مرت الذكرى الخامسة والسبعين لنكبة العرب في 15 أيار/ مايو الفائت، لم تكن تلك النكبة هزيمة عسكرية فحسب لجيوش عربية أمام العصابات الصهيونية، فقد كان حينها عدد جالية المستوطنين اليهود في فلسطين ليس أكثر من 650 ألف، في الوقت الذي كان عدد سكان مصر لوحدها في ذلك الحين 19 مليون ، إلا أن هزيمة العرب كانت نكراء واستحقت اسم النكبة بسبب السقوط الأخلاقي الذي حصل حينها، فقد تكشفت الكثير من الوثائق التاريخية عن 3 لقاءات بين الملك عبد الله الأول ملك الاردن بغولدا مائير التي كانت في ذلك الوقت رئيسة الدائرة السياسية فى الوكالة اليهودية، قبل 15 ايار/ مايو 1948، إضافة إلى صفقات الأسلحة الفاسدة من دبابات وبنادق ترَبّح من ورائها الملك فاروق على حساب أراضي و مقدسات الفلسطينيين، وحتى على حساب جيشه الذي حوصر في الفلوجة، كانت النكبة ليست هزيمة عسكرية مني بها جيش الانقاذ أمام عصابات الاحتلال بل هزيمة أخلاقية نظراً لتخلي حكام العرب حينها عن فلسطين والشعب الفلسطيني، فمنذ ذلك الوقت تتوالى النكبات على القضية الفلسطينية نكبة تلو أخرى، إذ أن ذلك التخلي وليست الهزيمة هو النكبة الأكثر ألماً في التاريخ الفلسطيني.
في حالتنا السورية ربما كان لنا أيضاً موعد مع نكبة أخرى وفي نفس الشهر الفائت، فكان هو شهر التخلي عن سورية وشعبها وثورتها، فعلى الرغم من كل الإرهاصات التي سبقت اجتماع القمة في جدة، سواء تلك الإرهاصات المتعلقة بإعادة بعض العلاقات مع النظام من قبل بعض الأنظمة أو تلك التي بدأت في بداية الثورة بالتدخل بالدعم بالمال والسلاح المشروط، لكن القمة العربية شكلت علامة فارقة في القضية السورية، فبعد ان جمدت الجامعة العربية عضوية سورية لمدة 12 عام، بناءً على حقائق مؤكدة من لجنة جامعة الدول العربية نفسها بأن النظام استخدام العنف المُفرط ضد المتظاهرين بداية الثورة، وكان حينها قد استخدم فقط الرصاص الحي والاعتقال والتعذيب؛ لكن شكلت إعادته بعد تجريب مختلف صنوف الأسلحة بما فيها الكيماوي والقنابل العنقودية والفراغية، وفوق ذلك ومعه 13 مليون مهجر سوري وقرابة مليون شهيد، ومئات آلاف المعتقلين والمُختفين قسرياً، إنها قمة كانت بحق نكبة على سورية وشعبها، وقد تأسست كما سابقتها الفلسطينية على التخلي اللاأخلاقي عن الشعب السوري مقابل مكاسب آنية ولحظية لن تلبث أن يثبت الواقع زيفها وهشاشتها .
ترافقت هذه النكبة/ القمة مع حدث الانتخابات التركية التي تابعها السوريون سواء المقيمون منهم في تركيا كلاجئين سوريين أم خارجها لتكون من حيث النتيجة والمآل كأفضل انتخابات في تركيا الحديثة، ليس لأن الحزب الحاكم وحزب الرئيس هو الفائز، أو الحزب المعارض الخاسر للرئاسة والبرلمان صارا أكثر ديموقراطية وليبرالية، بل لأن الحزبين ومعهما بقية الأحزاب الحليفة، التزموا بأن تكون صناديق الاقتراع هي الممر الإلزامي الوحيد للسلطة، الذي يسلكه الجميع، من دون أن تشوبه أي شائبة، ولا أي شكوى، ولا أيَ شك طبعاً.
لكن التمهيد لهذه الانتخابات وسياقات الإعداد لها واقعياً في تركيا جعلت من هذا الشهر (أيار/ مايو) أيضاً شهراً مليئاً بالآلام والأوجاع على اللاجئين السوريين، أضيفت إلى تلك التي صنعتها القمة في جدة، فمن جهة كان الخطاب العنصري المقيت الذي سبق الانتخابات والممتلئ بالكراهية، المؤذي للكرامة الإنسانية والذي استخدمه بعض المرشحين وداعميهم، ومن جهة أخرى لأن الثورة السورية لم تستطع وبعد 12 عاماً أن تكحل عيون السوريين بصندوق انتخابات شفاف أو صراع سلمي على السلطة بالتحالفات بين الكتل وليس بالدبابات والدماء، ولم يُقدّر للسوريين إلى الآن مع كل الأثمان التي تم دفعها أن يحظوّا بفرصة يختاروا فيها حكامهم أو ممثليهم على الأقل، بطريقة تكون فيها صناديق الاقتراع هي الممر الإلزامي الوحيد لتولي المسؤوليات، ويسلكه الجميع، من دون أي تشويه أو شائبة أو شكوى- على طريق حرية وتحرير سورية- كما حصل بالتجربة الديمقراطية التركية الأخيرة.
فإذا لم تكن تلك هذه هي الديموقراطية الحقة، فما الذي يمكن أن توصف به التجربة الانتخابية النموذجية الفريدة التي خاضها الأتراك، وقد وضعوا بلادهم في مصاف الدول الغربية المتقدمة في ثقافتها السياسية، في ما يبدو أنه تعبير عن توقٍ دفينٍ للانتماء إلى ذلك الغرب؟ فهل تكون تلكم التجربة السياسية الديمقراطية التركية حافزاً لنا جميعاً (فلسطينيين وسوريين وعرب)، وتشكل نموذجاً لأمل بمستقبلٍ ديمقراطي واعد، بعد تحرير البلاد من محتليها ومستبديها وارتباطاتهم؟