الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الأدب السوري اللاجئ في تركيا

علاء الدين حسو *

ملخص:

 تتناول هذه الدراسة الأدب السوري اللاجئ في تركيا، من خلال نماذج: في الرواية، والقصة، والشعر المكتوب والمطبوع في تركيا، بعد اندلاع الثورة السورية، ولم تعتمدِ الدراسةُ أعمالًا لأدباء خارج تركيا.

 نناقش في هذه الدراسة الأدب السوري اللاجئ في تركيا، وكيف استطاع الأديبُ السوري نقل هموم اللاجئين السوريين، وهواجسهم، وأحلامهم، وتصوراتهم، وتتطرق إلى خصوصيّة السوري الذي لجأ إلى تركيا، واستقر فيها. لكونه يملك خصوصيَّة مختلفة، ومركبة، نابعةً من الظروف الجغرافية، والتاريخية، والروابط المشتركة، وتُظهر الدراسة، كيف أن تركيا كانت أرضًا خصبة لنمو الأدب السوري، وتعزيز التواصل بين السوريين، بعكس اللجوء في أماكن أخرى.

ABSTRACT:

The current study deals with Syrian refugee literature in Turkey, through examples of novels, stories, and poetry written and printed in Turkey after the outbreak of the Syrian revolution. The study did not adopt the work of its owners outside Turkey. In this study, we discuss Syrian refugee literature in Turkey, and how the Syrian writer was able to convey the concerns, concerns, dreams, and perceptions of Syrian refugees, and address the privacy of the Syrian who sought refuge in Turkey and settled there. It has a different and complex specificity, stemming from geographical and historical conditions, and common ties. The study shows how Turkey was a fertile ground for the growth of literature and the promotion of communication between Syrians, in contrast to asylum in other places.

المدخل:

كانت تركيا أكبرَ مستقبلٍ للسوريين اللاجئين على مستوى العالم، منذ بدايةِ موجاتِ اللجوءِ السوري؛ بفعل الحرب التي شنَّها نظامُ الأسد ضد الشعب السوري، بعد انطلاق الثورة السورية عام 2011م.

وبحسب تقديرات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة ((UNHCR في العام 2018، قُدِّر عددُ اللاجئين إلى خارج سوريا بنحو 5.6 مليون لاجئ. ومع مرورِ الوقتِ تزايد عددُ اللاجئين السوريين، وبالطبع زادت حصةُ تركيا منهم، على ما يزيد على 3.7 مليون لاجئ، بحسب المديرية العامة للهجرة التركية، موزعين على مختلف الولايات والمدن التركية في العام 2021، يُستثنى منهم من استمر بالعيش في المخيمات، وإنِ انخفضت نسبتُهم من 10% في نهاية عام 2015، إلى 1.4% في عام 2021، حسب إحصائيات جمعية اللاجئين.1

لم تعدْ قضيةُ اللجوء قضيةً صغيرة، بل باتتِ اليوم على رأس أولويات الدول، ولقد صدرت عدةُ كتب خلال عامين 2016 و2017 تتحدث عن هذه الظاهرة، وأنَّها باتت إحدى المشكلتين الرئيستين في العالم، نقصد بذلك مشكلتي اللجوء والمناخ، ومن أبرز تلك الكتب، كتابٌ أعدَّه الصحفي الألماني مارك إنجلهارت، باسم (ثورة اللاجئين)،2 وهو كتابٌ جمع فيه مقالاتٍ لمراسلين ألمان، يعرضون قصصًا لطالبي اللجوءِ الذين تمَّ احتجازُهم في مخيمات اللاجئين في العالم. تتحدث التقاريرُ عن معاناة اللاجئين وأحلامهم وطموحاتهم وقلقهم من المستقبل، وكذلك محاولاتهم للتكيّف مع البلدِ الذي استقروا فيه، أو لجؤوا إليه، والذين فقدوا أقاربهم، أو أصيبوا أثناء فرارهم. وليس غريبًا أن تتصدرَ الحكايةُ السورية مقدمة الكتاب؛ لأنَّها كانت أكثرَ القضايا سخونةً قبل الحرب الروسية على أوكرانيا.

وقد ظهرت دراساتٌ ومقالاتٌ تناولت أدب اللجوء بصفة عامة، واختارت بعضُها الحالة السورية من الناحية الاجتماعية، ولكنَّها لم تكن مخصصةً بأدب السوري اللاجئ في تركيا بشكل خاص. قُدّمت دراساتٌ ومقالاتٌ تناولتِ اللجوءَ بشكل عامٍّ، والحالةُ السوريةُ جزءٌ منها.3 وهناك دراساتٌ تناولتِ الحالة السورية بشكل عام في كل دول اللجوء.4 ودراسات أخرى تحدثت عن اللجوء ضمن سياقٍ محدَّد، وركزت على الرواية.5 وقسمٌ من هذه الدراسات تناول الرواية ضمن أطرٍ سياسية أو قوالب أخرى، مثل: أدب السجون الذي كتب في دول اللجوء،6 أو السرد المناهض الذي له امتدادٌ تاريخيٌّ قبل الثورة السورية.7 وبعضُ المقالات ناقشت جنسية الأدب، وتساءلت: هل هناك أدب لجوء؟8 وكانت أغلب الدراسات تتناول الرواية لكتّاب مشهورين في بلاد مختلفة، فكادت هذه الدراسات تكون مكررة، وإن تناولت العمل ذاته من زاوية مختلفة. وقد تناولت هذه الدراساتُ أعمالًا مختلفة في التوجهات، وتحدثت عن شخصيات تكاد تكون في مناطق متباعدة، فبعضُها تناول حالة اللجوء كمتفرج، وبعضُها كناقل، وبعضُها كمن عاشها.

وسنحاول الإجابة عن سؤال إشكالي: هل استطاع الأدب السوري في تركيا أن ينقل إلى القارئ صورة اللاجئ وحالته وهواجسه وأحلامه؟ وهل تمكّن الأدبُ -شعرًا أو نثرًا- من التعبير عن النشاط السوري والحالة السورية في بلد اللجوء تركيا؟

الأدب السوري اللاجئ في تركيا:

ربما السؤال الأبرز هو: هل ينطبق تعريف اللاجئ الذي وضعته الأمم المتحدة على السوري في تركيا؟ بمعنى إلى أي مدى ينطبق تعريف اللاجئ في الاتفاقية المعروفة باسم اتفاقية جنيف 1951، حيث تشير المادة 1 منه إلى أنَّ “اللاجئين هم الأشخاص الذين تعرضوا في وطنهم الأصلي أو البلد الذي كانوا يعيشون فيه في الفترة السابقة لمخاطر جدِّية، أو عانوا من الخوف الشديد لأسباب معينة، بسبب العرق أو الدين أو الجنسية أو الانتماء إلى فئة اجتماعية معينة أو الرأي السياسي”. أو ضمن تعريف قانون الأجانب والحماية الدولية التركي، الذي ينص على أنّ الشخص اللاجئ هو “الشخص الأجنبي الموجود خارج البلد الذي ينتمي إلى جنسيته، ولا يستطيع الاستفادة من الحماية التي يؤمنها هذا البلدُ، لأسباب محقة تتعلق بخوفه من تعرضه للظلم بسبب عرقه ودينه وانتمائه وانتسابه إلى مجموعة معينة، أو بسبب أفكاره السياسية، أو لا يرغب في الاستفادة من هذه الحماية بسبب هذا الخوف”.9

الخوض في التعريف ليس موضوعَ البحث، ولهذا كان عنوان الأدب السوري اللاجئ في تركيا، وليس أدب اللجوء السوري.

 يمكن تقسيم الأدب السوري بعد الثورة السورية، إلى أدبين، أدبِ ما قبل الثورة السورية، وأدبِ ما بعد الثورة. وهذا طبيعي نتيجة انكسار الجدار الأمني الرهيب والمحكم من قبل نظام استبدادي حكم الناس بالحديد والنار والإقصاء؛ فقد كان الأدب المنتشر والمسموح له قبل الثورة هو الأدب الموالي للنظام، سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا. وكون مساحة الحرية محدودة، لم تتح للأدب المناهض أن يخرج للعلن. وإن كان المثلث الشهير الممنوع الاقتراب منه (الدين والجنس والسياسة)، فإنَّ الجنس كان علامةً مميزةً للأدب، وخاصّة في الرواية والقصة، حيث هي المساحة التي يستطيع فيها الأديب أن يرسل رسائلَه المناهضةَ وتوقه للحرية وكراهيته للعنف والاستبداد.

ومع انطلاق الربيع العربي، ووصوله إلى سوريا، وقيام الثورة، كان الأدب هذه المرة مختلفًا، سواء في الشعر أو الرواية أو القصة، وحتى المسرح، والفنون التشكيلية، حيث واكب الثورةَ وما تبعها من مأساة العصر، من تشتت وقتل وقمع واعتقال وموت، في كلّ مظاهرها، من الرحيل واللجوء والمجازر، وعبّر عن حياة المشردين المعذبين في الخيام وعن تطلعاتهم للمستقبل؛ وكذلك فتح الدفاتر القديمة والتاريخ القديم، ونفض الغبار عن القيم والذكريات والأحداث التي حاول النظام طمسها أو دفنها.

وعلى ضوء واقع اللجوء، بدأ الأدباء السوريون في طرح همومهم وهواجسهم وأحلامهم وتصوراتهم في كل مكان لجؤوا إليه. ومن هؤلاء الأدباء أسماء كبيرة، ومنهم أسماء كانت مقيدة، ومنهم أسماء ظهرت لأول مرة.

الشعر:

الشعر ديوان العرب، وكان الشاعر في العصر القديم هو الرجل الإعلامي الأول، وهو السفير المفضل والجليس الذي لا غنى عنه، والشعر السوري جزءٌ من الشعر العربي الحديث الذي وُلد بعد عصر النهضة مع بدايات القرن التاسعَ عشرَ حتى اليوم، ومن أهمِّ خصائصِ الشعر الحديث تبلورُ شخصية الشاعر، فلم يعد يكتفي بالفخر والمدح والذم الشخصي؛ وإنَّما التوجه نحو العام لظهور اتّجاهاتٍ سياسية وقومية وإنسانية وإسلامية ووطنية واجتماعية.10 ويمكن أن نعُدَّ الشعر السوري في تركيا امتدادًا لهذا الشعر، إذ تناول الثورة واللجوء والخيام والأمل والقيم والتغني بالمجد السابق.

 من خلال متابعة الإصدارات في تركيا، نجد نوعين من الإصدارات، نوعًا يعتمد على طباعة دواوين لشعراءَ بنسخ محدودة وخاصة، ونوعًا يعمد على دور نشر عربية تأسست في إسطنبول، مثل دار موازييك التي تأسست عام 2019،11 ودار أنشأت فرعًا لها في تركيا مثل دار نون4 12، كما ظهرت إصداراتٌ جماعيةٌ برعاية منظمات، مثل منظمة الرواد التي أصدرت ثلاثة أجزاء تحت اسم حتى (آخر كلمة) جمعت أقلامًا من رحم الثورة. تضمن الجزء الأول 56 شاعرًا وشاعرة، استلهمت قصائدُهم روح الثورة، فمجدت الثورة والثوار، وأدانتِ الظلم والطغيان والاستبداد،13 وهذه ميزةٌ مهمةٌ للشاعر السوري، إذا تكلم بنفس واحد، وإن تعددتِ الأصوات، لغاية واحدة، ولهدف واحد، وهذا ما لا نجده في أماكن أخرى، حيث تشتت السوري فيها.

نختار من هذا الكتاب، قصيدةً للشاعر طالب سليمان الشنتوت، باسم المطالع، قدّم فيها صورًا جميلة بأحاسيس مرهفة رقيقة تنضح بالحنين والشوق للوطن، كما عبّر فيها عن تمسكِه بالقيم، وعن رؤيته للحل، مختتمًا إياها بالتفاؤل والأمل؛ مستعيرًا قميص يوسف ليعود إليه النور، فهو يحمل الشوق والأمل، حيث يقول:

فمِنْ ياسمينِ الشَّامِ هاتوا قميصَهُ … ليرتَدَّ نورٌ حجَّبَتْهُ المواجعُ

ويرى أنَّه لا حلَّ إلا بالعودة إلى الديار والتمسّك بالجذور التاريخية والقومية كوطن واحد، وأنَّ الطريق إلى ذلك مخضبة بالدماء والتضحيات، فيقول:

وإن أَبَدتِ الحَربُ الضروسُ نُيوبَها.. بَرزْنَا لها كالموجِ إذْ يَتدافعُ

مؤكدًا على الأخوة وعلى الوحدة العربية:

إذا ضَفَّرتْ بغدادُ عُرفَ فُراتِها … تَرَانا بساحاتِ الشَّآمِ نُبايعُ

وأنَّ السلاح الذي يملكه أمضى من كل سلاح، وهو سلاح القيم، فيقول:

مَآذِنُنا فوقَ البلادِ بَيارقٌ … وَأخلاقُنا قدْ هَذّبتها الجَوامِعُ

ويؤكد في نهاية القصيدة على عدالة قضيتنا، وأنَّها ستتحقق في النهاية، حيث يقول:

أَيا صبحُ قد طالَ البعادُ فَعُدْ لنا … فأنتَ كَفُلِّ الشَّامِ لا شكَّ رَائِعُ

طَوينَا جراحَ العُمرِ ثُرْنا، وَإِنّنا … عنِ الحقِّ في كُلِّ البلادِ نُدافِعُ14

كلُّ القصائد في هذا الكتاب تسير على ذات الاتجاه: تمجيد التاريخ، واعتزاز بالدولة الإسلامية، وعدالة قضيتنا، فالثورة ضد الظلم والقهر والاستعباد، والشعب سيصل إلى غايته، وإن طال الزمن وارتفع الثمن؛ فالحق يؤخذ عنوة، كما يقول الشاعر عمر كرنو في الكتاب ذاته، حيث يختم قصيدته:

لا يُؤخَذُ الحقُّ إلا عنوةً قسَمًا… باللهِ، لكن بُلينا نحنُ بالمحنِ15

 وعندما تناول الشعراء قضية اللجوء، نجد أن بعض الشعراء تناولها من زاوية الثائر، ففي قصيدة لاجئة للشاعر ناجي نعسان آغا، يحدثنا عن لاجئة حكت له ما جرى، وهي تشكو بثها إلى الله، حدثته عن بيتها، وكيف دمّر الطيران قريتها وفرق أهلها، وخيبتها ممن ظنت أنَّهم أهلها، وهدم الثلج خيمتها، وفقدت صغارها، ولكنّ إيمانَها بالله ما يزال كبيرًا:

البردُ جمَّدَ قلبَكمْ لكنَّني … رغمَ الجليدِ ورغمَ ما أضناني

إيمانُ قلبي لم يزلْ بثباتِهِ … أنَّ الكريمَ بعفوِهِ يرعاني16

وفي هذا الكتاب، نجد أنَّ السوري الشاعر، وهو في تركيا، كأنّه في سوريا، دعوته في المقام الأول، وفي طريقها ثائر، وهذه ميزةٌ أصليةٌ ومترسخةٌ عند الشاعر السوري، صحيح أنَّه يتحدث عن اللجوء والغربة والاغتراب والقلق، ولكنه لا يعدُّ نفسه لاجئًا بقدر كونه ثائرًا مدافعًا عن حق سيعود إليه.

وللإصدارات الفردية نصيبٌ كبير، حيث يبث الشاعر فيها همومه، ويحاول أن يرسم لنا بقصائده صورًا تجعلنا نعيش الحالة التي قصدها، مستخدمًا أغراض الشعر المعروفة من رثاء وحكمة وغزل.

ولعلنا بالاطلاع على عناوين الكتب أو القصائد نلمس ذلك بصورة أوضح، فالعتبة النصيَّةُ تسمح لك فورًا بالولوج إلى عالم الشاعر، فالشاعر مهند الدغيم، في طبعة خاصة لديوان له صدر في أورفا تحت عنوان (شعر من وحي الألم)،17 ينقل لنا في قصيدة (أم وشهيد) حالة الأم التي استشهد ولدها، فصراخها يهزُّه، ولكنَّه مثل الملاك مبشرًا بأنَّه حي يرزق، فهو اليوم عريس، ويحق له الفرح، لأن الألم فارقه، وهو في الخلود ينعم.

لا تَكْتَرِثْ

فاليَوْم عُرْسُكَ يَاْ بُنَيْ

 قَدْ قَاْلَهَاْ تَوًّا أَبُوكْ

لا تَكْتَرِثْ

لَوْ فِيْ دِمَاْئِكَ أرسلوكْ

 لا تَكْتَرِثْ لَمْ يَقْتُلُوكْ

 لا تَكْتَرِثْ

فاليَوْم فَاْرَقَكَ الأَلَمْ

واليَوْم عَرْشُكَ فيْ القِمَمْ.18

العيش في الخيام تجربة جديدة مؤلمة للسوري، وهو جزءٌ مهمٌّ في الأدب السوري في تركيا، ولا يكاد شاعرٌ مرّ هذه التجربة إلا وتحدث عنها، منهم الشاعر أحمد عبد الرحمن جنيدو، الذي ينقل لنا في قصيدة، تحت عنوان (في مخيم اللاجئين)، معاناة اللاجئ في المخيم، واصفًا لنا حياته، وكذلك شعوره، وخيبته، وطموحه، وأمله، ويؤرخ زمن كتابتها ومكانها، التي تعدُّ شاهدًا وجزءًا من القصيدة، كتبها بتاريخ 27-6-2013 في مخيم مابك ملاطيا.19

وللغربة نصيبٌ كبيرٌ في الشعر السوري، وهنا نختار مقطعًا من قصيد ة (غربة) للشاعرة السورية سميرة بدران، حيث تقول:

غُرْبَةٌ حَمقَاءُ تَتَلَبَّسُنِي..

تُعَشِّشُ في دَاخِلِي مِنْ قُرُونٍ..

 تَتَعَمْلَقُ في الرُّوحِ،

 وتُوغِلُ في لُعبَةِ مَدِّ جُذُورِهَا

 إلى عُمْقِ قَلبِي،

 لتُحِيطَنِي بقَلَقٍ مُستَمِرٍّ،20

وكذلك للاغتراب، حظٌّ في شعر سميرة بدران، حيث الشعور بالنفي والشوق للمدنية الأم يشغل الجزء الآخر من الشاعرة، حيث نختار من قصيدتها (على قيد المنفى) المقطع التالي:

بِئسَ الفَرَحُ المَغْزُولُ بلَعْنَةِ الغِيابِ ..!

مَن يُرخِي ظِلالَ العَدْلِ على رْوحِي،

 خَلْفَ جِدَارِ العَتْمَةِ..؟

 أتَشَتَّتُ كخَيطِ بَياضٍ في فَضَاءٍ مُتَّسِعٍ،

 حتَّى التَّلاشِي..21

 فلا لذة ولا متعة طالما أنت بعيد عن مسقط رأسه.

ما تقدم من شواهد لشعراء من مرحلة عمرية تجاوز سن الشباب، عاشوا مرحلة نظام الأسد الأب والابن، وكانوا على وعي تام بأحداث الثورة. وهنا السؤال يبرز السؤال الملحُّ: ماذا عن الشباب، ممن كان في مرحلة الطفولة واليافعة وبات اليوم شابًّا؟ أو من كان مراهقًا وبات اليوم ناضجًا؟ هل تختلف أحلامُهم وهواجسهم؟

 الجواب: نعم، وبلا شك، سنجد الشاب يحمل توجهاتٍ مختلفةً، ويواجه تحدياتٍ مختلفة، ولديه طموحاتٌ مختلفة، فهو يشعر بانكسار مختلف. فالربيع العربي كان خيبةَ أملٍ بالنسبة للشباب المتعطش للحرية؛ وهذا ما انعكس في كل البلاد العربية تقريبًا، سواء دخلت الربيع أو كانت تنتظر نتائجه. ففئة الشباب هي الأكثر تأثرًا، وهي التي دفعت القسم الأكبر من الفاتورة الباهظة، مع أنَّها هي القوة الضخمة غير المفعلة التي أُهملت من قبل الحكومات والمجتمعات العربية، وتمَّ إلهاؤها عن قضايا أمتها المصيرية، فعاشت أزمة هوية، وأزمة ثقافية، وشعرت بفقدان الانتماء الثقافي، وقلق وجودي حول المستقبل.22

 سنختار الشاعر حسين الضاهر، وقد أصدر كتابين في الشعر عام 2020 و2021. عن دار موزاييك التي تأسست في تركيا عام 2019، وهي الأكثر نشاطًا هذه الفترة، الكتاب الأول تحت (اسم مياه صالحة للقتل)23، والثاني تحت اسم (مشاهد يتلوها بدوي)24. يعكس فيهما بوضوح أزمة الشاب، التي يمكن أن نُضيف إليها مشكلة الفراغ، إضافة للاستغراب والفقد والسلب والخيبة وضياع الأفق، وهذا برأيي ليس كلّه سيِّئًا، فثمة نضج في طريقه للتبلور والمستقبل، حاملٌ ومبشرٌ رغم سوداوية المشهد.

يستفتح الشاعر حسين الضاهر كتابه الشعري (مياه صالحة للقتل) بنص يعنونه بالمؤلف معرِّفًا نفسه:

أنا حسين الضّاهر

الأكثرُ حُزنًا في حَيّنا

والوجعُ الوحيدُ  لأهلِي

 عُمري الآن لجوءان وبضع ذكرياتٍ تالفة…25

ثم يوضح حاله بأنه في المدرسة تعلّم الحزن، وفي البيت أدمن التلفاز المجبر على متابعة قناته الوحيدة، في المسجد تعلم إخفاء أحذية من السرقات، ولم يعد يذكر لون المركب الذي يركبه في الشارع، كانت أولى هجرته إلى بيروت فتعلم سرقة الصحف، ثم عاد، تزوج، ولجأ إلى تركيا بعد سيطرة داعش على بلدته. وهو اليوم أمام الحاسب يعالج أحرفًا خرساء.26

يصف لنا الشاعر لحظة اللجوء إلى تركيا أنَّها حلم، فهي طريق العبور إلى الفردوس، قائلًا:

طرقتُ أسلاكًا شائكةً منذ لا أذكر

فصرت قادرًا على الحزن بلغةٍ إضافيّة

 سيقول ابني:

 أنا اللاجئ

 وُلدت في طابور الإغاثة

 من لاجئٍ ابنِ ستّين…لاجئ

 يقول آخر:

لم أكن مريدًا للخوف عندما مشيت على الماء، بل كنت وليًّا على القهر

 قال المهرّب:

 اصمتوا وإلا هبطتم من الجنة27

يظهر الشاعر في كتابه الثاني أكثر نضجًا، لقد تجاوز مرحلة اللجوء، ومعاناة العبور، إلى تحديات العيش، وهنا يقدم لنا صورًا عن الخيبة والاغتراب والسلب والفقد ونضيف إليه صفة الفراغ، وهذه من أقسى التحديات، لذلك نلمح مفردة (الفراغ) كلمة سحرية تكرر كثيرًا في كتابه الثاني، فيقول في افتتاحية الكتاب:

لم أكتبْ لأحرّك الدهشة في حقل وجدانِك

 ولا لأسند جرّة الكون بحرف…

 لم تكن كلماتي خيطًا يرتق ثقب الأوزون

 ولا رصاصة تثقب صدر الطاغية…

 ببساطة

 أكتب لأصنع كدمات في وجه الفراغ.28

إذن هنا الشاعر يخرج /يهرب من ذاتيته البيولوجية، إن صح التعبير، من احتياجاته الشخصية، من سقف وطعام ودفءٍ، من تأمين سبل العيش والبطالة، إلى العالم الداخلي، فقد أدرك بأن رغبة الشباب في التغيير ليست بالسهولة، ولكن يثبت أنَّه موجود.

وعن العودة للوطن، نجده يعبّر بكلّ وضوح، أنَّ ذلك يعني الذهاب إلى المقصلة بإرادتك، حيث ينتظرك القمع والسجن والعذاب:

هل سترجع؟

 أنت النبي تحت سقوف بلدان العالم الأول

 لم تلبس الخوف

 اضرب بعصاك البحر

 واجعله شطرين كما في الأمنيات

 ومرّ

 ستجد

 كلَّ شيء ما زال في مكانه… ينتظرك

 حليب أمك

……………………

المصادر والهوامش:

  1. محمد سالم، الهجرة السورية إلى تركيا: أثيرات اقتصادية وارتدادات مجتمعية، مركز الحوار السوري، وحدة تحليل السياسات، 12 تشرين الأول 2022م.
  2. للمزيد من القصص يمكن مراجعة الكتاب:

Marc engelhardt(hrsg), DIE FLÜCHTLINGS REVOLUTIO wie die neue

 Völkerwanderung die ganze welt verandet, pantheon August2016.

  1. ماجد حاج حمود، أثر اللجوء في الأدب العربي المعاصر المأساة السورية أنموذجًا، جامعة شرناق، مجلة كلية الإلهيات الجلد 11 العدد 24، حزيران 2020.
  2. محمد السلوم، أدب اللجوء السوري الشتات والتعبير الأدبي، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 31 كانون الثاني/ يناير 2018.
  3. عبد القادر داود، أدب اللجوء في الرواية السورية الحديثة، مقالات، موقع رابطة علماء الشام، 29 ديسمبر، 2019.
  4. أدب السجون، مجلة رواق ميسلون، العددان السابع والثامن تشرين الثاني/ نوفمبر 2022.
  5. العدد الثامن من مجلة قلمون، ملف الرواية السورية، اكتشاف خرائط السرد المناهض، نيسان/ أبريل 2019.
  6. عارف حمزة، تقسيم جديد وغريب للأدب السوري، ضفة ثالثة، 20 نوفمبر 2019
  7. المادة 61 من قانون الأجانب والحماية الدولية التركي.
  8. نعمات أحمد فؤاد، خصائص الشعر الحديث، دار الفكر العربي، بيروت، عام 1980.
  9. دار موزاييك للدراسات والنشر تأسست عام، 2019.
  10. دار 4 للنشر والطباعة، مركزها الأساسي في حلب، افتتحت فرعًا لها في مدينة غازي عنتاب عام 2014 حيث استقر صاحبُها في المدينة.
  11. حتى آخر كلمة، الجزء الأول، أقلام من رحم الثورة، مجموعة من الشعراء، نون 4، غازي عنتاب 2019، برعاية منظمة الرواد.
  12. المرجع 13، الصفحة 54-55.
  13. المرجع 13، الصفحة 81.
  14. المرجع 13، الصفحة 100.
  15. مهند الدغيم، شعر من وحي الألم، ديوان شعر، طبعة خاصة أورفا 2017.
  16. المرجع 17، الصفحة 47.
  17. أحمد عبد الرحمن جنيدو، وطن للحقيقة والموت، شعر، دار الإسلام للطباعة والنشر.
  18. سميرة بدران، مزامير متمردة، شعر، نون 4 للنشر، غازي عنتاب، 2014 صفحة 27.
  19. المرجع 20 الصفحة62.
  20. يحيى السيد عمر، الشباب العربي (أزمة هوية) و(مستقبل مهدد)، دار أصالة للنشر والتوزيع، إسطنبول، طبعة ثانية، 2021.
  21. حسين الضاهر، مياه صالحة للقتل، شعر، دار موزاييك للنشر، إسطنبول، 2020.
  22. حسين الضاهر، مشاهد يتلوها بدوي، شعر، دار موزاييك للنشر، إسطنبول، 2021.
  23. المرجع 23 صفحة 9.
  24. المرجع 23 الصفحة 10.
  25. المرجع 23 الصفحة 17.
  26. المرجع 24، الصفحة 7.
  27. المرجع 24، الصفحة 22.
  28. المرجع 24، الصفحة 28و29.
  29. تمَّ الحصول على المعلومات وفق جدول مرسل من قبل الدارين يوضح فيه مجموعات إصداراتهما.
  30. أيمن الناصر، لوجين، رواية، طبعة خاصة، 2019.
  31. محمود الوهب، قبل الميلاد، رواية، دار نون 4، عينتاب، 2016.
  32. قصي قويدر، الخبز الأحمر، رواية، دار نون 4 عينتاب، 2016.
  33. أغفل البحث التطرق إلى أعمال كتبت وطبعت في تركيا، ولكنها كانت تتحدث عن التاريخ السوري ما قبل الثورة وإعادة تشكيله وفق رؤيته، يمكن للراغب الاطلاع على روايات أديب يوسف الملحمة الوسطى والملحمة الصغرى من إصدارات نون 4 عامي 2017 و2018.
  34. فوز الفارس، أبناء الوحشة، رواية، موازييك للنشر 2019، إسطنبول.
  35. المرجع 36 الصفحة 193.
  36. محمد جمال طحان، غيابات الجب، مؤسسة الأمة للنشر والتوزيع، مصر 2020.
  37. المرجع 38، الصفحة 15.
  38. المرجع 38، الصفحات (501-526).
  39. ابتسام شاكوش، بين الخيام، قصصن دار نون4 عنتاب،2016.
  40. المرجع 41، الصفحة 6.
  41. المرجع 41، الصفحة 62.
  42. المرجع 41، الصفحة 30.
  43. المرجع 41، الصفحة 36.
  44. مصطفى تاج الدين موسى، ساعدونا على التخلص من الشعراء، قصص، دار نون 4، عينتاب، 2019.
  45. المرجع 46، الصفحات 7- 8.
  46. المرجع 46، الصفحة 27.
  47. المرجع 46، الصفحة30.
  48. انظر موقع مرعش بوصلة

 Türk ve Suriyeli Şairler Kahramanmaraş’ta Bir Araya Geldi. https://www.maraspusula.com/turk

  1. كان في عنتاب في نهاية عام 2015، عشرة منتديات ثقافية تقريبًا، نذكر منها:

 المنتدى الثقافي لمنظمة منبر الشام، والمنتدى الثقافي السوري في غازي عنتاب في دار نون 4 للنشر. ومركز السلام الثقافي، ومكتب حزب وعد الثقافي، ومكتب تيار وعد الثقافي، ونادي منظمة بردى الثقافي العائد للاتحاد الديمقراطيين، وبيتنا سوريا، وغيرهم. اجتمع ممثلون مع بعضهم، وكنت حاضرًا عن منظمة منبر الشام في دار نون 4 لتنظيم الندوات.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

* كاتب سوري

المصدر: رؤية تركية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.