم”. هي ليست ضغوطًا للإخلاء، إنّما هي في حقيقتها مؤامرة ساندت فيها بريطانيا الاستعماريّة الصهيونيّة الاستيطانيّة.
الخلاصة هي في ما لم يقله العبّاسي، فنقوله نحن “كانت طبريّة بقياداتها من شبه إقطاعيّيها، أكثر من عوّلت ووثقت بيهودها، وأوّل من سقطت على أيديهم”. لا نقصد المزوادة على التاريخ بتاتًا، فحتّى لو أرادت قيادات العائلات القياديّة في طبريّة القتال، لسقطت المدينة أيضًا. ولكن ما كان لطبريّة أوّل مدينة تسقط في البلاد.
الأخير:
في الفصل الحادي عشر والأخير، يتناول العبّاسي “مأساة” ما بعد طرد العرب، والّتي حلّت بيهود البلدة القديمة بعد إخلائهم منها، ثمّ حرقها وهدمها على أيدي عصابات جيش الهاغاناه، بإيعاز من بلديّة طبريّة نفسها. بالتالي استطرد العبّاسي في تتبّع تفاصيل تلك “المأساة” الّتي استمرّت لسنوات من خمسينيّات القرن الماضي، في اتّهامات للبلديّة والحكومة ومسار قضائيّ انتهى بتعويض اليهود عن بيوتهم المهدّمة رغم بقائهم في المدينة. ما نريد قوله في ذلك، هو أنّ جيش العصابات الصهيونيّة لم يكن يتخلّص من بيوت اليهود عند هدمه البلدة القديمة، إنّما من الوجه العربيّ للمدينة أراد الصهاينة التخلّص “. لأنّ طبريّة كانت عربيّة وليست “مختلطة”. وذلك، لطيّ آخر صفحة متّصلة بحكاية احتضان أحفاد الشيخ ظاهر العمر لأبناء وأحفاد الحاخام أبو العافية في حاضنتهم العربيّة طبريّة.
* كاتب فلسطيني وباحث في التاريخ الاجتماعي
المصدر: عرب 48