الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

العنف لا يولّد سوى العنف

سمير العيطة *

على وقع أحداث روسيا، وربمّا السودان أيضاً ودول أخرى حول العالم، عاد الحديث عمّا تعنيه الدولة وجيشها من حيث احتكار العنف الشرعي. والحديث عن مصير ميليشيات خاصّة أو قوى محليّة ظهرت بدعم محلي أو خارجي تحاول في مرحلة ما الانقضاض على السلطة المركزيّة أو خلق كيان انفصالي.

هذه المسألة لها وقعٌ خاصّ في سوريا ولبنان. حيث غدت قلّة من بنات وأبناء البلدين تتذكّر لماذا يتمّ الاحتفال بعيد الجيش بالتحديد في الأوّل من آب/ أغسطس.

كان الانتداب الفرنسي قد أنشأ قوّات خاصّة على أسس طائفية ونزعات قومية (كردية، شركسية، أرمنية، مارونية، علوية، عشائرية، درزية، إلخ) شكّلت عماد جيشه في الشرق. وطالب برلمانا البلدين وحكومتاهما بتسليم هذه القوات لهما مع دعم جماهيري كبير، خاصّة بعد هزيمة ألمانيا النازيّة في أيار/ مايو 1945 ومشاركة البلدين، المستقلّين رسميّا منذ إعلان الجنرال كاترو واعتراف الجنرال ديجول في 1941، في تأسيس الجامعة العربيّة والأمم المتحدة. ورفض البلدان إقامة قواعد عسكرية بالمقابل كما رفضا استمرار هيمنة فرنسا على التعليم كما على المؤسسات الاقتصاديّة والمصارف. لقد عزّزت فرنسا قوّاتها بجنود أغلبهم سنغاليون وحاولت بثّ فتنة طائفيّة وانتهت المواجهة بقصف الجيش الفرنسي للبرلمان السوري في 26 أيار/ مايو وقتل حاميته من الدَرَك السوريين ونهب محتوياته، وكذلك مناطق أخرى في دمشق وغيرها من المدن. تدخّل الجيش البريطاني لوقف إطلاق النار وإعادة جميع القوّات إلى ثكناتها، لينتهي الأمر بقبول فرنسا في تموز/ يوليو بتسليم القوّات الخاصة، بعد أن هرب كثيرٌ من أعضائها لينضموّا لدولتيهما وأعطت فرنسا الخيار للبعض منهم للذهاب إليها.

هكذا كان على البلدين انطلاقاً من الأول من آب/ أغسطس 1945 تأسيس جيش موحد ذي توجه وطني انطلاقاً من «ميليشيات» أُسّست أصلاً على التفرقة. مهمة لم تكن سهلة ولم تأخذ حقها من المراجعة التاريخيّة حول نجاحاتها وأشكال فشلها، وخاصة من حيث دور هذا الإرث في الانقلابات ومحاولاتها الفاشلة في لبنان، وعلى «تسييس» الجيش الذي أطلقه أكرم الحوراني في سوريا، كما على انقسام الجيش اللبناني وانهياره خلال الحرب الأهلية. ثم عاد لبنان بعد انتهاء تلك الحرب في أوائل تسعينيات القرن الماضي لذات الجهد لإنشاء «جيش وطني» ضم ضباطاً تدربوا في سوريا وإيران… وآخرون في «إسرائيل»، ضباطٌ خاضوا معارك ضد بعضهم البعض. جهد لم يكن أيضاً هيّناً. وجهدٌ ما زال مطروحاً بقوّة في لبنان اليوم حول «المقاومة» والجيش ومفهوم الأمن القومي المشترك، خاصّة في ظلّ الانهيار المالي وتمويل دول خارجيّة حتى لأجور العاملين في القوّات المسلّحة. وسوريا ستواجه أيضاً، إذا ما عادت لها وحدتها المأمولة، ذات الجهد في ضمّ «الميليشيات» المنفلتة في مناطق النفوذ المختلفة ضمن الجيش السوري أو حلّها. جهدٌ يرتبط بشكل وثيق بالتواجد الروسي والإيراني والتركي والأمريكي في البلاد.

هذا الجهد طُرِحَ، وما زال، في عراق ما بعد الغزو الأمريكي وحربه الأهلية، وفي ليبيا، وسيُطرح حتما إذا توقفت حرب اليمن واستعاد وحدته.

  • • •

في الحقيقة، تطرح قضية احتكار الدولة وجيشها للعنف الشرعي إشكاليّات متعدّدة. أوّل هذه الإشكاليّات أنّ هذه «الشرعيّة» تعتمد على الرأي العام الوطنى وتقبله لمقتل أبنائه في صراع داخلي أو خارجي. هكذا تمّ إنشاء جيوش مرتزقة عامة أو خاصة، حتى في الدول الديموقراطيّة، للقيام بمهمات لا يتقبلها هذا الرأي العام ولا هيكلية الجيش الرسمية. من «الفيلق الأجنبي الفرنسي» إلى «كيني ميني» البريطانية و«بلاك واتر» الأمريكيّة (التي أضحى اسمها «أكاديمي» ثمّ «كونستيليس») إلى «فاغنر» الروسيّة… هذا في ظل غياب إطار قانوني واضح، وطني ودولي، وسريّة حول سبل تمويل جيوش المرتزقة هذه أو حول محاسبتها على انتهاكاتها… وهذه حال «قوّات الدعم السريع» السودانيّة التي استخدمت للقضاء على التمرّد في دارفور ثمّ تمرّدت على الجيش السوداني.

ثم ماذا عن «شرعية العنف» في قمع تمرّد داخلي أو أعمال شغب أو ثورة؟ ليس هذا الأمر حكراً على الجيش، بل عمل كثير من الدول على تطوير قوّاتها الأمنيّة (الشرطة، الدرك، والمخابرات) بشكلٍ كبير كي تقوم بهذا الدور، لتجنّب زجّ الجيش الوطني فيه. هذه إشكاليّة أكبر، تمتزج فيها العناصر الداخليّة كما الخارجيّة. فهل «العنف» الذي تأمر به سلطة مُهيمنة على الدولة في بلد لقمع انتفاضة شعبية تطالب بحريّات أساسية «مشروع؟» وإلى أي حدّ من الإفراط؟ وهل بالمقابل، يُمكِن لأطراف خارجية أن تُسلّح تمرداً داخليّاً وأن تروج أنه «وطني» يواجه جيشاً «فئوياً؟» هذه الإشكالية كان لها فعلها في صلب تحول «الربيع العربي» في كثير من بلدانه من انتفاضات من أجل الحرية والكرامة إلى حروب أهليّة بدفع من «غباء» السلطات القائمة من ناحية ومن التدخل الخارجي من ناحية أخرى. فهل كان قصف الجيش الليبي المتوجّه إلى بنغازي للقضاء على التمرّد مشروعاً بالأعراف الوطنية والدولية؟ علماً أن قرار مجلس الأمن كان يمنع فقط الطيران. والنتيجة أن بلداناً دُمرت وشعوباً جُوِعَت في ليبيا واليمن وسوريا من أجل أطماع «سلطة» وكذلك أطماع دول خارجيّة… ما زالت ذات حضور أكبر اليوم.

إشكاليّة أخرى تتعلّق «بالعنف الناعم»، أو «القوة الناعمة»، مقابل «العنف الغليظ» بالسلاح. هكذا تمول الدول أو الشركات والمؤسسات الثريّة جماعات وأحزاباً سياسيّة وجمعيّات في دول أخرى بهدف الدفاع عن أقليات أو نهج سياسي أو مجتمع مدني. وتمول زعامات محلية جماعات للإبقاء على نفوذها. فكيف التمييز بين ما هو فعلاً من أجل حريّات وحقوق وبين ما يذهب لفرض نفوذ يؤجج صراعاً داخليّاً؟ وما الشرعي فيما يُمكِن السماح به وما يجب ضبطه؟ وهنا أيضاً تجدر ملاحظة التمويل الخارجي الكبير لأحزاب سياسيّة معينة بُعيد انطلاق «الربيع العربي»، وكذلك الهيمنة عبر المال والخدمات لأمراء الحرب في لبنان الذين أخذوا البلاد إلى الاستعصاء الحالي.

  • • •

هذه الإشكاليّات قائمة في صلب مسائل استقرار الدول وسيادتها ولعبة الأمم في العصور الحديثة. وفي ظلّ واقع قلة أو انعدام التطرق لها بشكل منهجي، حتى عبر سبر تاريخها، لا بد من تثبيت بعض الملاحظات الأساسيّة.

إن العنف، حتّى لو كان «شرعياً»، لا يولّد سوى مزيد وتصاعد في العنف وضغائن تتفجر يوماً. واستخدام السلاح حتى لمواجهة عنف «شرعي» يأخذ صاحبه للتبعية لمن يُعطي السلاح والمال. والحذر ضروري من «العنف الناعم» لأنه يأخذ من يتلقى أمواله إلى تبعية لمموّليه، وما يقوض أسس بلاده.

كذلك لا تأخذ جيوش المرتزقة، العامة أو الخاصة، إلا إلى أزمات تهدّد في النهاية الدولة التي أنشأتها. ولا أفق للميليشيات التي تُخلَق في ظروف الصراعات الداخلية سوى الاندماج في مؤسسات الجيش أو الانحلال. اللهم إلاّ في حال خلق كيان انفصالي في ظل حماية دولة خارجيّة. ولا يأخذ انخراط الجيش والقوى الأمنيّة في الصراعات السياسيّة وكذلك في المال والاقتصاد سوى… إلى انحلال الدولة.

وفي النهاية، لا شيء يعادل تدمير بلد وتجويع شعوب، لا شرعية احتكار الدولة للعنف ولا الأوهام التي تخلقها القوى الخارجية، باستخدام العنف الغليظ… أم الناعم.

* باحث اقتصادي سوري ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.