نبيل الخوري *
يكثُر الحديث عن سباق التسلّح في العالم. لا يمر يوم من دون ورود نبأ أو تقرير أو دراسة ذات صلة بالإنفاق العسكري لهذه الدولة وتلك، لمواجهة التحديات الأمنية. كل مبادرة تقوم بها دولة ما لتطوير ترسانتها تُقابَل بخطوة مماثلة من دولة أخرى منافسة. وهكذا يدخل الجميع في مسار يعرّفه الأكاديمي البريطاني، لويس فراي ريتشاردسون (Lewis Fry Richardson)، منذ خمسينيات القرن الماضي، بمسار “الفعل – ردّ الفعل”. يتعلق الأمر بـ”معضلة الدفاع”. لحماية أمنها وضمانه، تعزّز الدولة إمكاناتها العسكرية، فتحذو حذوها دولة أخرى، كردّ فعل، خشيةَ أن تتفوق الأولى عليها وتستغل ضعفها. إلى أين سيقود هذا المسار اليوم، في ظلّ ارتفاع حدّة التوترات الدولية، على وقع الحرب الروسية ضد أوكرانيا وحالة عدم اليقين في منطقة بحر الصين، جنوب شرق آسيا، وشبه الجزيرة الكورية والشرق الأوسط؟ هل يساهم سباق التسلّح في اندلاع حربٍ عالميةٍ ثالثة مدمّرة؟ أم أن الردع المتبادل سيضمن سلاماً مؤقتاً بانتظار إعادة صياغة نظامٍ دوليٍّ جديدٍ متوازنٍ ومستقر؟
لا يمكن حسم الإجابة. الفرضيات متعدّدة. والدروس المستخلصة من التجارب السابقة لا تشبه بعضها. وحدهم صنّاع القرار، من موسكو إلى واشنطن وبكين…، من يتحكّم بمفتاح اللعبة؛ مفتاح الحرب أو السلام في الكوكب.
ليست الأمم المتحدة قادرة على التأثير، هي التي تهدف أساساً إلى استبعاد الحرب أداة للسياسة الخارجية للدول. حاول الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، إطلاق دينامية جديّة لنزع السلاح، عدما اقترح، في مايو/ أيار 2018، برنامجاً شاملاً يتمحور حول “ثلاث أولويات”: “القضاء على أسلحة الدمار الشامل، النووية والكيميائية والبيولوجية؛ الحدّ من تأثير الأسلحة التقليدية والتخفيف منها؛ نزع السلاح من أجل حماية الأجيال القادمة”. من أبرز دوافعه أن “نزع السلاح يمنع وينهي العنف” ويساعد “في الوقاية من الصراعات المسلّحة، وفي التخفيف من وقعها عندما تندلع”، ويدعم التنمية المستدامة”. لم يكن في وسع غوتيريس الجلوس مكتوف الأيدي أمام تزايد “الإنفاق العسكري على المستوى العالمي”، واشتداد “المنافسة في مجال التسلح” وعودة بروز توترات الحرب الباردة في عالمٍ يزداد تعقيداً، كما يقول في مقدّمة البرنامج.
من واجب الأمم المتحدة أن تبذل مسعىً كهذا. ومن غير المعقول أن تأتي نتائجه مخيّبة للآمال. لكن حصيلة مسار نزع التسلّح، منذ ما قبل 2018، غير مطمئنة. صحيح أن الوقائع قد لا تدفع إلى المبالغة في تقدير حجم خطر اندلاع حربٍ عالمية، لكنها لا تسمح بالتقليل من شأنه أيضاً.
مؤشّرات لا يمكن تجاهلها:
ثمّة مؤشّرات عدة تستدعي التعامل مع مخاطر سباق التسلح بجدّية. مثلاً، في أغسطس/ آب 2018، عبّرت واشنطن عن مخاوفها من محاولة موسكو امتلاك “أسلحةٍ فضائية جديدة” من طراز “نظام ليزر محمول”، مخصّص “لتدمير الأقمار الصناعية في الفضاء”. في أغسطس/ آب 2019، انسحبت واشنطن من “معاهدة الصواريخ النووية متوسّطة المدى” التي وقعتها مع موسكو في العام 1987، تحت ذريعة أن روسيا لا تلتزم بها. في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، انسحبت واشنطن رسمياً من معاهدة “الأجواء المفتوحة” الدفاعية، المبرمة بين روسيا والولايات المتحدة، إضافة إلى 32 دولة أخرى، سنة 1992، والتي تتيح لجيش أيٍّ من هذه الدول تنفيذ عددٍ محدّدٍ من رحلات استطلاعية غير قتالية وغير مسلّحة في أجواء دولة أخرى، موقعة على المعاهدة. تتمثل وظيفة المعاهدة في ضمان عمليات التحكّم المتبادل والشفافية بين الدول في مجال الدفاع والتسلّح، ما يساعد على بناء الثقة المتبادلة بين الدول المتنافسة والتقليل من مخاطر اندلاع صراعات مسلحة. أما الحجّة الأميركية فتمثلت في أن موسكو لم تحترم التزاماتها بموجب هذه المعاهدة (…).
تعطي مؤشّرات العام 2023 انطباعاً بأن العالم ينزلق تدريجياً نحو مغامرةٍ مرعبة. في شباط/ فبراير، انسحبت موسكو من معاهدة “نيو ستارت”، الموقّعة مع واشنطن سنة 2011، والتي يطلق عليها اسم “تدابير زيادة تخفيض الأسلحة الهجومية الاستراتيجية والحدّ منها”، وذلك لتقليص عدد “الرؤوس الحربية النووية الإستراتيجية” التي يمكن لكل من روسيا والولايات المتحدة نشرها. وفي النصف الأول من مايو/ أيار 2023، أعلنت روسيا انسحابها من “معاهدة القوات التقليدية في أوروبا”، الموقّعة سنة 1990، والتي تُلزم روسيا والدول الأطلسية بتقليص انتشار الأسلحة التقليدية والقوات العسكرية في أوروبا، بما يساهم في خفض التوتر وتراجع احتمال نشوب مواجهة مسلحة. في المقابل، في منتصف مايو/ أيار، كشفت واشنطن عما تنشره من ترسانة إستراتيجية للردع النووي، في إطار التزامها المستمرّ بمعاهدة “نيو ستارت” وواجب الشفافية. لكن الأرقام أظهرت أنها، وحتى مطلع شهر مارس/ آذار الماضي، “كانت تنشر ما مجموعه 662 صاروخاً باليستياً عابراً للقارّات”، وآليات “مزودة بـ1419 رأساً نووية و800 قاذفة”. أما منذ الأول من يونيو/ حزيران 2023، فقد أوقفت واشنطن “مشاركة بيانات القياس عن بُعد مع روسيا بشأن عمليات إطلاق الصواريخ الباليستية من الغوّاصات”، أي لن تُعْلِم موسكو بمواقع الصواريخ والقاذفات، في ردٍّ على ما اعتبره انتهاكات روسيا معاهدة ستارت الجديدة.
تزايد الإنفاق العسكري العالمي:
يتعلق الأمر إذاً بمؤشرات حول تصعيد متبادل بين قوتين نوويتين، ليست الصين وأوروبا بمنأى عنه أيضاً. بدلاً من تقليص التسلح، دخل الجميع في دوامة الاستعداد لاحتمال الحرب. وما المعطيات عن الإنفاق العسكري الدولي الذي يسجل منذ ثلاث سنوات أعلى مستوى له منذ العام 1988، بحسب معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (سيبري)، سوى خير دليل على جدية التهديد. ذلك أن “مجموع الإنفاق العسكري العالمي زاد بنسبة 3,7% (…) في العام 2022، وبلغ مستوىً قياسياً من 2240 مليار دولار”، بحسب تقرير “معهد ستوكهولم” الصادر في أبريل/ نيسان 2023، مقابل 2113 مليار دولار سنة 2021، و1981 مليار دولار في 2020، كما تشير تقارير سابقة للمعهد، في أبريل/ نيسان 2022 و2021.
وفي التفاصيل، سجّلت دول أوروبا الغربية والوسطى قفزة كبيرة في إنفاقها الذي بلغ 345 مليار دولار سنة 2022. أما الإنفاق الروسي فارتفع بنسبة 9,2% تقريباً سنة 2022، ليبلغ 86,4 مليار دولار، مقابل 65,9 و61,7 مليار دولار، على التوالي في 2021 و2020. لكن الولايات المتحدة لا تزال تحتلّ موقع الدولة الأكثر إنفاقاً في المجال العسكري، بحسب “معهد ستوكهولم”. فقد أنفقت 877 مليار دولار سنة 2022، ما يعادل نسبة 39% من إجمالي النفقات العسكرية العالمية، وفي زيادة بسيطة عن قيمة إنفاقها سنة 2021، الذي تمثل بـ801 مليار دولار، في ارتفاع نسبي ملحوظ مقارنة بسنة 2020، إذ أنفقت حينها 778 مليار دولار. أما الصين فهي التي تحتل المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة، مع إنفاق يقدّر بـ292 مليار دولار سنة 2022، و293 مليار سنة 2021، في ارتفاع بنسبة 4,7% مقارنة بسنة 2020.
في سياق حرب أوكرانيا، تعود كل من اليابان وألمانيا بقوة إلى نادي سباق التسلّح، الذي تشكّل الهند والسعودية وإيران وغيرها من الدول جزءاً منه أيضاً. “الإنفاق العسكري لليابان بلغ 46 مليار دولار بين عامي 2021 و2022. وأطلقت الحكومة اليابانية استراتيجية جديدة للأمن القومي سنة 2022، لتطوير القدرات العسكرية ردّاً على ما تعتبره التهديدات المتزايدة من الصين وكوريا الشمالية وروسيا. أما الهند فأنفقت 81,4 مليار دولار سنة 2022، بحسب تقرير “معهد ستوكهولم” الذي يلاحظ أن ثمّة عودة إلى مستوى الإنفاق على التسلح خلال الحرب الباردة.
المقارنة مع الحرب الباردة: مقلقة ومطمئنة؟
تثير المقارنة هنا مع ذلك الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي القلق. وتذكّر، من جهة ثانية، بتجربة انتهت سلمياً في المحصلة. بدايةً، إنّ مصدر القلق يكمن في السلاح النووي الذي دخل كعنصر أساسي في توازن القوى. ما يُعْرَف بالعصر النووي الأول اتسم بمعادلة الردع النووي المتبادل. صحيح أن هناك تباينا في أوساط الباحثين في العلاقات الدولية بين من يرى “أن سباق التسلح سبب أساسي للحروب”، ومن يلاحظ في المقابل أنه “يمكن لسباق التسلح، في بعض السياقات، أن يمثل عامل استقرار”، كما ورد في كتاب شارل فيليب دافيد، الصادر في باريس سنة 2013. وهناك سجال عقيم يمكن تلخيصه، كما يذكر دافيد، من خلال استعارة: “من أولاً، البيضة أم الدجاجة”. بمعنى آخر، هل سباق التسلح سبب للحرب أم الحالات الصراعية والأزمات سببٌ لسباق التسلح؟ لكن دافيد يحاول حسم الجدل من خلال الحديث عن سيناريوهين محتملين للعبة سباق التسلّح: أولاً، إذا كانت الأجواء هادئة بين الدول، كما حصل بعد الحرب الباردة، يكون سباق التسلح “دفاعيا، وبالحدّ الأدنى ويساهم في الحدّ من العواقب المضرّة لمعضلة الدفاع”؛ ثانياً، إذا كانت العلاقات متوتّرة بين الدول، كما كان عليه الحال خلال الحرب الباردة وكما هو اليوم، تكون سمة هذا السباق “هجومية”، و”مصدراً لحالة من عدم الاستقرار والخطر”.
في المقابل، قد “تبشّر خيرا” المقارنة مع تجربة الحرب الباردة، لأن هناك إمكانية بأنْ يخلُص سباق التسلح اليوم إلى النتيجة نفسها التي انتهت إليها تلك المبارزة. أي استنزاف الاتحاد السوفييتي وعدم قدرته على تحمّل أعباء تكلفة سباق التسلّح، وصولاً إلى تفكّكه وتراجع المكانة الدولية لروسيا. هذا بالضبط ما يتوقعه، كفرضية اليوم، مدير “المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية”، توما غومار في كتاب له صادر في باريس سنة 2023. وهو يعتقد أن “برنامج التسلح الروسي تُوِّج في حرب أوكرانيا”. لكن بعد هذه الحرب، “قد لا تكون روسيا في وضعيةٍ تسمح لها بتطوير أسلحتها أو تصديرها والاستفادة من عائداتها، بسبب المنافسين الجدد (…)، وبسبب تشويه سمعة بعض السلاح الروسي (جرّاء سوء الأداء) خلال حرب أوكرانيا، وبسبب العقوبات التي ستحرم روسيا من تكنولوجيات متوفّرة في الغرب ولا بد منها لتطوير سلاحها”.
تساؤلات … وفرضيات أخرى:
لكن ماذا لو لم تثبت الأيام المقبلة صحة هذه الفرضية؟ وماذا عن الدول الصاعدة، دول “الجنوب العالمي”، التي توظّف مواردها الاقتصادية لتطوير قدراتها العسكرية، في تطوّر يساهم منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، بإعادة إثارة السجال حول نتائج سباق التسلح: “انتشار الأسلحة” في أيدي عدد كبير من جيوش ستضاعف من احتمال وقوع الحروب؟ ومن تواترها؟ سؤال يطرحه تشارلز كيغلي وأوجين ويتكوف في كتابهما “السياسة العالمية .. الاتجاهات والتحوّل” (World Politics. Trends and Transformation)، الصادر في نيويورك سنة 1997، معتبرَيْن أن “السؤال القديم عما إذا كان الاستحواذ على القوة العسكرية يقود إلى الحرب أم السلم، يكتسب مجدّداً أهمية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة”. الحروب التي عمّت ولا تزال تعمّ مناطق مختلفة من دول الجنوب تظهر دقّة هذا الاستشراف. ويعود السؤال المطروح ويكتسب أهمية مضاعفة اليوم، في ضوء ما يجري في شرق أوروبا وجنوب شرق آسيا.
لا يمكن الاكتفاء إذاً بالمقارنة مع نتائج الحرب الباردة للنوم على حرير. هذا ما تؤكّده تجارب سابقة غير مطمئنة في التاريخ. ألم يشكّل سباق التسلح عاملاً مساعداً على اندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية؟
سباق التسلح والحربان العالميّتان:
قبل العام 1914، اتسمت العلاقات الدولية بتشكّل “نظامٍ عسكري يشبك ما بين التعبئة والخطط الحربية، متمحوراً حول (فكرة) عمل عسكري سريع”. هكذا، “ساهمت جهود إعادة التسلح من القوى العظمى، بالإضافة إلى تشكيل الأحلاف والأحلاف المضادة، في إيجاد زخم أدّى (…) إلى جر قادة الدول الأوروبية إلى الحرب”، بحسب كيغلي وويتكوف. في الواقع، ومنذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، دخلت الدول الأوروبية في تنافسٍ متعدّد الأبعاد. وشكّلت “عمليات إعادة التسلح (…) ردّاً على مناخ دولي محموم، جرّاء عدد كبير من الأزمات الدبلوماسية والتحالفات الدفاعية” التي تكونت آنذاك، كما يروي الباحث ألان كواغلياريني (في كتابه “العلاقات الدولية 1870 – 1945” الصادر في باريس سنة 2013). ويشرح أن الدول الأوروبية، في ظل مسار من التوتّرات، لجأت إلى سياسة إعادة التسلح، استعداداً لصراع بدا وشيكاً، وذلك لكي تكون جاهزة بما فيه الكفاية في حال اندلعت الحرب. ويظهر أن ألمانيا كانت سبّاقة في إطلاق عجلة التسلح لبناء قوة بحرية منافسة للقوة البحرية البريطانية. إذ تفيد الأرقام بأنها كانت تمتلك ست سفن حربية مقابل 33 سفينة حربية لبريطانيا في العام 1897. وبعد 1910، بات لدى بريطانيا 59 سفينة عسكرية مقابل 33 لألمانيا بحلول 1914. وفي الإجمال، كانت ألمانيا الأكثر نجاحاً في خططتها واستعدادها اقتناعاً منها بأن مفتاح الانتصار في أي حرب يكمن في إعادة التسلح الناجح، كما يورد كواغلياريني.
بالفعل، ساهم صعود ألمانيا إلى القوة في تغيير التوازن الجيوسياسي الأوروبي والعالمي. وعندما وقعت الأزمة بين النمسا وصربيا، صيف 1914، وقرّرت النمسا شنّ حرب، “كانت ألمانيا مقتنعة بأن حرباً قصيرة، محدودة جغرافياً، ورابحة، أمرٌ ممكن”، بحسب كيغلي وويتكوف. هذا ما دفعها إلى منح النمسا “شيكاً على بياض لسحق الصرب” لشنّ الحرب. لكن تبين أن برلين ارتكبت خطأ فادحاً في حساباتها، لأن العملية النمساوية قوبلت بردّ فعل روسي وفرنسي وبريطاني غير متوقع، فاندلعت الحرب العالمية.
ولسباق التسلح دوره أيضاً في الانزلاق إلى الحرب العالمية الثانية. يروي كيغلي وفيتكوف، في كتابهما، أن ألمانيا كانت مصمّمة على استعادة مكانتها قوة عظمى، ردّاً على سياسة فرنسية هادفة إلى إطالة أمد تهميشها بعد الحرب العالمية الأولى. هكذا، بدأت ألمانيا مشروع إعادة التسلح المعطوف على مشروع توسّعي، يهدف إلى ضم أراض يقطنها ألمانٌ في دول الجوار والتخلص من فرنسا، وصولاً إلى السيطرة على “المجال الحيوي” لألمانيا، بحسب المؤرّخ بيير رينوفان، في كتابه المشترك مع جان – باتيست دوروزيل، “مدخل إلى تاريخ العلاقات الدولية”، الصادر في باريس سنة 1964. هنا، يؤكّد الباحث كولين غراي في كتابه “الحرب والسلام والعلاقات الدولية .. مقدّمة في التاريخ الاستراتيجي” الصادر في لندن ونيويورك سنة 2007، أنه بعد احتلال ألمانيا منطقة الراينلاند وعسكرتها سنة 1936، من دون مقاومةٍ فرنسية، لم يعد هناك أمل بتجنّب الحرب العالمية سوى بتغيير سياسي في ألمانيا، أي سقوط نظام أدولف هتلر. وهذا يعني أن ألمانيا كانت تمتلك قدرةً عسكريةً متنامية بفضل التسلح والتحديث العسكري، وكان لدى الحكومة الألمانية نوايا عدوانية. وإذ كانت فرنسا تسعى إلى عدم إعادة إدماج ألمانيا في النظام الدولي، “كانت بريطانيا تريد الحفاظ على توازن القوى في القارّة الأوروبية، فغضّت النظر عن إعادة التسلح الألماني، اعتقاداً منها بأن ذلك يحقّق توازن القوى بوجه الاتحاد السوفييتي وفرنسا”، كما يذكر كيغلي وفيتكوف.
من ضمّ السوديت إلى ضمّ القرم:
في هذا السياق، أجبر هتلر النمسا على الانضمام إلى ألمانيا، في مارس/ آذار 1938. وعندما طالب بضم منطقة السوديت (سوديتنلاند) في تشيكوسلوفاكيا، وافقت بريطانيا ومعها فرنسا (رغم تحفّظ الأخيرة) على هذا الضم، في مؤتمر ميونخ الشهير، نهاية سبتمبر/ أيلول 1938. وكان هذا التنازل البريطاني يندرج في إطار “سياسة التهدئة مع ألمانيا العدوانية”، على أمل “تهدئتها من خلال تقديم تنازلاتٍ لها”، وفق كيغلي وفيتكوف. لكن غراي يفسّر هذا التساهل البريطاني حيال هتلر بقوله إن لندن كانت تخشى قدرات جيش هتلر العسكرية الاستراتيجية، في ظل عدم جهوزيتها الكافية، بيد أن المعادلة تغيّرت بعدما أصبحت بريطانيا مقتنعةً بأنها باتت قادرةً على الرد على التهديد الجوي الألماني، بفضل تطويرها سلاحها ودفاعها الجوي، فتصرّفت بحزم مع هتلر سنة 1939، عندما احتلّ بولندا، أي بعدما شعرت بجهوزية عسكرية تخوّلها الدفاع عن نفسها والحدّ من خسائرها بوجه أي تفوّق عسكري ألماني، كما يذكر غراي. وهذا يعني أن سباق التسلح كان وراء تقبّل فكرة الذهاب إلى خيار الحرب العالمية الثانية.
يقارن بعضهم أحداث ما قبل الحرب العالمية الثانية، سيما مؤتمر ميونخ 1938، بما جرى في أوكرانيا اعتباراً من سنة 2014. يشبه ضمّ روسيا القرم ضمّ ألمانيا السوديت. وعلى الرغم من أن الغرب ردّ على التصرّف الروسي بعقوبات اقتصادية، إلا أن هذا الردّ لم يردع موسكو عن شن الحرب في فبراير/ شباط 2022، فدخلت العلاقات الروسية – الغربية في دوّامة خطيرة من غير المعروف ما إذا كانت ستنتهي بصدام عسكري مباشر أم لا، بيد أن المؤكّد أن الجميع يمضي في سباق التسلح.
سباق التسلّح نتيجة المناخ الدولي المتوتّر:
إذا كانت هناك عبرة من الحرب الباردة والحربين العالميتين، فتتمثل في تأكيد صوابية المقولة التي توافقت عليها الدول المشاركة في المؤتمر الدولي بشأن نزع التسلّح، في لاهاي، سنة 1907، ومفادُها بأن “أي حدّ من التسلح لا يمكن تصوّره طالما أن أسباب الحرب لم تُبَدَّد”، حسبما يروي المؤرخ رينوفان. هذا النظرة، وفق تأويله، تجعل من الحد من التسلح نتيجة وليس شرطاً لتنظيم سلمي للعلاقات الدولية. وتعني، استطراداً، أن سباق التسلح اليوم هو نتيجة لديناميات صراعية دولية عدة، انفجرت إحداها على شكل حربٍ مدمّرة إنما محدودة النطاق في أوكرانيا، فيما لا تزال الأخريات تحت السيطرة في مضيق تايوان وشبه الجزيرة الكورية والشرق الأوسط. ولكن من يضمن عدم توسيع نطاق حرب أوكرانيا، بعد قرار نشر روسيا أسلحة نووية في بيلاروسيا، ووسط تلويح مستمر بإمكانية استخدامها هذا السلاح إذا مُنِيَت بهزيمة، وفي ظل كلام روسي متكرّر أن موسكو لم تدخل جدّياً وبكل ثقلها في حرب أوكرانيا، وأن الحرب الفعلية ستكون مع دول “حلف شمال الأطلسي” (الناتو)، الذي ينظّم بدوره، في شهر يونيو/ حزيران 2023، “أكبر مناورة عسكرية جوية في تاريخه، يشارك فيها 10 آلاف جندي، و250 مقاتلة، بالاشتراك مع السويد واليابان؟
صحيحٌ أن دول الاتحاد الأوروبي متأخّرة جداً في مجال الاستعداد العسكري الاستراتيجي لخوض حرب كبرى وشاملة. ولا شك أنه “في وقت الأزمات، من المستحيل تعويض جهد عسكري كان هزيلاً لعقود عدة”، كما يلاحظ توما غومار في كتاب له صادر في باريس سنة 2021. لكن ثمّة يقظة أوروبية في هذا المجال، لا بد أن تؤتي ثمارها ولو بعد حين. ناهيك بالمظلة الدفاعية الأميركية التي تغطّي، بالتعاون مع جميع الحلفاء، نطاقاً يمتد من أوروبا إلى المحيط الهادئ، لمواجهة ما يعتبره الغرب التهديد الروسي والصيني.
الحرب العالمية مستبعدة مؤقّتاً؟
من الممكن أن يكون الوضع الراهن مشابهاً لما كان عليه بعد الحرب العالمية الثانية، حين توقع الفيلسوف الفرنسي، ريمون آرون، في النصف الثاني من أربعينيات القرن العشرين، وفيما كانت الحرب الباردة في بدايتها، أن يكون “السلام مستحيلاً والحرب غير محتملة” بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، ففي سلسلة مساهمات نظرية، جُمِعَت في كتاب، بنسخة حديثة صادرة في باريس سنة 2012، استبعد آرون أن يؤدّي الصراع بينهما إلى حرب شاملة، لكنه اعتبر أن هذه الحرب مستبعدة مؤقتاً. وهنا استعرض الفيلسوف الفرنسي أطروحة هي بمثابة إنذار أو تحذير، أنه “بين حربٍ تقع نتيجة سوء تفاهم، وحربٍ تقع بفعل إرادة عازمة، ثمّة فرضية أخرى: أن يكون أحد المعسكرين مصمّماً على تحقيق أهدافه، وأن يكون المعسكر الآخر مصمّماً مثله على منعه من تحقيق هذه الأهداف”. فماذا لو كانت الصين وروسيا مصممتَيْن على تحقيق أهدافهما على التوالي في أوكرانيا وتايوان، وكانت الولايات المتحدة مصمّمة على منعهما من ذلك؟ في هذه الحالة، ألن يسرّع سباق التسلح خيار الحرب العالمية الثالثة؟ أم أن القدرات النووية لدى كل الأطراف ستردع الجميع عن المضي في مجازفاتٍ خاسرةٍ للجميع؟ وأن العقلانية ستقود الجميع إلى التواصل وفهم نيات بعضهم بعضا وترتيب تسويات مربحة للكل، وتحفظ حدّاً أدنى من التوازن والاستقرار العالمي حتى إشعار آخر؟
* كاتب أكاديمي وباحث لبناني
المصدر: العربي الجديد