الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

محدّدات العلاقات التركية- الإيرانية وتجلّياتها في سورية (2011 – 2023)

د. عبد الله تركماني

إنّ الموقع الجغرافي لكلٍّ من تركيا وإيران، حيث تقعان على ممرات بحرية أساسية وتطلان على أقاليم استراتيجية (القوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط)، يدفعهما إلى التفاعل بتجلياته الإيجابية والسلبية في آن واحد. ومن هنا كانت العلاقات التركية – الإيرانية تتميز بـ “الواقعية السياسية”، التي تمكّن الدولتَين من صياغة محدّدات براغماتية لمصالحهما السياسية والاقتصادية والأمنية تمنع الانفجار بينهما، رغم دوافعه العديدة. إذ إنّ كلتيهما تنزع نحو الهيمنة الإقليمية، وقد تجلّى هذا بوضوح في موقف كلٍّ منهما من الحراك الشعبي السوري منذ انطلاقته. ففي حين دعمت إيران النظام، عسكريًا وإعلاميًا وسياسيًا، وحشدت لدعمه ميليشيات ذات طابع شيعي من لبنان والعراق وأفغانستان، إضافة إلى قوات من الحرس الثوري الإيراني، فإنّ تركيا دعمت المعارضة السورية، واستقبلت اللاجئين السوريين الهاربين من انتهاكات النظام وحلفائه الإيرانيين والروس. وتُعدّ سورية بالنسبة لإيران جزءًا رئيسيًا من الذراع الشيعي، وكانت الحسابات التركية أن يؤدي الربيع السوري إلى إسقاط نظام الأسد قريبًا، بما لا يتعدى صيف 2012، وهذا ما دفعها إلى الاندفاع بقوة لدعم الحراك السوري، ثم عندما تعقّد الوضع ودخلت روسيا عسكريًا، عدّلت موقفها وسياستها بشكل كامل تجاه الصراع.

تهدف هذه الورقة إلى تحديد مظاهر التعاون والتنافس والصراع بين دولتين إقليميتين، لهما وزنهما في إقليم الشرق الأوسط الكبير، وتحاول رؤية تجلّياتها في سورية. فمنذ بداية الحراك الشعبي في آذار/ مارس 2011، أضحت سورية متغيّرًا أثّر في العلاقات بين الدولتين. وقد ساعدهما التوجّه البراغماتي لكليهما في اعتبار المصالح الاقتصادية المشتركة و “الخطر” الكردي على كلا البلدين، عاملين أساسيين يدفعان إلى التعاون، مع أنّ بعض المواقف السلبية لأحدهما استدعت ردَّة فعل من الطرف الآخر.

إنّ ثوابت جغرافية الدولتين ومحيطهما الإقليمي، إضافة إلى مؤثرات الدول الكبرى، تؤكد مظهري التعاون والصراع في آنٍ واحدٍ. خاصة بعد ربيع الثورات العربية الذي أسهم في إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط، وما رافقه من تحالفات متغيّرة، مما دفع قيادتي الدولتين إلى التوازن القلق بينهما، الذي تجسد في الحرص على المصالح الاقتصادية، إدراكًا منهما أنّ توجهات عالم اليوم أكثر ميلًا نحو المصالح الجيو – اقتصادية، وأنّ التطبيق العملي لمفهوم “الواقعية السياسية”، التي وجهت العلاقات بينهما، يكمن في المصالح الاقتصادية المشتركة.

 وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إنّ العلاقات التركية – الإيرانية من الصعب أن تنتقل من حالة التنافس إلى مستوى المواجهة المباشرة، ما دامت المصالح المشتركة لم تتعرض لتغيّرات دراماتيكية. ولأنهما محكومان بالتاريخ الإمبراطوري لكليهما، فإنّ العلاقة بينهما ستبقى محكومة بمنطق الفعل وردّة الفعل المحسوبين، تبعًا لنقاط القوة أو الضعف لديهما. وهذه الحقيقة من ثوابت العلاقات بينهما، منذ اتفاقية “قصر شيرين” بينهما في عام 1639.

أولًا: مظاهر التعاون

تُعتبر المصالح الاقتصادية من أولويات الدولتين، خاصة منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في عام 2002، إذ إنّ إيران دولة مهمة في مصادر الطاقة، في حين أنّ تركيا تعتمد على 90 % من حاجتها للطاقة من التوريد من الخارج. وفي المقابل، فإنّ إيران تجد في تركيا بوابة خلفية لإمكانية الالتفاف على العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من قبل المجتمع الدولي. وكانت تركيا قد أمِلت، بعد الاتفاق حول النووي الإيراني في العام 2015، بأن تكون ممرًا لموارد الطاقة من النفط والغاز الإيرانية وموارد دول وسط آسيا إلى أوروبا، وبدورهم يؤكد المسؤولون في طهران أنه في حال تصدير بلادهم للغاز الطبيعي إلى أوروبا سيجري ذلك عبر تركيا[1].

لقد كان للعقوبات الاقتصادية الأميركية على إيران تداعياتها على العلاقات الاقتصادية بين تركيا وإيران، خاصة بعدما امتنعت إدارة الرئيس ترامب عن تجديد إعفاء العقوبات الممنوحة لتركيا. وقد “تسببت العقوبات في أواخر عام 2018 بتراجع حجم التجارة الثنائية بين تركيا وإيران، من حوالي 10.7 مليارات دولار في عام 2017 إلى 5.6 مليارات دولار فقط في عام 2019”[2].

ومع ازدياد الطلب على الطاقة، من جرّاء نقص إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا بعد غزو أوكرانيا، بات تصدير الغاز الإيراني إلى دول الجوار أولويّة لدى طهران، فقد ذكرت وزارة النفط الإيرانية، في22 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، أنّ “البلدين أجريا محادثات على مستوى وزاري في العاصمة التركية، لمناقشة تجديد عقد توريد الغاز لمدة 25 عامًا، أو إبرام اتفاق جديد قد يسمح لطهران بزيادة صادرات الغاز الطبيعي إلى أنقرة بعد عام 2026”[3]، إذ ينتهي عقد تصدير الغاز الإيراني إلى تركيا، الذي وُقِّعَ سنة 2001 ومدّته 25 عامًا، في عام 2026.

كما شهدت السنوات الأخيرة تزايد الاستثمارات الإيرانية في تركيا، إذ “يعدُّ الإيرانيون ثاني أكبر مشترٍ للعقارات في تركيا، بعد العراقيين، واحتلوا المرتبة الأولى في تأسيس الشركات فيها (أسّسوا 1019 شركة عام 2018 و978 شركة عام 2019)”[4]. ومن المرجح أن تكون أغلبية هذه الاستثمارات واجهة للنظام الإيراني، الذي يحاول تجاوز العقوبات الغربية.

لقد تمكّن البلدان من تحييد علاقاتهما الاقتصادية عن توتر علاقاتهما الإقليمية، طبقًا لما هو متداول من فهم لـ “الواقعية السياسية” في عالم اليوم، وأسهم ذلك في الانضباط الجيوسياسي إلى حدٍّ بعيد. كما أن الطرفين متفقان على منع قيام دولة كردية في المنطقة، وقد ظهر ذلك جليًا بعد نجاح استفتاء أكراد العراق في أيلول/ سبتمبر 2017، حيث أعلن البلدان حرصهما على وحدة العراق، مما عكس تخوفاتهما من تمدد عدوى الاستفتاء على مناطقهما ذات الأغلبية الكردية، بالرغم من تنافسهما بالوكالة بين أربيل وهي أقرب لأنقرة، والسليمانية الأقرب إلى طهران. ولعلَّ ما حصل أخيرًا في مطار السليمانية أكبر دليل على هذا التنافس، حيث “أغلقت تركيا مجالها الجوي أمام الرحلات الجوية المغادرة والآتية من مدينة السليمانية في كردستان العراق، وهي مقرّ حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي تتهمه أنقرة بالتقارب مع أكراد سورية”[5]. وثمة مواقف كثيرة تدل على أنّ إيران تدعم حزب العمال الكردستاني التركي الـ PKK المتمركز في جبل قنديل، بل إنها تضغط على الحكومة العراقية لإدانة العمليات العسكرية التركية في شمال العراق.

وهكذا، فإنّ تقاطعات المصالح الاقتصادية خاصة، ومنع قيام دولة كردية في أي من الدول الأربع التي يتواجد فيها الأكراد (تركيا، إيران، العراق، سورية)، بالرغم من توترات عديدة بينهما في سورية والعراق من خلال وكلاء الطرفين، أظهرت التوافق بينهما. ولكن من المؤكد أنّ هذه التقاطعات لا تشكل مرتكزًا لتحالفات استراتيجية بين البلدين، لأنّ مظاهر التنافس والصراع عديدة أيضًا، بحكم موقعهما ودورهما وتحالفاتهما في منطقة الشرق الأوسط والعالم.

ثانيًا: مظاهر التنافس والصراع

تتسم العلاقات التركية – الإيرانية بتأرجحها، بين التنافس الخاضع للسيطرة والتعاون المحدود، وقد ظهر ذلك جليًّا في سورية والعراق، إذ أدت التوترات المتصاعدة بين وكلائهما إلى وضع البلدين على مسار تصادمي، يمكن أن يؤدي إلى زعزعة استقرار الشرق الأوسط وجنوب القوقاز، إضافة إلى مخاطر أمنية يمكن أن تؤدي إلى موجات جديدة من الهجرة إلى أوروبا.

وثمّة خلافات كثيرة بين الرؤيتين التركية والإيرانية، حول حاضر المنطقة ومستقبلها، فقد أدى ربيع الثورات العربية، منذ سنة 2011، إلى اشتباك بينهما في عدة مواقع. فقد حاولت إيران تحويل سورية والعراق إلى موقعين لمواجهة النفوذ التركي، الذي يمتد خط دفاعه بين حلب والموصل، وبالتالي فإنّ تركيا عملت على عدم الإخلال الإيراني بميزان القوى الإقليمي، بما لا يصل إلى حدِّ الصدام المباشر مع إيران. ويمكن أن نلمس التنافس بينهما، بعدما قامت تركيا بدعم سلطة إقليم كردستان العراق، بما يدعم استقلالها عن السلطة المركزية في بغداد، التي تخضع للنفوذ الإيراني، من خلال “الحشد الشعبي” ذي العلاقات مع حزب العمال الكردستاني التركي الـ PKK في جبل سنجار، وأيضًا من خلال حزب الاتحاد الوطني الكردستاني في السليمانية، الذي اتهمته تركيا أخيرًا بدعمه “قوات سوريا الديمقراطية/ قسد” وحزب Pkk.

وفي المقابل، تواجه إيران، على حدودها الشمالية الغربية، النفوذ التركي في القوقاز. حيث إنّ الصراع الآذري – الأرمني كشف الخلافات العميقة بين تركيا وإيران، اللتين تطمح كل منهما للعب دور أساسي في المنطقة، باعتبارها مدخلًا لآسيا الوسطى، لتكريس دوره في المعادلات الاستراتيجية الدولية، خاصة بعد احتدام الصراع بين روسيا والغرب على إثر غزو أوكرانيا.

ومن ناحية النووي الإيراني، رحبت تركيا بالاتفاق (5+1)، الذي تم في فيينا بتاريخ 14 تموز/ يوليو 2015، ولكنها رفضت طابعه العسكري، لما ينطوي عليه من تهديد لأمن المنطقة، وأعربت عن حق إيران في الاستفادة السلمية من المشروع. ولكنّ تصريح وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، في يوم إعلان الاتفاق، كان صريحًا في التعبير عن الموقف التركي، مشددًا على أهمية إحداث تغيّرات في السلوك الإقليمي لإيران، حيث أشار في تصريحه إلى أنّ الاتفاق “سيُسهم في تحقيق الاستقرار الإقليمي وفي الاقتصاد الإقليمي، وسيكون له تأثير إيجابي مباشر على تركيا، ويجب أن يتم تطبيقه بشكل كامل وبشفافية كاملة. كما دعا طهران إلى مراجعة سياساتها الإقليمية وضرورة الابتعاد عن السياسات الطائفية، وأن تولي أهمية للحوار والحلول السياسية، هذا ما نتوقعه في سورية والعراق واليمن” [6].

 ثالثًا: تجليات العلاقات التركية – الإيرانية في سورية

كشفت المسألة السورية مدى دور البلدين في إدارة مساراتها، فمنذ بداية الحراك الشعبي السوري، في آذار/ مارس 2011، انغمسا في هذه المسارات، على طرفي نقيض، بحثًا عن الزعامة الإقليمية، كون سورية يمكن أن تكون ممرًا لموارد الطاقة إلى الأسواق الأوروبية.

ومن جهة أخرى، تقع سورية في قلب مشروع “الهلال الشيعي” الإيراني الممتد من طهران عبر العراق وسورية وصولًا إلى لبنان، إذ تستطيع عبرها تزويد “حزب الله” بالسلاح ومدِّ نفوذها إلى الأردن، لذلك كانت إيران الأكثر دعمًا للنظام السوري، منذ اندلاع الحراك الشعبي في آذار/ مارس 2011 وما زالت. كما تعتبر سورية ذات أهمية كبيرة لتركيا في توازنات الشرق الأوسط، إضافة إلى أنها عقدة التواصل التركي التجاري مع العالم العربي. وللجانب الأمني أيضًا أهمية كبيرة، خاصة أنّ الحدود المشتركة تمتد على مسافة تزيد على 900 كم، ولذلك تحرص تركيا على استقرار حدودها الجنوبية. وهكذا، فقد كشف الحراك الشعبي السوري تناقض توجهات الطرفين، نتيجة التقييم المختلف لهذا الحراك، والإجراءات المتناقضة التي اتخذتها كل من الدولتين إزاءه.

ومنذ بداية الحراك الشعبي السوري، كان واضحًا أنّ إيران وتركيا تبحثان عن مصالحهما، في خضم مأساة السوريين، والحسبة المعقدة للمكاسب والخسائر المحتملة في حالة سقوط النظام. وفي هذا السياق، كانتا حريصتين على عدم تحوّل حرب الوكالة بينهما إلى صراع مباشر. بل إنّ العلاقات التجارية ازدهرت، خاصة في ظل العقوبات الغربية على إيران، إذ كانت تركيا نافذة إيران الاقتصادية، ففي عام 2017 تم الاتفاق بينهما على استخدام العملة المحلية في التبادل التجاري. وفي ذروة الحرب الأهلية السورية، “وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 22 مليار دولار سنويًا”[7].

مظاهر التعاون:

كان للحضور العسكري والسياسي الروسي، في أيلول/ سبتمبر 2015، وما رافقه من اتفاقات روسية – أميركية حول سياقات الحل في سورية، قوة دفع لتركيا وإيران للتوافق في المسألة السورية، إذ رأى الطرفان في النفوذ الروسي تأثيرًا على موقعيهما المركزي منذ بداية الحراك الشعبي.

ومن جهة تركيا، طمحت إلى أنّ إيران، ذات النفوذ على حزب العمال الكردستاني التركي PKK صاحب النفوذ على حزب الاتحاد الديمقراطي السوري “قسد”، يمكن أن تشكل معها محورًا إقليميًا لمواجهة الطموحات الكردية.

وفي الوقت الذي اتسمت العلاقات السياسية والأمنية بالتوتر، من خلال وكيلي الطرفين، فإنّ المصالح الاقتصادية كانت في تطور واضح منذ عام 2011، فمثلًا في 28 نيسان/ أبريل 2021، اجتمعت اللجنة الاقتصادية المشتركة، وتم التوقيع على مذكرة تتضمن مجموعة من المجالات الاقتصادية، بحيث أصبحت البضائع التركية صاحبة الحصة الأكبر في الأسواق الإيرانية، في حين أصبحت إيران المصدر الأول لموارد الطاقة لتركيا، ضمن إطار مقايضة السلع التركية بالغاز الإيراني.

ومن الناحية السياسية، أدى لقاء آستانة الثلاثي الروسي – التركي – الإيراني، في 23 و24 كانون الثاني/ يناير 2017، وتشكيل هيئة ثلاثية لفرض وقف إطلاق النار في سورية، إلى زيادة فرص التقارب بينهما في البداية.

لقد رحّبت إيران بالحوار بين القيادتين التركية والسورية، واعتبرت أنّ العلاقات بينهما تخدم مصالح المنطقة، وقد قال وزير الخارجية عبد اللهيان: “يسعدنا أن نرى اليوم جهود إيران في هذا الخصوص من الماضي إلى الحاضر تؤتي ثمارها، نعتقد أنّ أي تطور إيجابي بين أنقرة ودمشق سيفيد كلا البلدين ومنطقتنا، ونظرًا لعلاقتها الوثيقة مع البلدين، فإنّ إيران ستبذل قصارى جهدها لتحقيق هذا الهدف”[8]. وقد أشاد وزير الخارجية التركي بالدور الإيراني في عملية التقارب بين أنقرة ودمشق.

مظاهر التنافس والصراع:

بدأ التنافس التركي – الإيراني بعد الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، وفي حين أنّ تركيا اعترفت بالنفوذ الإيراني في العراق لأسباب جغرافية ومذهبية، فإنّ إيران رفضت الاعتراف بالنفوذ التركي في سورية، وظهر ذلك جليًا منذ انطلاق الحراك الشعبي السوري في آذار/ مارس 2011، حيث دخلا معًا في صراع بالوكالة، حيث أعلنت إيران دعمها للنظام، وأعلنت تركيا دعمها لمعارضيه ومطالبتها بالتغيير السياسي. وتكمن خشية إيران من معرفتها بما تملكه تركيا من مقوّمات نفوذ في سورية، خاصة حدودها المشتركة الطويلة.

إنّ وجود الميليشيات التابعة لإيران في شرقي حلب منذ أواخر سنة 2016، أثر في النفوذ التركي في الشمال السوري، خاصة بعد محاولات التشييع والتغيير الديموغرافي التي أجرتها إيران هناك، مما دفع تركيا إلى إدخال ملف هذه الميليشيات إلى الحل السياسي القادم. وقد تمَّ ذلك بعد تبادل الاتهامات بين الطرفين، حيث اتهمت تركيا إيران بأنها تؤجج الصراع الطائفي في المنطقة، مما دفع إيران إلى إرسال مذكرة احتجاج مع السفير التركي في طهران، إضافة إلى أنّ مستشار المرشد ردَّ قائلًا: “إنّ تركيا تريد أن تصلّي في الجامع الأموي بدمشق، وإنها فشلت في ذلك، وعليها سحب قواتها من العراق وسورية شاءت أم أبت”[9].

وفي حزيران/ يونيو 2020، شوهدت قوات “حزب الله” إلى جانب قوات النظام خلال التصعيد العسكري في محافظة إدلب، مما أبرز التناقض بين تركيا وإيران، وتبادل الاتهامات والإنذارات، خاصة “بعد أن أدى القصف الجوي التركي على المنطقة الممتدة من معرة النعمان إلى سراقب بجنوب شرق إدلب، إلى مقتل ما لا يقل عن خمسة عشر عنصرًا من عناصر حزب الله اللبناني”[10].

كما أظهرت اجتماعات آستانة الثلاثية المتكررة: روسيا وإيران وتركيا، عدم اتفاق الطرفين على كيفيات حل المسألة السورية، فمثلًا توترت العلاقات بينهما عندما أعلنت تركيا نيتها إقامة منطقة آمنة في شمال سورية. فقد كانت إيران ضد عملية “غصن الزيتون” في عام 2018، وعرقلت تحرك القوات التركية بعدة طرق[11]:

– فتح طريق إمداد لوحدات الحماية الكردية من مناطق شرق الفرات باتجاه عفرين، عبر مناطق النظام السوري.

– العمل على تزويد هذه الوحدات بعربات عسكرية إيرانية الصنع.

– العمل على نشر منظومة دفاع جوي، تابعة للنظام السوري، وقد أدت تلك المنظومة إلى منع سلاح الجو التركي من التحليق فوق منطقة عفرين لمدة أربعة أيام.

– توقيع اتفاق مع الوحدات الكردية بعفرين في 18 شباط/ فبراير2018، بهدف تأمين دخول القوات الشعبية، التي ستساعد على تقوية وصمود وحدات الحماية الكردية.

واتخذت إيران الموقف نفسه من عملية “نبع السلام”، في 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، ولا سيما أنها تمت بموافقة روسيا وأميركا، وطالبت تركيا باحترام وحدة الأراضي السورية وسيادتها، واقترحت أن تلتزم تركيا باتفاقية “أضنة” المبرمة بين الحكومتين السورية والتركية في عام 1998.

وعندما أعلنت تركيا القيام بعملية جديدة باتجاه تل رفعت ومحيطها، في حزيران/ يونيو 2022، حيث توجد ميليشيات تابعة لإيران، أعلن وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان من دمشق أنّ بلاده “تعمل على إيجاد حلّ سياسي، لثني تركيا عن شنّ العملية العسكرية التي تهدد بها، في شمالي سورية”، وأعلن استعداد بلاده لتقديم حلّ سياسي للأزمة، وقال: “سنبذل قصارى جهدنا لمنع شنّ عملية عسكرية”. وفي الوقت نفسه قال إنّ إيران “تتفهم قلق ومخاوف الحكومة التركية بشأن القضايا الحدودية الخاصة بها، لكننا نعتبر أنّ أي إجراء عسكري في سورية هو عامل مزعزع للأمن في المنطقة”[12]. ويعكس الموقف الإيراني خشية إيران من توسّع النفوذ التركي في سورية، مع انشغال روسيا بتداعيات غزوها لأوكرانيا.

وكان الوزير الإيراني قد تقدّم في تركيا بمبادرة “تعتمد على ركنين: الأول مشاطرة تركيا في مخاوفها من الواقع الآخذ في التشكل بشمال سورية، نحو تأسيس كيان كردي مستقل مدعوم من الولايات المتحدة والغرب، والركن الثاني هو استعداد إيراني للوساطة بين أنقرة ودمشق لبحث حل بديل عن العملية العسكرية”[13].

ومن جهة أخرى، فإنّ التقارب الروسي – التركي أقلق إيران من سعي الطرفين لإنهاء وجودها في شمال سورية، إذ شعرت بأنّ وجودها في مسار آستانة شكليٌّ، فلا وجود لقواتها بين الدوريات المشتركة. كما أنّ أغلب السياسات التركية في سورية تتبلور نتيجة التنسيق بين القيادتين التركية والروسية، وقد ظهر ذلك بوضوح في سياق التطبيع التركي مع النظام السوري، حيث استُبعدت إيران في البداية، مما دفعها إلى محاولة عرقلة اللقاءات الثنائية التركية – السورية، من خلال الضغط على النظام السوري. وازداد القلق الإيراني بعد بداية اللقاءات الثلاثية بين تركيا وروسيا وسورية، منذ أيلول/ سبتمبر 2022، على مستوى وزراء الدفاع والاستخبارات. وثمة اعتقاد بأنّ تشدد رأس النظام السوري لمتابعة مسار التطبيع مع تركيا قد تمَّ تحت تأثير الضغط من إيران، التي عبر وزير خارجيتها، أثناء زيارته للبنان في 13 كانون الثاني/ يناير الماضي، عن دعمه للموقف السوري من جهة، وسعادته بتقارب حليفي بلاده.

 وفي كل الأحوال، يبدو أن التوتر بين البلدين مرهون بمعرفة طبيعة مسار الحل في سورية.

رابعًا: أهم الاستنتاجات

– تقدّم العلاقات التركية- الإيرانية تطبيقًا عمليًا للواقعية السياسية، بعيدًا عن الإسقاطات الأيديولوجية. لذلك من الصعوبة بمكان الحديث عن تعاون أو صراع بنيوي بينهما، إذ تتلمسان كيفية السير في حقل ألغام منطقة الشرق الأوسط الموسع وتحولاتها.

– كان لتداعيات الحراك الشعبي السوري آثار متعددة على العلاقات بين الدولتين، على المستويين السياسي والأمني.

– سيظل التعاون والصراع بين تركيا وإيران في سورية محكومًا بمسار الحل السياسي، إضافة إلى تحولات الشرق الأوسط والعلاقات الدولية. وليس مستبعدًا أن تتفقا على تقاسم النفوذ في سورية.

…………………

هوامش:

[1] إيران: الغاز سيمر عبر تركيا حال تصديره لأوروبا، تصريح للمدير العام للشركة الوطنية الإيرانية للغاز ماجد تشغني، في 25/5/2023، وكالة أنباء الأناضول، https://2u.pw/THfSdUj

[2] تامر بدوي: الانعطافة الاقتصادية في العلاقات التركية – الإيرانية، مؤسسة كارنيغي 20 آذار/ مارس 2020، شوهد بتاريخ 11 أيار/ مايو، 2023، الرابط: https://carnegieendowment.org/sada/81332

[3] أمل نبيل: إيران تدرس مشروع غاز عملاقًا مع تركيا – الرابط: https://2u.pw/axOJG

[4] مروان قبلان: سورية بين إيران وتركيا، 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، شوهد بتاريخ 23 نيسان/ أبريل 2023، الرابط:  https://2u.pw/G6eXIu،

[5] تصعيد تركي مع طالباني واتهامات بالتقارب مع أكراد سوريا وتركيا – 6 نيسان/ أبريل 2023، شوهد بتاريخ 6 نيسان/ أبريل، الرابط: https://2u.pw/uoqwvI

[6] علي حسين باكير: الاتفاق النووي الإيراني في حسابات تركيا المستقبلية، شوهد بتاريخ 23 نيسان/ أبريل 2023، الرابط: https://2u.pw/oJMnXT،

[7] المركز الديمقراطي العربي: أثر الأزمة السورية على العلاقات التركية – الإيرانية (2011 – 2021) – 23 تموز/ يوليو 2022، شوهد بتاريخ 31 آذار/ مارس 2023 ،الرابط: https://2u.pw/hhE4Ay

[8] عبد الناصر القادري: على خط التطبيع بين تركيا والنظام السوري.. ماذا تريد إيران؟ شوهد بتاريخ 23 نيسان/ أبريل 2023، الرابط: https://2u.pw/h3gOV1

[9] جاسم محمد حاتم العزاوي: العلاقات التركية – الإيرانية بعد عام 2011، برلين- المركز الديمقراطي العربي، 2019، ص54. الرابط: https://2u.pw/jl29VT

[10] المرجع السابق.

[11] المرجع السابق.

[12] أمين العاصي وجابر عمر: الحراك الإيراني بين دمشق وأنقرة: طهران تخشى توسع النفوذ التركي، شوهد بتاريخ 23 نيسان/ أبريل 2023، الرابط: https://2u.pw/YWq2sg،

[13] المرجع السابق.

ــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.