الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

إردوغان “سلطانٌ” في تركيا بجلباب “قيصر” روسيا

منى فرح *                                

تمثل إعادة انتخاب رجب طيب إردوغان رئيساً لتركيا من جديد، منعطفاً حاسماً. صحيح أنه يمكن القول إن إردوغان سلطانٌ لا جدال فيه، بالنظر إلى الفوز الذي حقّقه برغم التحديات الكبيرة التي رافقت الانتخابات الأخيرة. لكن الذي سيحدد ما ستعنيه ولايته المقبلة بالنسبة لمستقبل بلاده، وربما المنطقة والعالم، هو الدور المتنامي لروسيا كـ”داعم ونموذج رؤى أساسية” للإردوغانية الجديدة، بحسب “سونر كاجابتاي”(**)، في تقرير نشره موقع “فورين أفيرز“.

في 28 أيار/ مايو الماضي، فاز الرئيس التركي رجب طيب إردوغان؛ “الذي لم يخسر أي انتخابات من قبل”؛ في جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية التركية ضد خصمه كمال كيليجدار أوغلو. منذ العام 2003 وإردوغان على رأس السلطة؛ أولاً كرئيس للوزراء، ثم رئيساً للجمهورية منذ عام 2014. ومع الفوز الأخير الذي حقّقه، وقبله اكتساحه الانتخابات البرلمانية، في 14 أيار/ مايو؛ التي أسفرت عن حصول الأحزاب الموالية له على الأغلبية الساحقة في المجلس التشريعي؛ يمكن القول إن إردوغان “سلطانٌ” لا جدال فيه.

كان هذا الفوز “الكاسح” بمثابة صدمة للعديد من المراقبين الغربين الذين توقعوا أن إردوغان لن يصمد. كما أن الطريقة السلسلة، نسبياً؛ التي جرت فيها إعادة انتخابه رئيساً للبلاد؛ لمدة خمس سنوات أخرى؛ تثير الكثير من التساؤلات البعيدة المدى حول مصادر سلطته. فبرغم الاضطرابات الاقتصادية التي طال أمدها، والاستجابة الكارثية لتداعيات الزلزال المدمر الذي ضرب البلاد في شباط/ فبراير الماضي، وبرغم وجود معارضة موحدة، استطاع تحقيق تقدم مريح في الجولة التمهيدية من التصويت (…)، ومن ثم نجح بالاحتفاظ بمنصبه كرئيس للبلاد. وهو سيكون أكثر قوة مما كان.

في السنوات الأخيرة، غالباً ما قارن محللون بين النهج الذي يتبعه إردوغان في السلطة وبين النهج الذي يتبعه قادة أوروبيون غير ليبراليين استخدموا مزيجاً من النفوذ المؤسسي والإجراءات الشعبوية للحفاظ على دعم واسع وعمدوا إلى التلاعب بالقوانين والأنظمة لصالحهم (…). وفقاً لهذه المقارنة، فإن تركيا ليست دولة أوتوقراطية مائة بالمئة، وإردوغان قادرٌ على إبقاء قبضته على السلطة طالما هو قادرٌ على تحقيق الرخاء للطبقات الوسطى، وإبقاء المعارضة مجزأة وتشديد قبضته على القضاء وغيره من مؤسسات الدولة. لكن يبدو أن إردوغان وصل الآن إلى نقطة انعطاف مختلفة. ففي الفترة التي سبقت انتخابات أيار/ مايو، لم يكن بإمكانه الاعتماد على النجاحات الاقتصادية ولا الاستفادة من كون المعارضة منقسمة. فمن الناحية النظرية، كان لدى الأتراك العديد من الأسباب لعدم الرضا عن زعيمهم ومقاومة حكمه القوي. لكن هذا ليس ما حدث.

تشير نتائج الانتخابات الأخيرة إلى أن تركيا قد أصبحت الآن أقرب إلى الاستبداد الأوراسي من الديموقراطية الأوروبية غير الليبرالية. أحد أسباب هذا التحول هو أن نهج إردوغان في السلطة أصبح يشبه؛ وبشكل متزايد؛ نهج نوع مختلف من القادة: الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فكما فعل بوتين في روسيا، تمكن إردوغان؛ وقبل وقت طويل من الانتخابات؛ من صياغة معايير خاصة لعملية التصويت. وخلال الحملات الانتخابية اعتقل بعض قادة المعارضة ونشطاء في المجتمع المدني وآخرين، وهمَّش الشخصية الوحيدة التي ربما كانت مؤهلة لتهزمه: عمدة اسطنبول أكرم إمام أوغلو (…).

وبالقدر ذاته من الدراماتيكية، مارس إردوغان سيطرة شبه كاملة على وسائل الإعلام المحلية، وحظر النقاش في ما يعتبره “قضايا حرجة”، مثل الزلزال والاقتصاد والفساد الحكومي. كان إردوغان؛ مثل بوتين؛ قادراً على استخدام المزايا التي يتمتع بها كرئيس، ففرض سيطرته على المعلومات، وشبَّه نفسه بالعظمة الإمبريالية (…).

لقد أمضى إردوغان سنواته الأولى في منصبه كزعيم معتدل، استطاع أن يستوعب جنرالات الجيش، ووعد بتحقيق الإنضمام إلى الاتحاد الأوروبي. لكن تقربه من روسيا هو الأكثر إثارة للإعجاب، نظراً لموقع تركيا في حلف “الناتو“. فهو أمضى معظم السنوات السبع الماضية في تنمية علاقات وثيقة مع موسكو، ومحاكاة استراتيجيات بوتين للحفاظ على سلطته. بالطبع، إردوغان سياسي ذكي ويتمتع بتفكير استراتيجي. لكن إعادة انتخابه، برغم التحديات الكبيرة، تمثل منعطفاً حاسماً: يمكن أن يبقى إردوغان في السلطة الآن لسنوات عديدة مقبلة. لكن الذي سيُحدد ما ستعنيه ولايته الجديدة بالنسبة لمستقبل تركيا هو الدور المتنامي للرئيس الروسي كداعم للإردوغانية الجديدة.

تقارب بعد عداوة:

بدأ التقارب بين إردوغان وبوتين بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي حصلت في تركيا عام 2016. كانت تلك واحدة من أكثر اللحظات أهمية في عهد إردوغان، وقد استغلها الرئيس الروسي لجذب نظيره التركي إليه (…). فبعد أقل من أسبوعين من ليلة 15 تموز/ يوليو (تاريخ وقوع الإنقلاب)، دعا بوتين إلى قمة روسية- تركية في سان بطرسبرغ كانت بمثابة بداية لتغيير قواعد اللعبة بالنسبة لكلا الزعيمين.

بالنسبة للعديد من المراقبين، كان لقاء سان بطرسبرغ بمثابة مفاجأة: بالعودة إلى الحقبة العثمانية، كانت روسيا هي العدو التاريخي لتركيا. وعندما بدأت الحرب في سوريا، كان الزعيمان على طرفي نقيض: إردوغان دعم مشروع الإطاحة بالرئيس بشار الأسد، بينما أرسل بوتين قوات روسية لحماية النظام في دمشق. بالمقابل، سيستغرق الأمر من قادة حلفاء تركيا في “الناتو” وقتاً أطول لتوجيه دعوة مماثلة لإردوغان بعد محاولة الانقلاب. لكن بوتين رأى فرصة نادرة للتودد إلى الزعيم التركي، مع العلم أن الأخير كان ضعيفاً ويحتاج إلى الدعم. والأهم من كل هذا أن قمة سان بطرسبرغ أتاحت لبوتين فرصة لإحداث فجوة بين تركيا والولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه قدمت مزايا لإردوغان الذي كان يحاول بقلق تعزيز سلطته بعد الانقلاب.

في الواقع، هناك أشياء مشتركة بين الزعيمين: كلاهما وصل إلى السلطة في الوقت نفسه (بوتين في عام 1999، وإردوغان في عام 2003). وكان يُنظر إليهما في البداية على أنهما شخصيتان معتدلتان قد تدمج بلدانهما مع أوروبا والغرب. ولكن من الأهمية بمكان في سعيهما اللاحق للسلطة غير المقيدة، أن كلا الزعيمين قد تولى المنصب أيضاً بعد عقد من الاضطرابات في بلديهما. فصعود بوتين جاء بعد سنوات من الانهيار الاقتصادي الروسي والحرب الدامية في الشيشان، وتراجع مستوى قوة روسيا إلى الدرجة الثالثة. كذلك جاء صعود إردوغان في أعقاب ثلاث أزمات اقتصادية، وفساد واسع النطاق بين النخب، وقتال بين قوات الأمن التركية وحزب العمال الكردستاني أودى بحياة الآلاف.

كان كلٌ من بوتين وإردوغان قد وعد بإنهاء الفوضى السياسية وتحقيق الرخاء. وقد حظيا في البداية بشعبية كبيرة. لكن بعد تحقيق الاستقرار والنمو، اتبع كلاهما نهج التسلط (…).

لقد مهَّدت قمة سان بطرسبرغ الطريق لبوتين لتقريب تركيا من سياسته الخارجية. أبرم البلدان سلسلة من الاتفاقيات- أولاً في سوريا ثم في ليبيا وجنوب القوقاز (…). في سوريا، على سبيل المثال، وافق إردوغان على وقف الحملات العسكرية ضد نظام الأسد، وبدلاً من ذلك حوّل انتباه الجيش التركي إلى وحدات حماية الشعب الكردي، شريك الولايات المتحدة في محاربة الدولة الإسلامية (داعش)، مما أثار غضب وحفيظة صانعي السياسة في أميركا، وخاصة البنتاغون.

بعد قمة سان بطرسبرغ، التزم إردوغان أيضاً بشراء نظام الدفاع الصاروخي “إس-400” من روسيا، برغم علمه جيداً أن ذلك سيؤدي إلى مزيد من التوتر في علاقاته مع الولايات المتحدة (…). وهكذا تمكن بوتين من خلق مشكلتين أساسيتين في العلاقة بين واشنطن وأنقرة؛ وحدات حماية الشعب وصواريخ “إس-400”؛ اللتين لا تزالان تعيقان العلاقات الأميركية ـ التركية حتى يومنا هذا، والتي يعتبرها العديد من المحللين الآن غير قابلة للحل.

القيصر والسلطان:

في الوقت نفسه، أعطت الشراكة المتنامية مع روسيا إردوغان أيضاً نموذجاً جديداً لتنظيم إدارته في الداخل. ومعها سيصبح بوتين مصدراً جديداً للدعم المالي لنظام إردوغان. فقد زوّدت روسيا تركيا بعشرات المليارات من الدولارات نقداً مع تأجيل الدفع. وبدأ إردوغان بنسخ أسلوب حكم بوتين مباشرة؛ مثل اتخاذ إجراءات قاسية جديدة للقضاء على أي تهديد جديد لسلطته؛ استهدفت ليس فقط مدبري الانقلاب المشتبه بهم، ولكن أيضاً الوسطيين والليبراليين واليساريين والاشتراكيين والقوميين الأكراد، وحتى المحافظين الذين عارضوه؛ وهي استراتيجيات لطالما اتبعها بوتين في روسيا.

في عام 2017، أطلق إردوغان استفتاء لتغيير النظام السياسي في تركيا، من ديموقراطية برلمانية إلى نظام رئاسي. دخل التغيير الدستوري حيز التنفيذ في تموز/ يوليو 2018، ومنح إردوغان سلطات تنفيذية جديدة، مما جعله في وقت واحد رئيساً للدولة والحكومة وأجهزة الشرطة والحزب الحاكم، بالإضافة إلى كونه قائداً أعلى للجيش. ومثلما حصل بوتين على سلطات تنفيذية واسعة في روسيا، أصبح إردوغان الآن أقوى زعيم منتخب في تركيا- في الواقع سلطان جديد. ومثلما فعل بوتين عندما قدَّم نفسه على أنه خليفة أعظم قياصرة روسيا، بدأ إردوغان أيضاً في تبني زخارف الرئيس الإمبراطوري للدولة التركية. بالفعل في عام 2014، تخلى عن “جانكايا”، المجمع الرئاسي المتواضع والمكتب التقليدي لرؤساء تركيا من قبله، لصالح “بيستيب”، وهو قصر ضخم يضم 1200 غرفة ومكتب في أنقرة. واستمر في إعادة توظيف قصور العصر العثماني في اسطنبول كمكاتب حكومية في محاولة لتصوير نفسه كـ”سلطان” عثماني جديد.

من جهة ثانية، كان لتحالف إردوغان مع روسيا عواقب وخيمة على الغرب. فمنذ عام 2016، سهَّل بوتين أربع عمليات عسكرية تركية في سوريا لتقويض “وحدات حماية الشعب”؛ الفرع السوري لـ”حزب العُمال الكردستاني”؛ مما عزَّز وجهة نظر النخب الأمنية التركية والجمهور على حدٍ سواء بأن روسيا هي صديق أفضل وأكثر إخلاصاً لتركيا من الولايات المتحدة. وفي الوقت نفسه، عزّزت صورة إردوغان في الداخل، حيث ينظر كثيرون إلى “حزب العمال الكردستاني” على أنه مصدر تهديد للأمن القومي.

في المقابل، عرض إردوغان على بوتين يد العون في حرب أوكرانيا. وعلى الرغم من أن أنقرة دعمت أوكرانيا عسكريا (المسيرات الحربية التركية ساهمت في منع سقوط كييف خلال المرحلة الأولى من الحرب الخاطفة)، إلا أن إردوغان أبقى العلاقات مع روسيا مفتوحة اقتصادياً. ومن خلال عدم انضمامه إلى العقوبات الغربية التي تقودها واشنطن ضد موسكو، تمكن بوتين من الوصول إلى الأسواق الدولية، كما استطاع أفراد الطبقة الأوليغارشية بتمضية إجازاتهم على الريفيرا التركية بعدما مُنعوا من السفر إلى كثير من العواصم الغربية.

رجل موسكو؟

وسط هذه الشراكة المتنامية مع روسيا، ليس من المستغرب أن يتمكن إردوغان من تحقيق “نصر حقيقي” في انتخابات أيار/ مايو. فالرئيس التركي استعان بكتاب “قواعد اللعبة” الذي يتبعه بوتين، ومنه استمد وحي التكتيكات التي استخدمها طوال الفترة التي سبقت يوم التصويت؛ مثل التحكم بمصير المرشحين الذين تنافسوا ضده والسيطرة على فضاء المعلومات (…). واليوم، يعتقد العديد من المواطنين الأتراك بأن إردوغان جعل تركيا عملاقاً صناعياً عسكرياً. وأن “إرهابيي حزب العمال الكردستاني يدعمون كيليجدار أوغلو”، على حد تعبيرهم. تماماً مثلما يعتقد عدد كبير من الروس بأن بوتين “يحارب النازيين” في أوكرانيا، وأنه أعاد روسيا إلى مجدها الإمبراطوري الضائع. كذلك اتبع إردوغان نهج بوتين عندما جعل العملية الانتخابية تميل لصالحه على حساب حرية التصويت والممارسة الديموقراطية (…).

في الوقت الحالي، هناك علاقة “وثيقة” بين إردوغان وبوتين. بالنسبة للرئيس الروسي، فإن إردوغان زعيم يشبهه في طريقة التفكير، ويشكل “عاملاً مساعداً” له في تحديه النظام الدولي. بالنسبة لإردوغان، قدم الزعيم الروسي نموذجاً لكيفية القضاء على المعارضة الداخلية والاحتفاظ بسلطة شبه مطلقة. هكذا، أصبح النظام السياسي في تركيا قريباً من النظام الروسي أكثر من أي وقت مضى، لجهة تحوله نحو دولة تنفيذية وأكثر مركزية من قبل. هذا على الرغم من الخلافات الجيوستراتيجية المستمرة بين أنقرة وموسكو، بدءاً من الصراع القبرصي؛ حيث روسيا وتركيا على طرفي نقيض؛ إلى ضم روسيا لشبه جزيرة القرم؛ الأمر الذي تعتبره تركيا أمراً غير مقبول. ولكن حتى مع وجود هذه الخلافات، يعرف بوتين أن تحالفه مع إردوغان “استثمار آمن” (…)، ويعوّل على أن تصبح تركيا شريكاً مطيعاً للكرملين. بالمقابل، فإن الانعطاف الاستبدادي لتركيا ومحور سياستها الخارجية تجاه روسيا هما الركيزتان التوأمين للإردوغانية.

إن فوز إردوغان في الانتخابات الأخيرة يعني أنه سيواصل تفضيل موسكو دولياً، مع الحفاظ على علاقات اقتصادية قوية معها وتزويد بوتين وأوليغارشيته بطرق حيوية لتجاوز العقوبات. لقد استغل بوتين انعدام الأمن الرئيسي لإردوغان في عام 2016، ولا يزال. فالرئيس التركي لا يزال يشعر أن قبضته على السلطة ضعيفة ويجلس على عرشه وهو قلق. وبوتين يعرف ذلك جيداً، ويستغل الوضع لجذب “السلطان القلق” نحو الفلك الروسي أكثر وأكثر.

………………..

– الترجمة بتصرف عن “فورين أفيرز“.

 (**) سونر كاجابتاي، مدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن. ومؤلف كتاب: “السلطان الجديد: إردوغان وأزمة تركيا الحديثة“.

ـــــــــــــــــــــــــ

* كاتبة صحافية ومترجمة لبنانية

المصدر: 180 بوست

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.