محمد عبد الشفيع عيسى *
تواجه بلادنا ومثلها كثير في العالم النامي، ظروفاً نمطية وإن كانت تبدو للناظر من بعيد، غير مسبوقة. هي ظروف العُسر المالي الشديد، في بيئة دولية قلقة، مسكونة بعدم اليقين العميق.
وليس ما تواجهه بلادنا بجديد، بل هو قديم، وقديم جداً، بصفة نسبية بالطبع، عبر الزمن، فهو يعود إلى نصف قرن تقريباً وزيادة، ذلك منذ منتصف سبعينيات القرن المنصرم إلى حدٍ بعيد. حينذاك كانت «الحرب العالمية الثانية» قد وضعت أوزارها منذ زمن، على وقع تغيرات سبقتها وأخرى لحقتها، وكان لها آثار غير مسبوقة على الصّعُد الداخلية والخارجية لمختلف الوحدات الأساسية في النظام العالمي. ولقد سبقتها قبل ذلك بكثير أزمة اقتصادية طاحنة، ذات طابع كسادي وانكماش عميق (1929ــ1933)، اتسمت بركود غير مسبوق إلى حد كبير، ناتج عن انخفاض مستويات الطلب بفعل تدنيّ مستويات الدخول والإنفاق، في خضم تذبذبات وانهيارات في أسواق المال والنقد والسلع على كافة المستويات.
ولما قامت تلك الحرب كانت زيادة الإنفاق العسكري مهمازاً قوياً لاستمرارية النشاط الحربي، والنشاط الاقتصادي عموماً.
كانت سياسة مواجهة أزمة الكساد العالمي الكبير، قد اكتست ثوباً بالغ الخصوصية، من خلال تعظيم الإنفاق العام، والسياسات المالية النشطة، والسياسة النقدية القائمة على الموازنة الدقيقة للسيولة.
فلمّا أن تقشّعَ غبار الحرب العالمية الثانية، ظلت السياسات المالية والنقدية على حالها تقريباً، من نزعة «توسعية» أو «إنعاشية»، قائمة على مهماز الإنفاق العام والسيولة النقدية. تلك سميت، نسبة للمفكر الفذّ الذي بذل جهداً علمياً راقياً في بلورتها (جون ماينارد كينز)، بالسياسة «الكينزية»، أو ذات الطابع «الكينزي» ثم «بعد الكينزي».
هكذا دخلت أوروبا بالذات، والولايات المتحدة الأمريكية من قبلها، في خضم لون جديد من ألوان السياسة الاقتصادية، قائمة على التوسع في الإنفاق، خاصة الإنفاق الاجتماعي، فيما أطلق عليه «سياسات دولة الرفاهة WelfareــState».
تلك كانت سمة العصر الجديد، الذي قدّر له أن يغطي ثلاثة عقود زمنية تقريباً (من منتصف الأربعينيات إلى منتصف السبعينيات من القرن المنصرم). ولكن ما أن انتصف العقد السبعيني العتيد، حتى برزت موجة جديدة، لعلها غير مسبوقة خلال أمد زمني طويل، من موجات «الدورات الاقتصادية» التي درجت غالباً على أن تكون إما دورة تضخم وإما دورة ركود، وسميت الموجة الجديدة تلك اسماً هجيناً، يجمع بين حدّين متناقضين، فإذا هي أزمة «التضخم الركودي» أو «الركود التضخمي stagflation». كانت هذه الموجة نتاجاً مباشراً للأزمة المصاحبة لفورة أسعار النفط بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، ومن ثم ارتفاع تكاليف الطاقة، وتعاظم مستويات الدين العام للدول الفقيرة ومتوسطة الدخل بالذات.
* * *
تلفّت صانعو السياسة الاقتصادية في دول المركز الرأسمالي الغربي بالذات، وخاصة بعد انفجار أزمة الدين العالمي، ومن ثم عدم القدرة على السداد، من جانب بعض أكبر المدينين في العالم (المكسيك) فارتأوا الاستدارة استدارة كاملة، على أعقابهم، بالتحول من النقيض إلى النقيض من سياسات «دولة الرفاهة» إلى سياسات «التقشف Austerity». وذلك ما كان حيث تم اعتماد أعمدة جديدة للسياسات الاقتصادية، واعتماد «وكيل» أو «فاعل» جديد للسياسة الاقتصادية على المستوى العالمي، وكان ذلك هو «صندوق النقد الدولي»، وإذا بهذا الفاعل الجديد وليد اتفاقات «بريتون وودز» لعام 1944 المستهدِف تحقيق توازنات أسواق المدفوعات والصرف على قاعدة الدولار القابل للتحول إلى ذهب، يتحول (بقدرة قادر) إلى وكيل عن العالم المركزي الغنّي، لتنظيم أسواق المال والنقد العالمية، بغية السعي إلى «التوازن» عند مستوى التقشف المنشود.
كانت تلك سياسة جديدة، أُطلق عليها، السياسة «الإرثوذكسية» (التقليدية) حيناً، ولكن تسميتها بالليبرالية الجديدة كان هو الأكثر شيوعاً. ليست ليبرالية قديمة من الطراز السائد في القرن التاسع عشر، ولكنها جديدة قوامها عودة- وإن تكن غير حميدة- إلى «تقديس» من نوع معين لفاعلية آلية السوق الحرة: العرض والطلب، والدور المحوري، شبه الوحيد، لاقتصاد المشروع الخاص، فيما أطلق عليه من بعد مسمى «الخصخصة» إلى جانب سياسات اقتصادية مساندة قوامها جناحان: خفض الإنفاق العام، لا سيما الاجتماعي، وخفض قيمة العملة المحلية إزاء العملات القوية.
وكان ما كان، أن دخلت البلدان النامية عموماً، في جُبّ الركود، العميق أو غير العميق، تحت وطأة أزمة الاستدانة العالية، وارتفاع تكاليف الطاقة والإنتاج، وكان من بينها مصر العربية، الذي قُدر لها أن تدخل «الأزمة الاقتصادية العالمية» لعقد الثمانينيات (من أوسع أبوابها)، وأن تلجأ إلى «المنقذ» «الموكل» من العالم المركزي بإدارة اقتصادات البلدان الفقيرة والمدينة، وهو «صندوق النقد الدولي»، وربيبه «البنك الدولي».
حينذاك، وقعت مصر في أيار/ مايو 1991 أول اتفاق مع «الصندوق» لتحقيق ما يسمى بـ«الاستقرار أو التثبيت Stabilization» أو «إعادة الهيكلة» باتجاه إضفاء ما يشبه طابع القداسة على «التقشف» والدور المركزي للقطاع الخاص، وتقليص دور الحكومة، وخفض العملة المحلية في أتون سياسات الصرف.
* * *
ظل الحال على هذا المنوال، في مصر وغير مصر، في عموم القارات الثلاثة لأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ربما باستثناء شطر مهم من منطقة «شرق آسيا»، حتى أصبحت «الليبرالية الجديدة» بمثابة العقيدة الاقتصادية الجديدة التي لا تدانيها عقيدة أخرى.
على هذا النسق، سرت السياسات الاقتصادية «الليبرالية الجديدة» مسرى الروح في الجسد العليل، تحت وطأة اللجوء إلى الاستدانة ثم المزيد من الاستدانة، لتغطية فجوات التمويل العام غير القابل للتغطية بالموارد المحلية.
وكان «صندوق النقد الدولي» خير وكيل للسياسات «الليبرالية» باعتباره «البوابة الملكية» لعبور المحيط نحو «توافق واشنطن Washington Consensus» المكون من ثلاثي الصندوق والبنك والإدارة الأمريكية الممثلة في «مجلس الاحتياطي الفيدرالي».
وارتبط، كما هو معلوم، شلال الديّن الخارجي المجلوب بتنفيذ برامج لإعادة التكيف والهيكلة سميت SAP Structural Adjustment Program هدفها الوحيد تقريباً تحقيق «الانضباط المالي» أي توازن الموازنات العامة وميزانية النقد الأجنبي، انطلاقاً من روح «التقشف» العتيد.
وأما مهماز «الانضباط المالي» على النحو المذكور، فهو ما يعتبر بمثابة السياسة «النقدية التشديدية» أو «التقييدية» القائمة على خفض قيمة العملة المحلية، من جهة أولى، ورفع أسعار الفائدة، من جهة ثانية تحت لواء «استهداف التضخم». ذلك ما اعتمدته جمهورية مصر العربية، على سبيل المثال أو على سبيل التخصيص، لا سيما بعد 2018. وهذا ما تجلى خلال السنوات الأخيرة، مع التوسع في إصدار السندات الدولية، وتعاظم الدين العام المحلي، وارتفاع غير مسبوق في حصة خدمة الدين العام المحلي من إجمالي الإنفاق الكلي المحلي.
وقد استمر التغلغل المستمر للسياسات «الصندوقية» المدعومة ببرامج «التكيف»، مع تعمق السياسات القائمة على مزدوجة «الانضباط المالي» من خلال التقشف والتشديد النقدي من خلال رفع أسعار الفائدة (لامتصاص السيولة وتعقيم النقود وتكميش الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري معاً) عائلياً كان أم حكومياً. وقد بدا من خلال ذلك أن «الانضباط والتشديد» يؤديان- ربما- إلى مزيد من تعميق أزمات الاقتصاد الكلي بدلاً من حلها.
وبذلك يبدو لنا أنه من الضروري إحداث تغيير جذري في التوجه العام للسياسة الاقتصادية الكلية في مصر، وغيرها من أمثالها، بالتركيز على التوسع في الإنفاق على البنية الاستثمارية المنتجة، وعلى الاستهلاك الأساسي.
وإنه بدلاً من التوسع في الاستدانة الخارجية والدين العام المحلى، يكون الأنسب تشجيع الإنفاق العام والخاص على توسيع الطاقات الإنتاجية، الزراعية والخدمية، جنباً إلى جنب «التعميق الصناعي Industrial Deepening» وتحقيق المرونة في سلاسل التوريد، وتعميق سياسة «إحلال الواردات» مع التوسع الانتقائي في الصادرات.
ذلك إذن ما ندعو إليه اليوم بالصوت العالي: ليس الانضباط المالي في حد ذاته، ولكن الإنعاش والتوسع، وليس التقييد بمجرد رفع أسعار الفائدة، وخفض سعر الصرف، ولكن التوصل إلى مستوى متناسب ومعقول للفائدة وللعملة المحلية. كل ذلك، استهدافاً، ليس للتضخم في حد ذاته، ولكن استهداف احتمالات الركود المتأصل، النابع من ضيق قاعدة الناتج المحلى الإجمالي، والطاقات الإنتاجية المحلية، سعياً إذن إلى التدرج في طريق الرفاهة العامة، وتنويع هيكل الإنتاج، علمياً وتصنيعّياً.
من ثم يكون الطريق المُفضي إلى التنمية الحقة، هو طريق التوسع وليس الانكماش، وهو المرونة، وليس مجرد الانضباط، وهو توسيع مجالات الحركة، وليس مجرد «التشديد التقييدي العقيم».
* أستاذ باحث مصري في اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية
المصدر: الشروق