جورج كعدي *
الباحث المصريّ الدكتور جمال حمدان (1928-1993) وكتابه “اليهود أنثروبولوجيًّا” جديران بالعودة إليهما في هذه الآونة العصيبة، ككلّ سابقاتها وبلا انقطاع، من تاريخ الصراع الفلسطينيّ- الصهيونيّ، والصراع العربي- الصهيوني، فالبحث عن أصل المشكلة (بل المأساة) العويصة لا يتوقّف، كي يعي كلّ فرد، وبخاصّة جيل الشباب، ما هي حقيقة هذا العدوّ المحتلّ المستعمر الإحلاليّ، الذي سلب شعبًا بأكمله أرضه ويمعن فيه حتى الساعة قتلًا وطردًا وتهجيرًا، من غير أن يتمكن من سلبه هويّته وتاريخه وحقّه في استرداد وطنه السليب.
مَنْ هو الدكتور جمال حمدان لمن لم يصادف بعد اسمه ومؤلّفاته ومكانته العلميّة؟ إنّه واحد من أعلام الفكر المصريين، تخصّص في الجغرافيا، في جامعة القاهرة بدءًا ثم في بريطانيا حيث نال الدكتوراه عن رسالته “سكان وسط الدلتا قديمًا وحديثًا” تحت إشراف البرفسور أوستن ميلر، ولم يكن تجاوز، لنبوغه، الرابعة والعشرين من العمر. ولدى عودته إلى مصر عُيِّن أستاذًا محاضرًا في كلية الآداب- قسم الجغرافيا في جامعة القاهرة. لكن سرعان ما أدرك التغيّرات التي طرأت على مصر بعد ثورة 1952 فآثر الانسحاب من الحياة العامة والمركز الأكاديمي كي يتفرّغ للبحث والتأليف، متجاهلًا فوضى الحياة المحيطة به، فأنجز عملًا فكريًا كبيرًا، لا في الجغرافيا فحسب بل أيضًا في علوم أخرى متنوعة، بين السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا والفلسفة، حتى زادت مؤلّفاته على السبعة عشر كتابًا بالعربية والثمانية بالإنكليزية، فضلًا عن العديد من المقالات في صحف ومجلّات عربيّة. ولعلّ أبرز أعماله وأضخمها في أربعة مجلّدات ونحو أربعة آلاف صفحة كتابه الموسوعيّ “شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان” الذي استلزم عشر سنوات من عمره وجهده، مدعّمًا إيّاه بقائمة مراجع هائلة بلغت 245 مرجعًا عربيًّا و691 مرجعًا أجنبيًّا.
لكنّ الأمر المؤلم، والمعبّر، في هذه السيرة المختصرة للدكتور حمدان أنّه اغتيل في ظروف غامضة في 17 نيسان (أبريل) 1993، إذ وُجدت جثته محترقة داخل شقته المتواضعة في الدقي، وكشفت السلطات المصرية لاحقًا أنّ رجلًا وامرأة استأجرا قبل شهرين شقة في المبنى نفسه، ثم غادراها فورًا بعد وفاته البشعة محترقًا، ليتبيّن في ما بعد أنّهما كانا من جهاز الموساد الإسرائيلي الذي استشعر خطره الفكريّ على المشروع الصهيونيّ، علمًا بأنّه كان يهيّئ قبل وفاته إصدارًا جديدًا عن “اليهودية والصهيونية”، وكشف مقرّبون منه عن اختفاء مسودّة من ألف صفحة كان يضع اللمسات الأخيرة عليها قبل إرسالها إلى الطبع فالنشر. والعبرة الأساسيّة في هذه الوفاة المحزنة أنّه كان صاحب فكر متين ومتماسك وعلميّ استفزّ اليهود الصهاينة فقرّروا إطفاء شعلته الفكرية وخطرها على كيانهم الزائف فضحًا وكشفًا وتعيينًا.
في بحثه بالغ الأهمية “اليهود أنثروبولوجيًا” (صدر عام 1967) سعيٌ علميّ محموم لإثبات أنّ اليهود، الذين وفدوا متسلّلين بحماية بريطانية مجرمة خبيثة لاستيطان أرض فلسطين وإحلال شذّاذ الآفاق منهم مكان الشعب الفلسطينيّ، ليسوا أحفاد بني “إسرائيل” الذين خرجوا من فلسطين في حقب ما قبل الميلاد، وليسوا بالأدلّة العلميّة المفصّلة تفصيلًا مدهشًا سوى يهود ينتمون إلى إمبراطورية الخزر التتريّة التي قامت بين بحر قزوين والبحر الأسود واعتنقت اليهودية في القرن الثامن الميلادي، وذاك ما يؤكده آرثر كوستلر Koestler في كتابه “القبيلة الثالثة عشرة ويهود اليوم” (صدرت ترجمته العربية لدى الهيئة العامة للكتاب عام 1991)، علمًا بأن كوستلر يهوديّ من أصل مجريّ، وهو بالتالي شاهدٌ من قومه وأهله.
الدكتور حمدان سبّاق في هدم المقولات الأنثروبولوجيّة التي تعدّ أبرز أسس المشروع الصهيونيّ، مقدّمًا البرهان على أنّ “إسرائيل” هي ظاهرة محض استعمارية نهضت على اغتصاب غزاة أجانب أرضًا لا صلة لهم دينية أو تاريخية أو عرقية بها، مشيرًا إلى أنّ ثمة فئتين من اليهود في التاريخ، قدامى ومحدثين، لا صلة أنثروبولوجية بينهما، فيهود فلسطين التوراة تعرّضوا بعد الخروج لظاهرتين أساسيتين طوال عشرين قرنًا من الشتات: خروج أعداد ضخمة منهم بالتحوّل إلى غير اليهوديّة، ودخول أفواج لا تقلّ ضخامة في اليهودية من كلّ أجناس المهجر، واقترن ذلك بتزاوج واختلاط دمويّ بعيد المدى انتهى بالجسم الأساسيّ من اليهود القدامى المختلفين تمامًا عن اليهود المحدثين. اليهود بالنسبة إلى حمدان “متحف حيّ لكلّ أخلاط الأجناس في العالم كما يدرك كلّ أنثروبولوجيّ، وفَرْضُ أنفسهم كأمّة مزعومة مدّعية، في دولة مصطنعة مقتطعة، يجعل منهم ومن الصهيونية حركة عنصريّة في الأساس”. كشف الدكتور حمدان الحقيقة الدينية البحتة للمشروع الصهيونيّ، واصفًا في كتاب آخر له عنوانه “استراتيجية الاستعمار والتحرير” الكيان الصهيوني بأنّه “دولة دينية صرفة تقوم على تجميع اليهود، واليهود فقط، في غيتو سياسيّ واحد، وبالتالي وابتداءً هي ذات أساس تعصّبي دينيّ وتمثل شذوذًا رجعيًّا في الفلسفة السياسية للقرن العشرين وتحيي حفريات العصور الوسطى بل القديمة”. وإذ يحلّل بعمق الظروف المحيطة بقيام المشروع الصهيوني يخلص إلى أنّ “الأمن” يمثل المعضلة المحوريّة للكيان اللقيط، فوجود “إسرائيل” رهن بالقوة العسكرية وبكونها ترسانة وقاعدة وثكنة مسلّحة، مؤكدًا على أنّها قامت، ولا تستمرّ إلّا بالدم والحديد والنار. إنّها دولة عسكرية في صميم تنظيمها ووجودها، لذا أضحى جيشها هو شعبها وشعبها هو جيشها. الاستعمار العالمي أوجد في رأيه هذا الكيان اللقيط، بالاشتراك مع الصهيونية العالمية، على أن يكون قاعدة عسكرية ورأس جسر ثابتًا استراتيجيًا ووكيلًا عامًا اقتصاديًا، أو عميلًا خاصًا احتكاريًّا، وفاصلًا أرضيًّا يمزّق اتصال المنطقة العربية ويخرّب تجانسها ويمنع وحدتها ويمتصّ كامل طاقاتها ويُحدث نزيفًا دائمًا في مواردها.
بالعودة إلى موضوعنا الأساسيّ هنا، أي كتاب الدكتور حمدان “اليهود أنثروبولوجيًا”، فإنّه لا يدرس اليهود بكونهم رسل الحضارة النورانيين (الشعب المختار في الرؤية الصهيونية) ولا هم شياطين ملاعين (قوة الشر الأزلية في الرؤية المعادية لليهود)، فكلتا الرؤيتين تشيّئان اليهود وتضعهما في مجال خاص بهم مقصور عليهم يسمّى “الدراسات اليهودية”، فهذه تسمية منحازة إلى أقصى حدّ وتنطلق من النظر إلى اليهود بكونهم وحدة، أو كتلة عضويّة من الملائكة او الشياطين. يرفض الدكتور حمدان ذلك ويضع اليهود، مثل أي ظاهرة أخرى، في النقطة التي يتقاطع فيها الخاص مع العام والكلّ مع الجزء. فاليهود هم في المقام الأول جزء من الظاهرة الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية العامة، ومع ذلك ثمة ملامح خاصة ينفردون بها، “والعودة اليهودية” إلى فلسطين ليست عودة توراتيّة أو تلموديّة أو دينيّة، بل هي “عودة” بالاغتصاب، غزو وعدوان لا “عودة أبناء قدامى”، أي استعمار لا شبهة فيه بالمعنى العلميّ الصارم. يؤكد: “إن يهود العالم اليوم مختلطون في جملتهم اختلاطًا يُبعدهم عن أيّ أصول إسرائيلية فلسطينية قديمة”.
بعد عرض تاريخيّ، يضيق به المجال هنا، مفصّل جدًا بالنسب والأرقام، يعود إلى ألوف السنين وإلى نشأة الدين اليهودي وتمدّده جغرافيًّا (طالما نحن برفقة أكاديميّ متخصّص في علم الجغرافيا) نقفز مع الدكتور حمدان إلى العصور الحديثة المتقدمة فيخلص إلى أنّ “يهود اليوم هم أقارب الأوروبيين والأميركيين، بل هم في الأعمّ الأغلب بعضٌ منهم وجزء وفئة، لحمًا ودمًا، وإن اختلف الدين. ومن هنا فإنّ اليهود في أوروبا وأميركا ليسوا كمّا يدّعون غرباء أو أجانب دخلاء يعيشون في المنفى وتحت رحمة أصحاب البيت، وإنّما هم من صميم أصحاب البيت نسلًا وسلالة، لا يفرّقهم سوى الدين”. يدرس حمدان شكل الرأس بكونه أهمّ علامات النقاء، أو الاختلاط. يعرض لهذه المسألة من خلال بناء منطقي واضح وقرائن وشواهد، ولا يكفّ عن الإشارة إلى السياقات التاريخية المتنوعة، ففي أقلّ من صفحة يشير إلى تاريخ الصراع بين الدولتين العبريتين، وإلى يهود الجزيرة العربية، دارسًا تاريخهم (لاحقًا) وتوزيعهم (في سياق آخر) وأعدادهم وخروجهم من العالم العربي.
الهدف من تلك السياقات التاريخية والأبعاد المركّبة هو الخروج بالظاهرة اليهودية من سجن “الدراسات اليهودية” ليدخل بها في سياق العلم العام. فاليهود جزء من تواريخ التشكيلات الحضارية التي يوجدون فيها وما من داعٍ لعزلهم عمّا حولهم من ظواهر. فبما أنّ “إسرائيل” استعمار استيطانيّ إحلاليّ، شأنه شأن أي استعمار استيطانيّ إحلاليّ، يمكن دراسته ضمن إطار حركيّات تاريخ الاستعمار الغربيّ. اليهود هم أيضًا بشر يمكن دراستهم في نطاق حركيّات تواريخ المجتمعات المختلفة، مثل سائر البشر. بذلك، يسترجع لهم الباحث إنسانيتهم التي أبعدها الصهاينة أسوةً بالمعادين لليهود الذين صوّروهم، مثلًا، بأنّهم في حالة شتات دائمة يهيمون على وجههم من بلد إلى آخر ويرفضون الاندماج في مجتمعاتهم. لا يسلّم الدكتور حمدان بذلك، مظهرًا أنّ اليهود لم يقاوموا عمليات صبغهم بالصبغة الهللينية، بحسب زعم التواريخ الصهيونية. كما لا يمكن نفي أنّ بعضهم قاوم فعلًا، بل نشأت الدولة “المكّابية” كي تتصدى للنزعة الهللينية، بيد أن الغالبية الساحقة قبلت بالحضارة الهللينية وانتشرت على نحو واسع وبعيد المدى في كلّ العالم الهللينيّ البيزنطيّ. الانتشار هذا لم يكن تعبيرًا عن شتات أبديّ أو تيه بلا نهاية، بل كان استجابة إنسانية عادية لأوضاع حضارية اجتماعية. لذا قُدّر في مصر أن ثلث سكان الاسكندرية البطلمية كانوا من اليهود، وذلك قبل سقوط الهيكل. ما يعني أن سقوط الهيكل (المزعوم) لم يكن سبب تشتّت/انتشار اليهود، بل كان نتيجة اندماج اليهود في الحضارة الإغريقية، كسائر الشعوب الأخرى.
الدكتور جمال حمدان في بحثه الدؤوب عن أنماط ذات معنى ومغزى كامنة في التفاصيل، يواجه مادته العلمية الخام من خلال إشكالية محدّدة، وبعد حشد معلومات هائلة عن أعداد اليهود في العالم (لعلّهم لا يتجاوزون الخمسة عشر مليونًا حتى اليوم ومع ذلك يُقلقون المليارات من سكان الأرض من فرط جشعهم ومشاريع سيطرتهم)، يطرح السؤال الآتي: ماذا تعني هذه الأرقام وتلك التوزيعات؟ وإجابته أن “أوروبا هي عمليًا الوطن المطلق لليهودية العالمية، والموجود خارجها ليس بالمقارنة سوى شظايا. وعلى مستوى النظرة الكلّية يسعنا تصوّر ثلاث دوائر هي أقطاب التوزيع حتى نهاية القرن التاسع عشر، لكنّها تتضاءل سريعًا أقطارًا وأحجامًا من الشرق إلى الغرب: دائرة شرق أوروبا ومركزها بولندا الروسية، ودائرة غرب أوروبا ومركزها الراين وفرانكفورت، وأخيرًا دائرة الولايات المتحدة ومركزها نيويورك”.
هذا في الإطار العام، لكن ثمة داخله أنماط أدنى عمومية، فـ”الصورة بعد الحرب العالمية الثانية غيرها ما قبلها، واليهود في الإطار الكوكبي هم ظاهرة قزميّة”. وانتشار اليهود في أنحاء العالم ليس كميًّا أو تمدّدًا أفقيًا بل يتبع نمطًا محدّدًا، فهم ليسوا منتشرين على وجه العموم بل يُلحظ اتجاههم نحو سواحل المحيط الأطلسي الشرقية والغربية. فلو أضفنا إلى ذلك نمط التوزيع في أميركا الجنوبية ثم تركّز يهود شمال أفريقيا تقليديًا في المغرب لجاز لنا التأكد من أن الغالبية العظمى من يهود العالم تحفّ بشواطئ ذاك المحيط، بعدما كانت متركزة حتى القرن التاسع عشر في القلب القارّي للعالم القديم.
ينتقل الباحث المصري من أنماط التوزيع في العالم بعامّةٍ إلى أنماط التوزيع داخل كل قطر، مظهرًا أنّ اليهود هم في المقام الأول سكان مدن، بل سكان مدن كبرى تحديدًا. وهم إلى ذلك سكان عواصم بالتفضيل والامتياز. وحين نتكلّم عن يهود دولة ما فإنّما “نتكلّم في الحقيقة عن يهود العاصمة ومدينة أو اثنتين مجاورتين لها. إنّها حقيقة طاغية أزلية – أبدية على امتداد تاريخ اليهود، قديمًا وحديثًا. والأمثلة تغني عن الحصر، ولعلّ أوضحها المثال الأميركي، فاليهود يقيمون أساسًا في نيويورك وشيكاغو وبضع مدن أخرى”، متناولًا نيويورك تحديدًا التي يدعوها (بروح الدعابة التي لا تفارقه، رغم النبرة العلمية الجادة) “تل أبيب الكبرى” بل “إسرائيل الكبرى”. فعدد اليهود في المدن يتناسب طرديًا مع أحجامها، إذ هم أقوى الممكن في نيويورك، تليها شيكاغو، بينما لا وزن لهم في بوسطن مثلًا. ولدينا عشرات الأمثلة الأخرى في أنحاء العالم: تورونتو، مونريال، باريس، لندن، تونس، إسطنبول، جوهانسبرغ، سيدني، إلخ.
بوصوله إلى فلسطين، مركز اهتمام دكتور حمدان وانشغاله بالمسألة اليهودية، يلفتنا قوله: “حتى في فلسطين المحتلة تحوّل المغتصبون الدخلاء المُقْتَلِعون إلى سكان مدن، حيث ثلاثة أرباع السكان المحتلّين يتكدسون في المدن، وتزداد النسبة إطرادًا. ومن المؤكد كذلك أنّ العالم لم يعرف دولة قزميّة بهذه الدرجة الصارخة المنحرفة من المدينية Urbanism. إنّها ببساطة حثالة مدن العالم انصبّت واستُقطبت في دولة”.
أمّا عن اليهود تجّارًا، لا زارعين ولا صناعيين على مرّ التاريخ، فيقدّم حمدان مثلًا بيّنًا لا لبس فيه مدينة نيويورك التي تضمّ ملايين اليهود الذين يتمركزون في المهن والوظائف الحرة كالطب والمحاماة والتجارة والمال والصحافة، حتى أنّنا نلحظ، على سبيل المثال، أنّ نصف مجموع الأطباء والمحامين في ولاية نيويورك هم من اليهود. كما أنّ مستوى التعميم يتجاوز اليهود ليغدو نمطًا عالميًا، ويُضرب باليهود المثل في حالات مشابهة فيُطلق على الجاليات الصينية التي تتعاطى التجارة خارج الصين “يهود جنوب آسيا”، وعلى الهنود في مدن ساحل أفريقيا الشرقية “يهود شرق أفريقيا”، أي أنّ هذا النمط يخرج من عالم اليهود إلى عالم الإنسانية جمعاء، وتصبح الظاهرة اليهودية جزءًا من علم اجتماع الأقليات التجارية الهامشية.
لا يغفل حمدان البُعد الدينيّ، فرغم تأكيده على أنّ الصراع العربي – الإسرائيلي ليس صراعًا دينيًا، على الأقل من الطرف العربيّ، إلّا أنّه لا يُسقط المكوّن الدينيّ. فمثلما أنّ الدائرة الإسلامية هي إحدى الدوائر الأساسية التي تقع مصر وفلسطين في وسطها، فإنّ العقيدة اليهودية تشكل إحدى الدوائر الأساسية للصهيونية و”إسرائيل”، واصفًا اليهودية بأنّها وحدها بين الأديان السماوية مقفلة ومغلقة، أي أنّها تُحجم عن التبشير، وتجترّ نفسها أبدًا. وإنْ تكن اليهودية عالمية بحكم توزيعها، إلا أنّها في الواقع الأبعد عن العالمية بحجمها القزميّ الضئيل، ولكونها جغرافيا (مقصورة على وطن) وعنصرية (مرتبطة بقوم أو بعنصر بعينه). ورغم أن الباحث لا يشير إلى ماكس فيبر هنا، لكن من الواضح أنّه قرأ بعض أعماله وأشار إليه في دراسات أخرى له، ما يُظهر مدى اتساع أفقه الثقافي والتحليليّ.
في مقطع مثير من الدراسة يوضح الدكتور حمدان “أنّ كل قوة يهود الشتات حين خرجت من فلسطين بعد هدم الهيكل الثاني لم تزد على 40 ألفًا! وهذا الرقم يكفي وحده ليوحي، رغم كل قيود العزل والاضطهاد، بأنّ يهود الشتات الأصلاء قد ذابوا وانصهروا وضاعوا في محيط المهجر كقطرة في بحر، وأنّ يهود العالم هم في سوادهم الأعظم اليوم أجانب متحوّلون أكثر ممّا هم يهود متجوّلون (أو تائهون). ماذا يبقى فيهم إذًا من بني إسرائيل التوراة؟ إنّ من يمكن أن يُعدّ بينهم من نسل بني إسرائيل التوراة حقًا ومباشرة هم نسبة ضئيلة إلى أقصى حد. مثلًا، في أواخر القرن التاسع عشر ألغى الأنثروبولوجي المخضرم والمعروف فيلكس فون لوشان Von Luschan أنّ “بين اليهود المحدثين نحو 50% عراض الرؤوس، و11% ذوي بشرة بيضاء، ولا أكثر من 5% يتفقون مع ما عرفنا أنّه النمط السامي القديم. ويتّفق هذا تمامًا مع ما تؤكده دراسة حديثة قام بها الأنثروبولوجي البريطاني جيمس بي فنتون James P. Fenton وتوصّل فيها إلى أنّ 95% من اليهود ليسوا من بني إسرائيل التوراة، وإنّما هم أجانب متحوّلون أو مختلطون. معنى ذلك أن الصلة “العرقية” أو “الجينية” بين يهود اليوم ويهود التوراة مفقودة تمامًا من الناحية العملية، وهم بالفعل أوروبيون سلاف أو آريون أكثر مما هم ساميّون. وينطبق ذلك على الأشكناز في أوروبا، وعلى امتدادهم الأميركي الذي ازداد اختلاطه في البوتقة الأميركية، مع العلم أنّ الأشكناز هم السواد العظم من يهود العالم عدديًا. لذا فإنّ يهود اليوم ليسوا من بني إسرائيل، فهؤلاء، شيء وأولئك شيء آخر أنثروبولوجيًّا، ولا رابط بين الطرفين سوى الدين، والدين فقط. وطالما أن اليهود لم يبقوا من الساميين في شيء يمكننا أن نرى الخطأ الفاشيّ الشائع، بل المغالطة الكبرى المتعمّدة، في إطلاق تعبير ضدّ السامية على المعادين لليهود، فنحن واقعًا إزاء “ضدّ اليهودية” ببساطة وبلا تعقيد. وإذا كان الألمان يتكلمون عن “ضدّ السامية” anti Semitimus وكراهية اليهود Judenhetze كمترادفين، فإنّ التعبير الثاني أدنى إلى الحقيقة العلمية من الأول. فالاضطهاد النازيّ لليهود في ألمانيا لم يكن في جوهره سوى اضطهاد ألمان لألمان لا يقلّ معظمهم عنهم “آريّةً” و”نورديّةً”، بل هم مختلفون فقط في الديانة وأسلوب العيش.
في عودة ثانية إلى فلسطين يُسقطُ الدكتور حمدان أيضًا أي دعوى قرابة دم بين العرب واليهود، فقد يكون يهود التوراة والعرب أبناء عمومة على أساس أنّ اسماعيل هو أب العرب وإسحق أب اليهود، وكلاهما ابنا إبراهيم (الشخصية التوراتية الغامضة وبعض الباحثين يقول إنها مختلقة وخرافية ولم تنوجد قطّ)، غير أنّ هذه القرابة تصحّ في البداية فقط على “نسليهما”، لكن لاحقًا ذاب نسل أحدهما في دماء غريبة وبلغ هذا الذوبان حدّ الانحلال حتى بتنا إزاء قوم غرباء لا علاقة لهم البتة بإسحق، فضلًا عن إسماعيل. ولا يمكن بعد اختفاء يهود التوراة مثل شبح أن يكون يهود أوروبا والعالم الجديد أقارب العرب أكثر من قرابة الأوروبيين والأميركيين للعرب! وسوى ذلك، حتى لو نطق به بعض ملوك العرب “ليس إلّا من قبيل أوهام العوام، بل جهالات الملوك”.
* كاتب وناقد فني وصحفي وأستاذ جامعي لبناني
المصدر: ضفة ثالثة