سميرة المسالمة *
تستحقّ أي حركة سياسية النقد، وكذلك أية ثورة، بوصفها فعلا بشريا. وهذا إن كان يصحّ جداً على حراك المعارضة السورية قبل 2011، فهو يصحّ كثيرا على الثورة السورية ومجرياتها، وهو ما يفعله الكاتب السياسي علي العبدالله، ومنها مقاله في “العربي الجديد” وعنوانه “في حاجة المعارضة السورية للعقل السياسي” (24 /5 /2023)، وهو ما يحاوله كثر من الأصدقاء، في كتاباتٍ فردية، ومنها مقالات كاتبة صاحبة هذه السطور على صفحات الصحيفة نفسها. ومنها ما هو عمل جماعي على شكل نداءات سياسية صدرت قبل نحو سبع سنوات، سبقت خروجي من الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، مع مجموعة من الأصدقاء والزملاء، ومنهم ميشيل كيلو رحمه الله. وقبل ذلك مقالتي بعنوان “اعتراف واعتذار إلى الشعب السوري”، نشر على صفحات “العربي الجديد” (16 /12 /2016)، ضمّنته انتقاداتي وقطيعتي مع “الائتلاف”، ومع الارتهانات الخاطئة التي اشتغلت عليها الكيانات السياسية والعسكرية التي تحكّمت بمسارات الثورة السورية. بيد أن المقال المذكور دفعني إلى كتابة هذه المساهمة، للتوضيح، في نقاط، أهمها:
أولاً، يكتب العبدالله عن “تسلّم حزب البعث السلطة، وإغلاقه المجال العام وفرض رؤيته السياسية دينا للدولة عبر كمّ الأفواه والملاحقات والبطش بالمعارضة باسم القومية والتقدّمية”، وأن الأحزاب في سورية عملت “على تعزيز مواقفها وتقوية حضورها وتثبيته وزيادة وزنها في المعادلة الداخلية بإقامة تحالفاتٍ سياسية، “التجمع الوطني الديمقراطي” و”إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي”. لكن حاصل نضالها بقي متواضعا، وتأثيره في الواقع ضعيف”. وهو محق في ذلك، وأعلم أنه أحد أعلامها، لأن النظام ببعده السلطوي احتكر السياسة، وحرمها على شعبه من غير البعثيين إن صحّ أنه سمح لهم بذلك. ولكن، على كل حال، تبيّن لنا نحن الذين كنّا نسير في عباءة النظام أن الواقع السوري يفتقد إلى مكانة “المواطنة”، أو حقوق المواطن التي نعيشها في واقعنا الاغترابي الأوروبي، لاجئين أو مواطنين غير أصليين.
ولكن ما رسم الدهشة لديّ أن الكاتب في فقرة تالية يذهب إلى حالة تفاؤل، تنطوي على مبالغة، بقوله: “فتحت ثورة الحرية والكرامة أمام هذه الأحزاب فسحةً واسعةً للعمل السياسي عبر مساحة الحرية التي أتاحتها، بتحدّيها القيود والمحدّدات السلطوية وكسرها حاجز الخوف وفتحها المجال العام … والصدع بالآراء والمشاركة بالأفعال، الفردية والجماعية، ومنحتها فرصة كبيرة لأخذ موقع في عملية التغيير السياسي الذي بشّرت به طويلا”، ثم تأخذه تلك المبالغة إلى نتيجة مُحبطة إذ يكتب: “كشفت التجربة العملية واقع هذه الأحزاب، وما يكتنفه من نقاط ضعف وفقر نظري وعجز عملي … بل وأظهرت أيضا عمق الفجوة بينها وبين قاع الهرم الاجتماعي…”. وأعتقد هنا أن النتيجة لا يمكن أن تكون حاصل مسار طبيعي لمقدّمة المقال، إذ لم تعرف سورية حياة سياسية حقيقية، وحتى المجموعات التي تشكّلت كأحزاب تم استئصالها، بخاصة منذ مطلع الثمانينيات، وينطبق هذا على الحزب الشيوعي المكتب السياسي” ومنظمة العمل الشيوعي والإخوان المسلمين. وعليه، انطلقت الثورة السورية بشكل عفوي، ولم تكن ثمّة قوى سياسية تستطيع أخذ زمام المبادرة، والتحكّم بمسارات ذلك الانفجار، وبخاصة أنها لحقت بالثورة وجاء بعضها متأخراً إليها.
ثانياً، يكتب علي العبدالله: “وحدها الجماعات الإسلامية، الإخوانية والسلفية والمشيخية، اخترقت هذه الفئات الاجتماعية بنسبٍ متفاوتة، ما أتاح لها التأثير على مجريات الثورة وتوجيه قطاعاتٍ من قواها نحو رؤاها وأهدافها الخاصة”. وأعتقد أن التيارات الإسلامية أكثر قدرة على التعاطي مع القطاعات الشعبية، لكن ذلك لا يفسّر وحده هيمنة الإسلام السياسي بتنويعاته على الثورة السورية، فذلك يعود إلى ضعف التيارات اليسارية والقومية والعلمانية والليبرالية، بسبب السياسات التي انتهجها النظام، بما فيها تدعيم تيارات إسلامية وظيفية، متنوعة، موالية ومعارضة له، أو تخليقها. وإلى مداخلات ما يعرف بـ “أصدقاء سوريا”، من الداعمين الخارجيين، الذين صبّوا جهودهم على تشكيل فصائل عسكرية جلّها بصبغة إسلامية، بل هؤلاء الداعمون هم الذين تحكّموا بتشكيل المجلس الوطني، وبعده الائتلاف الوطني.
ثالثاً، يكتب العبدالله “برّر قادة الأحزاب السياسية ضعف أحزابهم وقلة خبرة كوادرهم بالقمع الوحشي الذي تعرّضوا له طوال عقود من حكم “البعث”، ما قاد إلى انعدام فرص اكتساب الخبرات والوعي السياسي. قول وجيه، لكنه غير كاف…”. لكنني، وبحكم عملي في الإعلام السوري سابقاً، أعتقد أن هذا القول جانب الصواب أو على الأقل بالغ في وصف ما كان بالأحزاب والقيادات لها، إذ لم يعرف الشعب السوري أحزابا بمعنى الكلمة، وهذه نقطة خلاف أساسية مع العبدالله، وتشكّل منطلق مقاله، إذ توجد مجموعات سياسية محدودة، وممنوعة، وفقط، من دون عمل سياسي سرّي أو علني، منذ نصف قرن. وقد تعرّض الكاتب علي العبدالله نفسه مع ولديه للسجن بسبب نشاط من هذا النوع، بسبب انتهاج النظام السوري سياسة استئصالية باستخدام أقصى القمع كما يصفها زملاؤنا المعارضون.
واعتبر الكاتب أن قادة تلك الأحزاب المفترضة “برّروا فشلهم في التحوّل إلى قوة رئيسة في الثورة والنجاح في تحقيق أهدافها في الحرية والكرامة بالعسكرة والأسلمة. كلام تبريري أكثر منه تقديرا واقعيا، فالعسكرة بدأت ممارسة محلية ومحدودة تحت شعار حماية التظاهرات من قوات النظام والشبّيحة قبل أن تتحوّل إلى الجهد الرئيس في الصراع… الأحزاب إما غضّت الطرف خوفا من ردّ فعل المتظاهرين، وحرصا على صورتها، طرفا في الثورة أو طرفا داعما لخياراتها وتوجّهاتها، أو أيدت العسكرة باعتبارها وسيلةً مناسبةً لحسم الصراع مع النظام في زمن قصير. وهذا يجعلها مسؤولةً عن تنامي العسكرة وهيمنتها على المشهد”. يصحّ هذا الكلام عندي جزئيا، لكنه ليس أساسيا، فهو لا يلحظ الفرق في التحوّل نحو العمل المسلح، بين ظاهرة عفوية وشعبية، بدأت من المنشقين عن الجيش، الرافضين إطلاق النار على شعبهم، ومع من يريد أن يدافع عن أهله وقريته وحارته، وظاهرة أخرى تمثّلت في تشكيل دول عربية وإقليمية (أو بدعم تشكيل) فصائل عسكرية، ذات صبغة إسلامية، الأمر الذي طبع الثورة بطابعها وأيضا جعلها رهينة للداعمين الخارجيين على تنوعهم، أميركي – غربي – عربي (وضمنهم تركيا).
رابعاً، يرى العبدالله محقّا أن “التحدّي الأساسي الذي يواجه الأحزاب والمؤسّسات السياسية السورية المعارضة … وضْع تصوّر واضح لمسيرة الصراع ونهايته، ما يتيح معرفة الأدوات والوسائل المناسبة … فقد ركّزت على العموميات، مثل الحرية والمواطنة والديمقراطية … من دون امتلاك تصورات لطرق تحقيقها أو خبرات للتخطيط والحشد والتنفيذ، وخاضت الصراع على قاعدة ردّ الفعل على قرارات النظام ومواقفه، لا على تصوّر مدروس وخطط عملية. وعندما اكتشفت عدم جدوى سرديّتها وأدواتها في مواجهة التطورات لم تنحَز إلى المراجعة والتقويم وإعادة النظر…”. واعتراضي هنا يتمحور في قوله: “لو أدركت هذه الأحزاب الحاجة إلى تجديد سردياتها أو تعديلها أو تغييرها وانخرطت في الثورة مباشرة، واشتغلت على التخطيط للمسار وأدواته … من موقع الشريك الفاعل، وقدّمت لها بدائل أكثر جدوى، لكانت شدّت انتباه المجتمع، وأقنعته بقدرة الثورة على النصر، ما سيدفعه إلى الالتحاق بها وتشكيل كتلة حرجة تجعل حسم الصراع في المتناول …”. وهذه عودة إلى حديث عن أحزابٍ مفترضة، أو متخيّلة، أكثر مما هو حديث عن أحزابٍ متعيّنة، ومتمثلة في كتل اجتماعية من الشعب السوري، وهذه نقطة خلافية غاية في الأهمية مع التفهم والتقدير لمقاصد الكاتب، فالخلاف ليس مع ما يقوله من توصيفات، وإنما من تحميل ذلك على الواقع السياسي السوري المبعثر.
باختصار، ألفت الانتباه هنا إلى مسألة غاية في الأهمية، أن فشل الثورة السورية لا يعود فقط إلى غياب القيادة السياسية، أو الكيانات السياسية، الواعية والمجربة، والمرتبطة بشعبها، على أهمية ذلك كله، وإنما يعود، أساساً، إلى المداخلات الخارجية، وضمنها مما يسمّى معسكر “أصدقاء الثورة السورية” عربا وإقليميين ودوليين، التي قيدت مسارات الثورة وخطاباتها وتلاعبت بها، فالعامل الخارجي (مع غياب الداخلي أو ضعفه) كان هو العامل المقرّر في ذلك كله، فواضح أن النظام الدولي والعربي هو الذي تساهل مع قتل النظام الملايين من شعبه وتشريدهم، وهو الذي سمح وسهّل لإيران ومليشياتها ولروسيا دخول سورية شركاء للنظام، وهذا بالتأكيد ليس بعيداً عن رقابة و”كونترول” كل من الولايات المتحدة وإسرائيل.
القصد أنه حتى مع وجود قوى ثورية فاعلة ووازنة في سورية، ما كان يمكن السماح بتغيير سياسي، وهو ما لم يتم السماح به، ليس في سورية فقط، وإنما في مصر وتونس واليمن والسودان والجزائر وليبيا والعراق ولبنان، أيضاً. فقط ربما كان في الوسع تجنيب الشعب السوري مخاطر العمل المسلح، وتمزيق المجتمع السوري باسم الأسلمة، أو الفصائل التي تتغطّى بالإسلام السياسي، وكان يمكن الحفاظ على الشعب السوري على أرضه، وتجنيبه مآلات اللجوء والتشريد، وهي أحد تداعيات انفجار الصراع المسلح في سورية، الذي لم نستطع التحكّم به، بسبب سياسات النظام العنفية، وبسبب الظرف العربي والإقليمي والدولي، وأيضا بسبب افتقادنا قوى سياسية فاعلة ومجرّبة، ومنها الأحزاب المعارضة التي يشير لها المقال.
شكرا للكاتب علي العبدالله الذي دفعني إلى كتابة هذا التوضيح، مع كل التقدير لشخصه ولما يكتبه.
* كاتبة وصحفية سورية
المصدر: العربي الجديد