بشير البكر *
يتابع الكاتب “تيسير خلف”، التنقيب في تاريخ العالم العربي، وعلى نحو خاص بلاد الشام، ولا يكتفي بالبحث الذي يقوم به المؤرخ التقليدي، بل يعطي للمادة التاريخية حياة جديدة من خلال وضعها ضمن سياق معاصر، عن طريق نفض الغبار عنها، وربط مفاصلها لتأخذ موقعها في دفتي كتاب أو رواية، كما هو الحال في رواية “ملك اللصوص“، التي عالج فيها ثورة العبيد السوريين في صقلية في بدايات القرن الميلادي الأول. وكلما تقدم “خلف” في البحث، أخذ عمله طابع التعدّد بين الدراسة التاريخية وقراءة التاريخ، وبين تحويل الحدث التاريخي إلى نص أدبي.
وضمن محاولات إعادة تقديم التاريخ العربي برؤية جديدة، يأتي كتابه الجديد “ملكات عربيات قبل الإسلام“، الذي يتنقل فيه بين ملكات المصادر التاريخية، وبين ملكات النقوش والعملات. ويستهل الكتاب بتقديم ملكة معروفة تناولتها العديد من الأعمال المسرحية، وهي السورية ابنة محافظة حمص “جوليا دومنا“، التي حصلت على اللقب الامبراطوري في روما، بعد زواجها من الامبراطور الليبي الفينيقي “سبتيموس سيفيروس” الذي حكم روما من العام 193 ميلادي حتى العام 211. ويتعرف القارئ من خلال الكتاب على المكانة الكبيرة لهذه السيدة المولودة في حمص من أسرة عربية، فجدها “شمسي جرم” كان ملك حمص. وهي من قبيلة “الحمسيين” التي حكمت حمص في ذلك الوقت، وحصلت العائلة على المواطنة الرومانية عن طريق الإمبراطور يوليوس قيصر، واسمها دومنا يعني السواد وهو لون الحجر المقدس في حمص.
بقيت جوليا دومنا في سدة الحكم والقرار طيلة حياة زوجها الإمبراطور سيفيروس، ومن بعده وريثه ابنها الإمبراطور “كركلا” الذي حكم روما بعد وفاة والده، وذلك بين العامين 211 و217، وكان لها دور في مساعدة نجلها على قيادة شؤون الإمبراطورية، وعندما توفيت قهراً لمقتل ابنها كركلا، تمكنت من بعدها شقيقتها “جوليا ميسا” أي المياسة من حكم روما.
وكما يقدم الكاتب صورة وافية عما يسميه الإمبراطورات الحمصيات، “جوليا دومنا” وشقيقتها “جوليا ميسا” وابنتيها “جوليا سحيمية” و”جوليا مامايا“، يتناول في الباب نفسه تاريخ سيدة عربية أخرى حكمت الجزء المشرقي والعربي من الإمبراطورية الرومانية وهي “زنوبيا” ملكة تدمر التي اتسمت سنوات حكمها بـ”ازدهار للفكر والفلسفة والتسامح”، وذلك رغم اختلاف مؤرخي الروايات من حولها، بين من رأى فيها امرأة ذات مواهب قيادية ومقاتلة، ومن اعتبرها ساذجة مُغرراً بها. لكن الغالب هو الرواية الأولى بالنظر إلى ولادتها العام 240 داخل أسرة من النبلاء بدليل أنها كانت تحتفظ بلقب “سبتيما” في اسمها اليوناني، أما اسمها التدمري فهو: “بت زباي” كما كُتب على النقوش، وعُرفت عربياً بالزباء. وتقول غالبية المصادر أنها من قبيلة العماليق واسم والدها عمر بن الضرب، وزوجها هو القائد العربي “أذينة بن خيران بن وهب اللات التدمري” الذي انتصر على ملك الفرس شابور وأقام مملكة امتدت من البحر الأسود الى حدود فلسطين. ومهما يكن فقد استلهم الفنانون سيرتها منذ عصر النهضة، وقدموا قصتها كملكة عربية سورية تحدت الرومان، وفي القرن التاسع عشر حازت على اهتمام في العالم العربي.
ويضم القسم الأول، سيدة ثالثة هي “ماوية“، بينما يأتي الكاتب في القسم الثاني على تفاصيل ملكات العرب- ملكات قيدار، ملكات الخليج– ملكات عمانا، وملكات الأنباط، ويختتم بباب ملكات من الجزيرة العربية، وهن الملكة يافا، والملكة باسلو، والملكة آصف، وهن غير معروفات على غرار الملكة ملك حلك السبئية ملكة حضرموت.
يميل “خلف” إلى رأي بعض البحاثة في العصر الحديث، الذين يعزون إلى النظام الأمومي ظاهرة بروز نساء عربيات في حقب تاريخية بعيدة، ووصولهن إلى مراتب عليا في الحكم. ويعد هؤلاء البحاثة أن النظام الأمومي الموروث من الحضارات التي سادت في الشرق القديم، هو السبب في حيازة المرأة العربية هذه المكانة، ويمكن ملاحظة هذه الفرضية بقوة في حالة جوليا دومنا، التي نشأت ضمن عائلة تعطي للمرأة سلطة، ولذلك حين تزوجت شاركت زوجها الامبراطور سيفيروس حروبه، وكانت تنتقل معه في ميادين القتال. وما يؤكد قوة شخصيتها اهتمامها بالسياسة والتشريع، ولذلك حملت ألقاباً مثل “أم مجلس الشيوخ:، “أم المعسكر”، و”أم الوطن”، ويسجل لها المؤرخون اهتمامها بالفكر والفلسفة، واعتُبرت راعية الفلاسفة والأدباء، ولديها منتدى يلتقي فيه عدد كبير من أدباء ذلك العصر. وتعد فيلسوفة تقدر النشاط الخطابي وتشجعه، وتركز بشكل خاص على الأسلوب الأدبي الرفيع حسب الفيلسوف فيلوستراتوس، ومن أبرز اهتماماتها الدفاع عن السفسطائيين، ضد الانتقادات التي كانوا يتعرضون لها، ومنها انتقادات الفيلسوف الساخر بلوتارخ.
يتمتع عمل “خلف” على التاريخ، قبل كل شيء، بالدقة، فهو يجري عادة عملية توثيق وتدقيق للمعلومات، التي تكون موجودة ومبعثرة في مراجع ومصادر بلغات مختلفة. وهو يعتمد بشكل رئيسي على الوثائق والآثار، ولا يعتمد على مصادر الإخباريين العرب، نظراً للأوهام الكثيرة التي تنطوي عليها تلك المصادر، ولأن الغاية الأساسية من كتابتها أدبية، وليست تأريخية، وتجاوز في الوقت ذاته المصادر الدينية مثل التوراة التي لا تعد مصدراً تاريخياً، وهذا ما ساعده على تجاوز الحديث عن الشخصيات ذات الطابع الديني، مثل ملكة سبأ أو بلقيس كما تسميها المصادر العربية. والميزة الثانية أن بعض أعماله يأخذ طابع الكشف والسبق التوثيقي، من ذلك كتابه عن المسرحي السوري أبي خليل القباني، ورحلته إلى أميركا في نهاية القرن التاسع عشر، وعرض بعض مسرحياته هناك، وهو الأمر الذي لم يكن معروفاً لأن تاريخ رائد المسرح العربي لم يخضع لدراسة منهجية جادة من قبل الهيئات المعنية، وينسحب الأمر على كتابه “نشأة المسرح في بلاد الشام“.
ورغم أن ما يقوم به هو جهد فردي لا يحظى بالدعم أو الرعاية من قبل الجهات المعنية، فإن أعماله ذات قيمة خاصة، لما تشكله من إضاءات على صفحات مجهولة من التاريخ العربي من جهة، ومن جهة أخرى التوصل إلى استنتاجات مهمة كالذي يخرج به كتاب “ملكات عربيات قبل الإسلام“، وهو إن دخول العرب في التركيبة الإثنية الرومانية كان له أكبر الأثر في تغيير طبيعة تلك الإمبراطورية التي كانت منتشرة في مساحات واسعة من البحر المتوسط وأوروبا، وتحويلها إلى كيان عابر للثقافات، وهذه مسألة تحتاج إلى دراسات معمقة لا تنهض بها سوى مراكز الأبحاث المتخصصة.
* شاعر وصحافي سوري
المصدر: المدن