الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

التوتر الصيني الأمريكي.. رؤية من بكين

محمد المنشاوي *

تشهد علاقات الصين والولايات المتحدة توتراً متزايداً يميزه وقوع أزمة تلو الأخرى وذلك منذ وصول الرئيس السابق دونالد ترامب للحكم عام 2016، وتستمر خلال سنوات حكم الرئيس جو بايدن.

قبل أيام، رفضت الصين طلباً أمريكياً لوزير الدفاع “لويد أوستن” للقاء نظيره “لي شانج فو” في سنغافورة، هذا الأسبوع، خلال مشاركتها في «حوار شانجري ــ لا» Shangri La، وهو منتدى أمني هام، وذلك كي يتم الإبقاء على خطوط مفتوحة للتواصل العسكري بينهما لضمان عدم تحول المنافسة إلى صراع.

وتفرض واشنطن عقوبات على وزير الدفاع الصيني منذ 2018، وطالبت بكين أولاً برفع العقوبات عنه كشرط لعقد أي لقاء، وهو ما لا تستطيع إدارة بايدن الإقدام عليه في ظل الاستقطاب السياسي الداخلي، والإجماع الحزبي على خطورة التهديدات والتحديات الصينية.

قبل أيام، وقّعَ حاكم ولاية فلوريدا، والمرشح الرئاسي، رون ديسانتيس، على عدة مشاريع قوانين تحظر على المواطنين الصينيين شراء أراضٍ في الولاية في خطوة غير مسبوقة. ومنذ وصول بايدن للحكم قبل عامين ونصف العام، دشنت واشنطن لتحالف «إيكواس ECOWAS» الثلاثي مع بريطانيا وأستراليا، وتجمع «كواد» (Quad) الاستراتيجي الرباعي مع اليابان والهند وأستراليا، إضافة لتحالفها المتين مع اليابان وكوريا الجنوبية، ومؤخراً اتفاقيات دفاعية تضمن الوصول للقواعد العسكرية في الفلبين، وذلك كله بهدف مواجهة الصعود الصيني السريع اقتصادياً وعسكرياً.

وكمتابع للإعلام وأدبيات السياسة الخارجية الأمريكية، دفعني الفضول للتوجه للإعلام الصيني للاطلاع على رؤية بكين والنخبة الفكرية الصينية لطبيعة علاقات بلدهم مع الولايات المتحدة.

                                                                       *            *            *

احتفى الإعلام الصيني، الأسبوع الماضي، بعيد ميلاد هنري كيسنجر المئوي، إذ إن كيسنجر هو من أسس لعلاقات الدولتين الحديثة عندما قام بزيارة سرية، أثناء عمله مستشاراً للأمن القومي للرئيس ريتشارد نيكسون، إلى الصين عام 1971، ورتب زيارة نيكسون لبكين في العام التالي. هزت الزيارة توازن القوى العالمي، وأرست الأساس لإقامة علاقات دبلوماسية بين الصين والولايات المتحدة.

ولأكثر من خمسة عقود منذ ذلك الحين، ظهرت في أروقة السياسة الأمريكية تجمعات فكرية غير حزبية وغير رسمية تؤمن بأهمية الحفاظ على علاقات طيبة بين واشنطن وبكين، وهي ما أصبح يُطلق عليها «المدرسة الصينية» في السياسة الخارجية الأمريكية.

وخلال السنوات الست الماضية، صمتت «المدرسة الصينية» منذ ظهور ترامب، واستمر صمتها في أول عامين من حكم الرئيس جو بايدن. وحتى من قبل ظهور وتفشي فيروس كوفيد 19، تعرضت الصين لشيطنة شديدة من قبل مختلف الدوائر الأمريكية. ومع شن واشنطن «الحرب التجارية» ثم «الحرب التكنولوجية»، استمرت العلاقات الصينية الأمريكية في الانحدار وسط بروز أجواء تشبه مكارثية الخمسينيات من القرن الماضي.

ترى بكين أن رفض الدوائر البحثية والعلمية الأمريكية التعامل والتعاون مع نظيرتها الصينية سيؤدي لهدم فهم كل طرف لنوايا ومنطق الطرف الآخر، وهو ما يضر بمصالحهما المشتركة.

وقبل أسابيع، حاول باحث في العلاقات الدولية من جامعة شنجهاي ترتيب جدول زيارة لمدة أسبوع لعدد من الأكاديميين الصينيين لواشنطن على نفقتهم الخاصة، والالتقاء بنظرائهم في جامعات العاصمة واشنطن، إلا أن رد أربع جامعات مرموقة جاء سلبياً. في الوقت ذاته، ظهرت مجموعة ممن يطلق عليهم «الاستراتيجيون» في واشنطن وهم لا يتحدثون الصينية، ولم يدرسوا الشؤون الداخلية والخارجية للصين، بل يستمدون كل شيء من إيمانهم بالفلسفة السياسية للقوى العظمى. إنهم يعتقدون أنهم يحملون «الحقيقة» ويعتبرون أن معرفتهم بالصين أصبحت أمراً مفروغاً منه. وترى بكين أن هؤلاء يشوهون الصين، وينشرون المفاهيم التالية الخاطئة عنها: أولاً؛ يزعمون أن الصين قوة متمردة تريد تغيير أو حتى الإطاحة بالنظام الدولي القائم بسبب عدم الرضا عن الوضع الدولي الراهن. ثانياً؛ يجادلون بأن الصين تريد أن تحل محل الولايات المتحدة في قيادة العالم، ويعتقدون أن الصين لديها هدف استراتيجي طويل الأجل لتحل في نهاية المطاف محل الهيمنة الأمريكية من خلال تحسين قوتها. ثالثاً؛ يزعمون أن الصين تعتقد أن الولايات المتحدة في انحدار، ولا ينبغي للصين التردد في النهوض لملء الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة.

                                                                       *            *            *

ترى بكين أن العلاقات الأمريكية الصينية والتي تسيطر فيها على توجهات واشنطن عقلية الحرب الباردة والمتمثلة في معاملة الصين كمنافس، قد دخل نطاقاً حرجاً ومتعدد الأبعاد.

تكرر بيانات اجتماعات لجنة الأمن القومي التابعة للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، الإشارة إلى ضرورة استعداد الصين للتعامل مع أسوأ السيناريوهات والحالات القصوى فيما يتعلق بتايوان أو بحر الصين الجنوبي، حيث يمكن أن تصبح سياسة واشنطن تجاه الصين أكثر تطرفاً عندما تلوح انتخابات 2024 في الأفق.

ومن العلاقات الدبلوماسية إلى الشؤون العسكرية مروراً بالاقتصاد وقضايا التجارة، يسيطر التوتر على علاقات أقوى دولتين في عالم اليوم، وسط خشية عالمية من تحول التنافس إلى مواجهة فعلية. وترى بكين أنه لا ينبغي أن يكون لدى الصين «أي أوهام» بشأن تغيير الولايات المتحدة أو تحسين سياستها تجاه الصين، وتحذر من أن التنافس بين واشنطن وبكين سيزداد حدة في المستقبل.

وفيما يتعلق بمحددات سياسة واشنطن تجاه الصين، تؤمن بكين أن هناك مجموعتين من اللوبيات الأمريكية تحكم رؤية واشنطن لعلاقاتها مع الصين، إحداهما تمثل مصالح المجمع الصناعي العسكري الذي لا يرغب في رؤية أي تحسن في علاقات الدولتين. وتمثل المجموعة الأخرى مصالح الاقتصاد والتبادل التجاري، وهي مجموعة على استعداد للتعامل مع الصين لتطوير علاقة براجماتية، على أمل إيجاد طريق للتعاون عندما يظل التنافس قائما في بعض المجالات. كما ترى بكين أن واشنطن تشهد صراعاً حاداً بين هذه اللوبيات.

                                                                       *            *            *

في النهاية، تؤمن بكين أن سياسة الولايات المتحدة الحالية تجاه الصين إذا لم تتغير ستؤدي بلا شك إلى مشهد جديد للحرب الباردة مع مواجهة أكثر شراسة في المستقبل، مما قد يخلق وضعاً مأساوياً في آسيا، وربما يمتد ليشمل العالم كله.

* كاتب صحفي مصري متخصص في الشؤون الأمريكية

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.