منى فرح *
خلال العام الماضي، تركز اهتمام العالم على الحرب الروسية الأوكرانية والتصعيد بين الولايات المتحدة والصين بشأن تايوان؛ وهي نقاط اشتعال من شأنها أن تؤدي إلى مواجهة مباشرة بين القوى الكبرى أو حتى إلى حرب نووية. لكن القتال الدائر في السودان أيضاً حدثٌ من شأنه أن يُشعل موجة حروب مدمرة وحقبة جديدة من عدم الاستقرار والفتن في إفريقيا والشرق الأوسط وجنوب آسيا، بحسب “فورين أفيرز”(**).
منذ اندلاع القتال في السودان، في نيسان/ أبريل الماضي، أُجبر ما لا يقل عن 700 ألف شخص على الفرار من ديارهم، وقتل المئات، وجرح الآلاف. حتى الآن إنهار أكثر من قرار لوقف إطلاق النار بين الفصيلين المتحاربين: القوات المسلحة السودانية بقيادة اللواء عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع شبه العسكرية بقيادة محمد حمدان دقلو (المعروف باسم حميدتي) التي اشتهرت بإرتكاب الفظائع قبل عقدين من الزمن في دارفور. حرب الشوارع والانفجارات والقصف الجوي تدمّر العاصمة الخرطوم، والمعارك وصلت إلى وسط دارفور، حيث الميليشيات القبلية، مما يثير مخاوف جدية من توسع حدة الاقتتال ورقعته. ويبدو أن المعركة طويلة ودموية، ومن المرجح أن يتردد صداها إلى خارج حدود البلاد.
الطريق إلى الفوضى:
قصة السودان تبدو مألوفة. فبعد أن أطاحت الاحتجاجات بالرئيس السابق عمر البشير، وقعت البلاد ضحية لإرث المُستبد. حميدتي هو أمير حرب من دارفور ساعد البشير في حرب الإبادة الجماعية ضد المتمردين في تلك المنطقة ابتداء من عام 2003. وفي عام 2013، جمع البشير العديد من ميليشيات الجنجويد معاً تحت قيادة حميدتي وأعاد تسميتها باسم “قوات الدعم السريع”، مما عزَّز من قوة الوحدات شبه العسكرية وجعل منها “قوة احتياط” ضد أي انقلاب محتمل من الجيش على السلطة. كذلك استخدم البشير هذه القوات لقمع الانتفاضات في غرب السودان. أما البُرهان، فهو ضابط عسكري محترف شارك مع حميدتي في معارك دارفور، وكان موقفه الرافض للحكم المدني من أهم الأسباب التي أعاقت العملية الديموقراطية في السودان. اتحدت “قوات الدعم السريع” و”القوات المسلحة السودانية” لفترة وجيزة بهدف الإطاحة بالبشير، ثم استبعدت القادة المدنيين الذين تعهدوا بتقاسم السلطة معهم. في النهاية انقلب حميدتي وبُرهان على بعضهما البعض.
ظاهرياً، اندلعت أعمال العنف بسبب رفض حميدتي وضع قواته شبه العسكرية تحت قيادة القوات المسلحة السودانية. لكن الصراع على السلطة أعمق من ذلك بكثير (…). فكلا الطرفين غير مستعد للتخلي عن السلطة وفقدان السيطرة على موارد البلاد كما أنهما غير مستعدين لمواجهة العدالة بسبب الفظائع السابقة التي ارتكبوها.
إن ما نشهده في السودان مقلق بالفعل. تم ارتكاب الكثير من الفظائع بحق المدنيين في الماضي، لكن حرب المدن الدائرة اليوم لم يسبق لها مثيل. تفجر القتال بشكل مفاجئ في شوارع الخرطوم وأوقع ملايين السكان في مرمى النيران، وباتوا محاصرين في منازلهم ويكافحون من أجل الحصول على الطعام والماء والضروريات الأخرى. قوات حميدتي تحتمي بالمدنيين في المناطق النائية وسط العاصمة، وفي الوقت نفسه تمارس أعمال النهب بحجة البقاء على قيد الحياة مع انهيار خطوط الإمداد. في الوقت نفسه، يعمد الجيش إلى قصف المناطق المكتظة بالسكان بشكل عشوائي (…).
وكيل مجاني للجميع:
أثبتت خطوط الصدع الرئيسية في الشرق الأوسط أنها مدمرة بشكل خاص؛ لا سيما المنافسة المريرة على النفوذ الإقليمي بين إيران من جهة والسعودية وحلفائها من جهة ثانية، والمنافسة بين كل من السعودية والإمارات ومصر ضد قطر وتركيا. لسنوات، قلبت هذه الخصومات التحولات الديموقراطية رأساً على عقب وأطالت أمد الصراعات خصوصاً في العالم العربي والقرن الأفريقي (…). روسيا وتركيا، على سبيل المثال، تدعمان الأطراف المتعارضة في ليبيا وسوريا، وإلى حد ما في جنوب القوقاز، لكنهما تحافظان على علاقات ثنائية ودّية إلى حد ما، بل وتعاونتا حتى في التوسط لوقف إطلاق النار في سوريا. بشكل عام، على الرغم من ذلك، أدَّت المشاركة الخارجية المتزايدة إلى تعقيد الجهود المبذولة لإنهاء الحروب.
في السودان أيضاً، هناك مجموعة واسعة من القوى الأجنبية متورطة في الصراع الدائر حالياً وأكثر مما كانت عليه قبل عقود. لكل من حميدتي والبُرهان علاقات مع الخليج: السعودية والإمارات تدعمان قوات الأمن السودانية بعد سقوط البشير. وقد قاتلت وحدات حميدتي إلى جانب قوات التحالف الخليجية في اليمن، مما أكسب زعيمها حميدتي ثروة طائلة وسلطة، وهو لديه اليوم علاقات مع جهات فاعلة قوية في تشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى وعبر منطقة الساحل. كما تم ربطه بجماعة “فاغنر” شبه العسكرية الروسية وبالقائد الليبي الجنرال خليفة حفتر، الذي ربما يكون قد نقل أسلحة إلى الخرطوم خلال الأيام الأولى من القتال. من ناحية أخرى، يحظى البُرهان والقوات المسلحة السودانية بدعم مباشر من مصر.
كما لعبت قوى غربية اخرى دوراً في المأساة السودانية. يتهم ناشطون سودانيون واشنطن بتفضيل قادة مدنيين وترك آخرين خلال الفترة الانتقالية، ولا سيما لجان المقاومة التي دافعت عن الثورة. من الواضح أن القوى الغربية أهدرت فرصاً لدعم السلطة المدنية وانتظرت طويلاً لإيصال المساعدات المطلوبة في أعقاب ثورة 2019. كانت واشنطن أيضاً بطيئة جداً في رفع تصنيفها؛ الذي عفا عليه الزمن؛ للسودان كدولة راعية للإرهاب؛ وهي خطوة كان من الممكن أن تساعد القادة المدنيين عندما كانوا يمسكون بزمام السلطة مع قوات الأمن. لكن من غير الواضح الآن ما إذا كان بإمكان الحكومات الغربية تنحية حميدتي والبُرهان جانباً، بالنظر إلى قواتهما القوية والدعم الذي يحصلان عليه من الخارج.
كان انتقال السودان إلى الديموقراطية سيواجه دائماً معركة شاقة، نظراً لسياساته الداخلية المضطربة؛ والإرث الذي خلفه حكم البشير (…). لكن التدخل الأجنبي والدعم الخارجي الممنوح لكل من قوات حميدتي والبُرهان يجعل الأمر أكثر صعوبة.
سجل دموي:
إن أزمة السودان، شأنها شأن غيرها من الأزمات الأخيرة، تنطوي على العديد من مقومات الحرب التي طال أمدها. وفقاً للجنة الإنقاذ الدولية، تستمر الحروب الآن في المتوسط بمعدل ضعف ما كانت عليه قبل 20 عاماً وأربع مرات أطول مما كانت عليه خلال الحرب الباردة (…). حتى في الأماكن التي انخفضت فيها إراقة الدماء مؤخراً؛ مثل أفغانستان وليبيا وسوريا واليمن؛ لم ينتج عن التهدئة أي تسويات حقيقية أو حلول جذرية للكوارث الإنسانية التي طال أمدها. والسؤال هو ما إذا كان السودان سينضم الآن إلى هذه القائمة.
في الوقت الحالي، الصراع في السودان هو مواجهة بين طرفين رئيسيين، ولكن قد يتم جرّ أطراف أخرى إلى القتال. يمكن للمتمردين السابقين والميليشيات الأخرى، الذين رفضوا؛ حتى الآن؛ الانحياز إلى أحد الجانبين، أو على الأقل التحرك للدفاع عن أنفسهم. وكلما طال أمد الأزمة، زاد خطر انضمام عناصر من “القاعدة” أو “داعش”؛ وهما التنظيمان اللذان يسيطران على العديد من ساحات القتال الأفريقية الأخرى.
ويبدو أن الفصيلين المتحاربين مصممان على القتال حتى يكتسب أحدهما اليد العُليا الحاسمة، قبل التمهيد لأي محادثات يفرض فيها المنتصر شروطه (…). فبعد عقود من حكم البشير، أصبح جيش البُرهان ضعيفاً ومنقسماً. وسوف يكافح لاستئصال عشرات الآلاف من مقاتلي الدعم السريع المتحصنين في أجزاء من الخرطوم، بما في ذلك القصر الرئاسي والمباني الحكومية وأماكن أخرى. يبدو أن تحقيق انتصار حاسم لأي من الجانبين أمرٌ غير مرجح في المدى المنظور؛ وعندما سيأتي ستكون تكلفته هائلة يدفعها المدنيون دون سواهم.
إن حرباً طويلة الأمد في السودان ستكون مدمرة. فقبل تفجر الصراع، كان حوالي ثلث السودانيين (أكثر من 15 مليون شخص) يعتمدون على المساعدات. وإذا ما تفاقمت الأزمة الإنسانية وتحولت إلى كارثة، فقد يمتد عدم الاستقرار إلى البلدان المجاورة، التي هي نفسها غير مجهزة لإدارة الهجرة الجماعية المتسارعة للسودانيين الفارين من العنف والجوع أو تدفق المقاتلين عبر الحدود. علاوة على ذلك، فإن الموقع الاستراتيجي لساحل السودان على طول أحد الممرات المائية الأكثر حيوية في العالم، حيث يمر ما يقدر بنحو 10% من التجارة العالمية عبر البحر الأحمر كل عام، يعني أن انهيار البلاد سوف يتردد صداه في مناطق أبعد.
المشاهدة والانتظار:
ربما هناك بصيص أمل في الجغرافيا السياسية لأزمة السودان. المزاج السائد في العواصم العربية مدروس أكثر مما كان عليه قبل سنوات قليلة. لقد أعادت الرياض، على وجه الخصوص، المعايرة، وطوت صفحة خلافاتها مع قطر، وقررت إعادة العلاقات الدبلوماسية مع إيران. علاوة على ذلك، فإن القوى الإقليمية الأكثر انخراطاً في السودان (السعودية والإمارات ومصر) تعتمد خططها التنموية على الاستقرار في منطقة البحر الأحمر. وهذا يفترض أن يشكل دافعاً قوياً باتجاه تحقيق وقف لإطلاق النار. للرياض؛ على سبيل المثال؛ نفوذ مع كل من البُرهان وحميدتي، وعلاقاتها وثيقة مع الإمارات ومصر، وهذا يجب أن يشكل فرصة لكبح جماح الأطراف المتحاربة، لا سيما بدعم أميركي.
ليس من الواضح بعد ما إذا كان بإمكان القادة السعوديين منع مصر والإمارات من تقديم الدعم للبُرهان وحميدتي. هناك علامات توتر في العلاقات الودية عادة بين الرياض والقاهرة وأبو ظبي. كما أن العواصم العربية ليست الوحيدة التي يمكنها التأثير. تشعر الجارتان إثيوبيا وإريتريا بالقلق حيال عدم الاستقرار على طول حدودهما، وقد تتدخلان بشكل مباشر أكثر إذا فعلت مصر ذلك. حتى الآن، يبدو أن جميع القوى الخارجية، التي تخشى حرباً شاملة، تتصرف بشيء من ضبط النفس، ولكن إذا اتخذ أي طرف خارجي خطوة إلى الأمام، فسوف يتبعه الآخرون.
في الوقت الراهن، يبدو أن استمرار القتال هو السيناريو الأكثر ترجيحاً. يرى كل من البُرهان وحميدتي في الصراع “مسألة وجود”. وضباط القوات المسلحة عازمون على القضاء على قوات الدعم السريع. حتى لو أوقف الطرفان الاقتتال، فإن الخلاف حول من له السيطرة المطلقة على مستقبل قوات الدعم السريع؛ الذي أشعل الصراع؛ سيظل قائماً.
وبرغم أن احتمال تنحي البُرهان وحميدتي أمرٌ غير مرجح الآن، فإن الابتعاد عن الحكم العسكري بات حاجة ملحة من أجل أمن السودان واستقراره (…). هناك حاجة ماسة إلى حوار واسع يشمل المدنيين، وربما بقيادة الاتحاد الأفريقي، لصياغة أرضية مشتركة حتى مع انهيار وقف إطلاق النار. إن مجموعة الجهات الفاعلة؛ ذات النفوذ والمصالح المتضاربة؛ تجعل التنسيق بين الجهات العربية والأفريقية والغربية أمراً بالغ الأهمية. ومن الأهمية بمكان تفعيل دور الدبلوماسية، خصوصاً الأميركية، مع استمرار الجهود المبذولة لوقف القتال، من الولايات المتحدة، لتجنب وجود وكيل مجاني للجميع بين القوى الخارجية من شأنه أن يخنق كل أمل في التوصل إلى تسوية عاجلة وملحة.
لا ينبغي لأحد أن يقلّل من خطورة الانزلاق نحو صراع طويل الأمد وشامل في السودان؛ في المقام الأول بالنسبة للسودانيين ولكن أيضاً على نطاق أوسع. في الوقت الذي تضغط فيه أزمات أخرى على النظام الإنساني العالمي وتدفع به إلى نقطة الانهيار، وتستنزف الحرب الدائرة في أوكرانيا العديد من العواصم، لا يمكن للعالم أن يتحمل حرباً كارثية أخرى.
………………..
(-) ترجمة بتصرف عن “فورين أفيرز “
(**) النص من إعداد كومفورت إيرو، الرئيس والمدير التنفيذي لـ”مجموعة الأزمات الدولية”. ونائبه ريتشارد أتوود.
ـــــــــــــــــــــــــــ
* كاتبة صحافية ومترجمة لبنانية
المصدر: 180 بوست