الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

البلقان مجدداً.. و”سلامُ” الأطلسي على المحك

سميح صعب *                                     

تاريخياً، البلقان برميل بارود. توترات ونزاعات وحروب آخرها عام 1999 عندما دمّر حلف شمال الأطلسي (من دون تفويض من الأمم المتحدة) صربيا وانتزع منها تنازلاً غير رسمي عن إقليم كوسوفو وأقام سلاماً هشاً محروساً بالآلاف من جنود الحلف. 

المسألة تتجاوز اعتراض الأقلية الصربية في كوسوفو على الإنتخابات البلدية التي أجريت في نيسان/ أبريل الماضي. ثمة جرح عميق لم يندمل منذ قرر الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون أن يقصف صربيا على مدى ثلاثة أشهر تقريباً لأن الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش أوشك على القضاء على تمرد الألبان في إقليم كوسوفو (لم تكن الفظاعات التي ارتكبها الجيش الصربي بأقل من الفظاعات التي ارتكبها المقاتلون الألبان الذين كانوا يخوضون حرب الإنفصال عن صربيا). في خلفية التدخل الأميركي عامذاك، خوف كلينتون من أن يؤدي نجاح ميلوسيفيتش في إخضاع كوسوفو إلى خروجه من اتفاقات دايتون التي أرست أيضاً سلاماً هشاً في البوسنة والهرسك (1995)، تحت النيران الأطلسية أيضاً. وليس هذا فحسب بل الخشية من تمكن ميلوسيفيتش القومي الصربي من إحياء الإتحاد اليوغوسلافي الذي تفتت بعد سقوط جدار برلين في خريف العام 1989.

بالنسبة إلى الغرب، شكّل إقليم كوسوفو اختباراً آخر لعصر الهيمنة الأميركية ونظام القطب الواحد، الذي نشأ بعد حرب الخليج الثانية التي قادها جورج بوش الأب وتفكك الإتحاد السوفياتي عام 1991. السردية الغربية للحرب في كوسوفو تبدو منزهة عن أية طموحات جيوسياسية وإنما كان الدافع إليها محض إنساني، ومبرراً من الناحية الأخلاقية لوقف “التطهير العرقي”.

الصرب المهزومون ارتدوا على ميلوسيفيتش وأسقطوه بالتظاهرات إلى أن جرى تسليمه تحت الضغوط الغربية إلى المحكمة الخاصة بيوغوسلافيا السابقة في لاهاي في 2001، ليموت في زنزانته عام 2006 في ظروف غامضة.

الغرب أغدق الوعود على صربيا ما بعد ميلوسيفيتش بالدخول في الإتحاد الأوروبي والاندماج الكامل في الأسرة الغربية. إنما الشرط الموصل إلى ذلك لا بد وأن يمر بكوسوفو. أراد الأوروبيون من بلغراد الاعتراف الرسمي بكوسوفو جمهورية مستقلة. وتجمدت العلاقات بين الإتحاد الأوروبي وحكومات متعاقبة في صربيا عند هذه النقطة.

ليس بالهين على أي رئيس صربي، مهما طغت ميوله الأوروبية، كما في حال ألكسندر فوتشيتش، أن يُوقّع على وثيقة استقلال كوسوفو، بكل رمزيتها القومية والدينية التاريخية. ومعركة عام 1389 ضد العثمانيين لا يزال القوميون الصرب يعتبرونها أقدس معاركهم. ولذا كوسوفو متجذرة في الوجدان الصربي، ولم يتنازلوا عنها في 1999، إلا مكرهين بالقوة الأطلسية.

ومع الاضطرابات التي استيقظت مع الإنتخابات البلدية التي أجريت في نيسان/ أبريل الماضي وقاطعتها الأقلية الصربية التي تعد 120 ألفاً وتتركز في شمال كوسوفو، أعلنت صربيا أقصى حالات التأهب على الحدود، بينما سارع حلف شمال الأطلسي إلى تعزيز قواته وحماية رؤساء البلدية الألبان الذين فازوا في الإنتخابات بمشاركة نحو 3,5 في المئة من الناخبين، الأمر الذي اعتبرته الأقلية الصربية تحدياً لها من قبل السلطات في بريشتينا التي يقودها ألبين كورتي المعروف بمواقفه المتشددة والرافضة تقديم أي تنازل لإرضاء الصرب.

بماذا تطالب الأقلية الصربية؟

القوى الغربية كانت وعدت هذه الأقلية بإقامة اتحاد للبلديات الصربية في ثلاث بلدات يشكل الصرب غالبيتها. لكن كورتي اعتبر أن إقامة الإتحاد سيكون بمثابة خطوة نحو إقامة حكم ذاتي للصرب، وهذا أمر مرفوض من قبله، لا بل أنه لا يزال يصر على إقامة وحدة فورية بين كوسوفو وألبانيا المجاورة، كحلٍ نهائي لمشكلة المنطقة من وجهة نظره. لكن الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لا توافقان على هكذا خطوة لأن من شأنها استفزاز بلغراد ودفعها إلى مواقف أكثر تشدداً أو المطالبة على الأقل بضم الأجزاء الشمالية من كوسوفو حيث يتركز صرب المنطقة.

التوتر في كوسوفو سابق لإجراء الإنتخابات البلدية. ففي مواجهة المماطلة من قبل بريشتينا في إقامة اتحاد البلديات، أقدم قضاة وموظفون إداريون ورجال شرطة من الأقلية الصربية على تقديم استقالة جماعية من مناصبهم في أواخر العام الماضي، كخطوة لفك ارتباطهم مع المؤسسات الألبانية.

وضغط الإتحاد الأوروبي على بلغراد وبريشتينا للدخول في مفاوضات لم تثمر عن تسوية توفق بين مطالب الأقلية الصربية والغالبية الألبانية. وأتت الإنتخابات البلدية وإصرار كورتي على تسلم رؤساء البلديات الألبان مناصبهم، لتفجر المواجهات بين المتظاهرين الصرب وجنود حلف شمال الأطلسي.

أميركا والإتحاد الأوروبي لا يريدان في الوقت الحالي تفجير نزاع في البلقان يُشتّت الانتباه عن النزاع الأوكراني. ويخشى الغرب أن يؤدي التعاطف الصربي التاريخي مع روسيا إلى تأزيم الأوضاع أكثر فأكثر. وبناء عليه، تمارس واشنطن ضغوطاً الآن على بريشتينا من أجل إعادة الإنتخابات البلدية، وأعربت عن معارضتها لتسلم رؤساء البلديات المنتخبين في مناطق الأقلية الصربية لمهامهم، على غرار ما حصل الأسبوع الماضي.

يرتبط الصرب الذين يطلق عليهم “السلاف الجنوبيون” بصلات ثقافية مع روسيا. وحتى في أيام حكم بوريس يلتسين، حال الكرملين دون استصدار قرار من مجلس الأمن يُجيز استخدام القوة ضد بلغراد، مما حمل الأطلسي على إتخاذ قرار أحادي بالتدخل.

وفي عهد فلاديمير بوتين توثقت علاقات روسيا أكثر مع صربيا. ورفضت موسكو وبكين الاعتراف باستقلال كوسوفو كدولة ذات سيادة على رغم إعتراف مئة دولة بها وإقامة تمثيل ديبلوماسي معها. لكن الفيتو الروسي يحول دون قبول كوسوفو عضواً في الأمم المتحدة. ويشارك ممثلوها في جلسات لمجلس الأمن أحياناً بموجب قانون يتيح توجيه دعوات لأشخاص.

وعندما هاجمت روسيا أوكرانيا لم تنضم صربيا إلى العقوبات الغربية على موسكو، برغم أنها صوّتت في الجمعية العمومية للأمم المتحدة لمصلحة التنديد بالهجوم. والدول المتشددة في الإتحاد الأوروبي دعت إلى تعليق مفاوضات الانضمام مع بلغراد للضغط عليها لتنضم إلى العقوبات. غير أن دولاً مثل فرنسا معروف عنها مواقفها المرنة حيال صربيا دعت إلى التريث ومواصلة الحوار.

وكان الرئيس الصربي من بين 50 زعيماً أوروبياً التقوا في كيشناو عاصمة مولدوفا، الخميس الماضي، لإعلان تضامنهم مع هذه الجمهورية السوفياتية السابقة في مواجهة ما وصفوه بالتهديدات الروسية. وفي أكثر من مرة صرّح ألكسندر فوتشيتش بأنه يعتبر القرم والدونباس أراضٍ أوكرانية. ومنذ اندلاع الحرب لم يتصل الرئيس الصربي هاتفياً ببوتين كي لا يستفز الغرب، في وقت لا يزال يُعلّق الآمال على قبول صربيا عضواً في الإتحاد الأوروبي، باعتباره الحل الأنجع لمعالجة مشاكلها الاقتصادية.

يبقى البلقان نقطة متفجرة. وأول حرب عرفتها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية كانت في يوغوسلافيا السابقة، قبل الحرب الروسية- الأوكرانية بعقود. وعودة التوتر الآن بين صربيا وكوسوفو مع الوجود الكثيف لحلف شمال الأطلسي، من شأنه خلط الأوراق في وقت كل اهتمام الحلف ينصب على الجبهة الأوكرانية وإلحاق الهزيمة بروسيا.

* كاتب وصحافي لبناني

المصدر: 180 بوست

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.