عبدالحميد فحام *
بعد سنوات من التردد والتذمر، قررت الدول العربية إخراج النظام السوري من عزلته وإعادته مرة أخرى إلى الصف العربي بعد أن أعلن وزراء خارجية الدول العربية في وقت سابق من هذا الشهر أنه سيتم إقرار إعادة النظام السوري ليشغل مقعده في الجامعة العربية من جديد، بعدما قامت بتعليق عضويته في عام 2011.
في ذلك الوقت، أصبح نظام بشار الأسد منبوذاً إقليمياً بسبب قمعه الوحشي لانتفاضة شعبية في البلاد، والتي أدت في النهاية إلى مقتل نحو نصف مليون شخص وتشريد 13 مليوناً آخرين. في نهاية المطاف، انتهت فترة الحظر وعاد المقعد إلى النظام ليشغله من جديد.
يمثل هذا القرار النتيجة النهائية لمناقشات شائكة بين حكومات الدول العربية حول كيفية التعامل مع المأساة السورية.
ومع ذلك، يبدو أن هذا القرار سيخلق مشاكل أكثر من الحلول التي أوجدها. فحتى المسؤولون العرب الذين يدعمون التطبيع الدبلوماسي التدريجي مع النظام السوري يشعرون بعدم الارتياح تجاه الطريقة الفوضوية التي جرت بها هذا العملية ويحترسون من نتائجها.
إن إعادة قبول النظام السوري في جامعة الدول العربية سمحت للأسد بالسفر إلى السعودية لحضور قمة الجامعة في 19 أيار/ مايو.
وظهوره يقدم لمحة عن عيوب التسرع الحالي في عملية التطبيع: فقد ظهر هادئاً ومنتصراً خلال الزيارة، وقام بمصافحات وتبادل ابتسامات مع قادة عرب بارزين.
خلال خطابه، انتقد الهيمنة الغربية ودعا إلى حماية الهُوِيّة العربية، دون أن يشير إلى معاناة سورية الخاصة وظروف شعبها.
كما أحجم عن ذكر القضايا التي تشغل بال مضيفيه العرب بشكل رئيسي: تحوُّل سورية إلى مصدر رئيسي لتهريب المخدرات في المنطقة، وتقاعُسها في استعادة اللاجئين، والحرية التي تتمتع بها الميليشيات المدعومة من إيران في عبور أراضيها.
في حين من المحتمل أن يحدث تحسن في وصول المساعدات الإنسانية والظروف الاقتصادية في بعض أجزاء سورية، فإن إعادة تأهيل الأسد من قبل الدول العربية ستعجل فقط بالتوجهات الخطيرة في المنطقة.
وسيستخدم النظام الدعم العربي لدعم استراتيجيته الوحشية لتعزيز سلطته.
كما يهدد هذا التطبيع موقف الجماعات الكردية في شمال شرق سورية، وقد يسرع من انسحاب الولايات المتحدة، مما يؤدي إلى تجدد نشاط تنظيم داعش. إنه يمنح السياسيين الشعبويين في المنطقة ذريعة لتصعيد الهجمات على اللاجئين السوريين، حتى ولو قام الأسد بالقليل لتسهيل عودة اللاجئين إلى سورية. ويتم الترحيب بهذا التطبيع من قبل إيران وروسيا، اللتين تريان في تطبيع نظام الأسد فرصة لاستعادة بعض مصاريفهما في دعمه وترسيخ تأثيرهما في قلب العالم العربي.
البيت المنقسم:
استفاد الأسد من المشهد السياسي المتشظي في الشرق الأوسط، مما حال دون توحيد أعدائه الكثيرين حول استراتيجية عسكرية أو دبلوماسية مشتركة تجاهه. فمنذ عام 2018، قامت عدة دول بإطلاق مبادرات لـ”إعادة سورية إلى الصف العربي”، ولكن هذه الجهود لم تحقق تقدماً بسبب التوجهات المتباينة بين الدول العربية والمعارضة الغربية.
ولكن في وقت سابق من هذا العام، بدأت العملية تكتسب زخماً بسبب تغير في السياسة السعودية.
إن ضمانات التوجهات المتباينة داخل العالم العربي كانت هي نفسها تضمن عودة النظام السوري إلى الجامعة وسرعان ما تخلت الحكومات عن مواقفها الحذرة السابقة في السعي إلى تجاوز منافسيهم الإقليميين في قبول إعادة تأهيل الأسد.
في عام 2018، أصبحت دولة الإمارات أول دولة تقبل إعادة تأهيل الأسد دبلوماسياً.
وكان الدافع وراء اقترابها من الديكتاتور السوري هو الرغبة في احتواء تركيا واستيعاب الحليف الوثيق للأسد، روسيا، وإنهاء نهائي لعصر الانتفاضات الشعبية.
على الرغم من أن هذه الجهود حظيت بدعم من سلطنة عمان والبحرين والعراق والجزائر، التي كانت حريصة على الإعلان عن عودة سورية إلى قمة جامعة الدول العربية التي استضافتها في عام 2022، إلا أن الإمارات لم تتمكن من جمع الدول الأخرى خلف نهجها الخالي من الشروط.
كان الأردن أيضاً مؤيداً منذ البداية للتواصل مع الأسد، حيث كانت عمّان تشعر بالقلق من أن التدخل الروسي الوحشي في شمال سورية في عامَيْ 2015 و2016 قد يتكرر في الجنوب، مما يتسبب في تدفق كبير للاجئين عبر حدودها.
كما كانت تخشى عواقب انسحاب الغرب: كانت واشنطن حريصة على إنهاء دعمها للفصائل السورية في جنوب سورية والتركيز على الحملة ضد تنظيم داعش في شرق سورية والعراق.
في عام 2018، وافقت عمّان على عودة قوات النظام المضمونة من قبل روسيا إلى جنوب سورية على أمل أن تُعدّل موسكو سلوك الأسد وتضمن بعض الاستقرار في المنطقة.
ولكن عمّان تعلمت بسرعة تكلفة هذا الرهان حيث تخلى النظام عن وعوده بالمصالحة مع مجموعات المعارضة المحلية، والضمانة الروسية لم يكن لها أي معنى.
وبدلاً من ذلك، أصبح جنوب سورية منطقة غير مستقرة بشكل أكبر: فهي ممر لعملية تهريب المخدرات تبلغ قيمتها عدة مليارات من الدولارات يشرف عليها النظام، وملاذاً آمناً لتنظيم الدولة الإسلامية والخلايا المتطرفة، ومسرحاً للميليشيات الموالية لإيران.
وكنتيجة للاتفاق مع دمشق في عام 2018، أصبح الأردن أكثر تعرضاً لعواقب الصراع السوري، وأصبح أكثر تشكُّكاً في قدرة الأسد واستعداده للتوصل إلى تسوية، وأصبح أكثر حذراً في إثارة استياء شركائه الغربيين.
ونتيجة لذلك، صممت عمّان عملية دبلوماسية تدريجية ومتعددة الأطراف تشترط تقديم تنازُلات قابلة للتحقق من قبل النظام مقابل تحسين العلاقات مع نظام سورية.
ولم تلاقِ هذه الخطة أكثر من الاهتمام المصري وبعض الدول الغربية. ولقد تعثرت جهود الأردن بسبب عدم التنسيق بين حلفائها العرب: فقد اختلفت الإمارات فيما يتعلق بإصرار الأردن على وضع شروط للتطبيع مع الأسد، وكانت السعودية، التي كانت في ذلك الوقت معارضة لأي نوع من التطبيع، لا ترغب في أن تكون سياساتها محددة من قِبل دولة أخرى.
وهذا حرم عمّان من امتلاك القدرة على المساومة. وبمراقبة هذه التوجهات المتباينة بين الدول العربية، لم يرَ الأسد أي سبب يجعله يأخذ الاقتراح الأردني على محمل الجد.
محور الرياض الدبلوماسي:
استغرق التوجه الجديد في الرياض وقتاً لبدء العملية. فحتى قبل بضعة أشهر، كانت المملكة العربية السعودية مصممة جداً على عدم التطبيع وكان للسعوديين تاريخ مرير من المفاوضات مع نظام الأسد، فكانوا يعتقدون أن التطبيع مع سورية سيعني الاعتراف بنجاح إيران، حليف الأسد وعدو السعودية ولأنه خلال الحرب السورية، أساء الأسد أيضاً إلى قادة السعودية مراراً واتهمهم بأنهم وراء صعود تنظيم داعش، وهو اتهام استاءت منه الرياض بشدة.
قد لا يكون لدى القادة السعوديين حب تجاه الأسد، ولكن عوامل أخرى دفعت لإعادة احتضان النظام السوري في المنطقة.
إن إعادة ضبط الأمير محمد بن سلمان لسياسة المملكة الخارجية، حيث يسعى إلى حماية خططه التنموية الاقتصادية العريضة من عدم الاستقرار الإقليمي، كانت الدافع وراء قراره بتقليل المنافسة مع تركيا وإيران وتقليل انخراط السعودية في مناطق النزاع.
كما أنه شعر بالإحباط من الولايات المتحدة، التي يراها غير موثوقة ومتعالية، وهي في طور تقليل التزاماتها الأمنية في الخليج.
وبدلاً من الاعتماد على واشنطن، يرغب بن سلمان في العمل مع الصين وروسيا في المجالات ذات المصلحة المشتركة، مثل سياسة الطاقة.
بالنسبة للأمير الوريث، فإن سورية تُشكّل إزعاجاً ورثه من سلفه وتشتتاً عن أجندته التي تعتمد على التحوّل الاقتصادي. ومن خلال التوقف عن متابعة السياسة السابقة للسعودية تجاه سورية، فإنه يلوم الأجيال السابقة من القادة السعوديين الذين استثمروا بشكل كبير في الشؤون الإقليمية دون تحقيق نتائج ملموسة. بالنسبة للمعارضة السورية، فقد تضاءلت قوتها بشكل كبير بسبب الهزائم العسكرية والفشل السياسي، لذا لم يعد بحاجة للقلق بشأنها. وباء على ذلك فقد كانت قمة جامعة الدول العربية في 19 أيار/ مايو منصة لعرض القيادة السعودية لسياستها في الجامعة العربية، وإعادة قبول النظام السوري في الجامعة كان يُمثل فرصة دبلوماسية سهلة التحقيق.
لقد أودى زلزال شباط/ فبراير بحياة عشرات الآلاف في شمال غرب سورية وجنوب تركيا وهو ما قدم الفرصة لهذا التحول الدبلوماسي.
فخلال الأزمة، قدمت الرياض المساعدة الإنسانية العاجلة للمناطق التي تحت سيطرة النظام السوري، مما أتاح ذريعة للتواصل المباشر مع الأسد.
وتخفيف العقوبات الغربية لتيسير تدفق المساعدات الإنسانية إلى سورية كان أيضاً مناسباً للرياض، حيث أتاح لقادة السعودية فرصة لتسليط الضوء على كيفية وصول السياسة الغربية إلى طريق مسدود.
الاندفاع لإعادة الإدماج:
بمجرد أن قررت السعودية تطبيع العلاقات مع الأسد، حاولت الأردن ومصر أن تبطئ السعوديين في العديد من الاجتماعات.
وقد حظيت كل من عمّان والقاهرة بدعم الكويت، التي لا ترغب في إزعاج الولايات المتحدة، حليفتها الرئيسية، والتي تتعرض لقيود من قوى محلية معارضة للأسد؛ وأيضاً بدعم قطر، حيث يظل الأسد منبوذاً بالنسبة لهم.
وقد أشارت هذه الدول إلى أن الأسد سيعتبر عودة النظام السوري بدون أية شروط إلى جامعة الدول العربية تسليماً من جانب الدول العربية لسياسات الأسد.
لم تكن هذه الاختلافات صعبة إلى درجة لا يمكن التغلب عليها؛ لأن جميع هذه الدول لديها أمور أكبر وأكثر أهمية تشغل بالها.
حيث تمر مصر بأزمة اقتصادية خطيرة أيضاً وفترة من التوتر مع دول الخليج. والأردن تواجه تحديات اقتصادية مماثلة ويشعر الأردنيون بالقلق بشأن التطورات في إسرائيل، حيث هناك تحالف سياسي يميني متشدد، وفي الضفة الغربية حيث يظل تجدد الانتفاضة احتمالاً وارداً.
لا يمكن لكِلتا الدولتين أن تتحمل مخاطبة السعودية والإمارات بطريقة سلبية. وقطر غير راغبة في المخاطرة بمصالحها في التوفيق مع السعودية بعد أن كان البلدان على خلاف منذ عام 2017 وحتى عام 2021؛ وتصر بشكل معقول على أن عودة سورية إلى جامعة الدول العربية، كمؤسسة، لا يلزمها بإعادة العلاقات الثنائية مع دمشق.
في النهاية، أجبر تأييد السعودية الدول العربية، بما في ذلك الدول المترددة، على الانضمام إلى الصف. في البداية، زعم المسؤولون السعوديون أنهم سيتبعون نهجاً حذراً وتدريجياً، مشابهاً لذلك التصور الذي لدى الأردن ولكن العملية تسارعت بشكل كبير حيث تم ترقية إعلان أولي بفتح قنصلية سعودية في دمشق بسرعة لإعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة، بما في ذلك سفارة في العاصمة السورية.
ولا تعترف التصريحات السعودية والإماراتية الأخيرة بالقرار (2254) لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وهو الإطار لحل الصراع.
شعرت العواصم الخليجية بأنها محقة في مسارها السياسي بسبب رد فعل الغرب الضعيف تجاه إعادة إدماج الأسد. فلم يذكر أيٌّ من كبار المسؤولين الغربيين سورية في تصريحاتهم العامة الأخيرة. ونادراً ما تذكر التقارير الرسمية لاجتماعات المسؤولين الغربيين مع قادة الشرق الأوسط سورية. وقد صدرت المعارضة على هذا المسار العربي من قِبل وزارة الخارجية الأمريكية بأقل التعابير: الولايات المتحدة تفضل أن تظل سورية معزولة سياسياً، ولكنها لا تطالب بذلك بشكل صارم.
أثبتت هذه الاستجابة الضعيفة تجاه سورية تأكيداً على الرؤية السلبية في المنطقة تجاه السياسة الغربية بشأن سورية. فبالنسبة لدول الخليج، شهدت هذه الإستراتيجية فشل الرئيس الأمريكي باراك أوباما في عام 2013 في تنفيذ “الخط الأحمر” بشأن استخدام الأسد للأسلحة الكيميائية، ونجاح التدخل الروسي في عام 2016 في إنقاذ النظام. وتسبب الفشل الدبلوماسي اللاحق وسحب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب جزئياً للقوات الأمريكية في عام 2019 في تفاقم الأمور.
في الوقت الحالي، تعتبر الحكومات العربية عدم استجابة الولايات المتحدة للهجمات المتزايدة من قبل الميليشيات المرتبطة بإيران في العراق وسورية علامة مشؤومة. فإذا كانت الحكومات الغربية تتخلى عن المنطقة، فإن التفكير العربي يشير إلى أن هناك سبباً أكثر وجاهة لإعادة التواصل مع نظام الأسد.
من غير المرجح أن تقوم الحكومات الغربية بأي إجراء لوقف إعادة تأهيل الأسد من قبل الدول العربية فالقادة الغربيون يرغبون بالابتعاد تماماً عن هذه القضية التي استنزفت من سبقهم، والتي قد تشتت انتباههم عن الحرب المستمرة في أوكرانيا، وقد تعقد العلاقات مع العواصم الخليجية الثرية. لقد أصبحت العقوبات الغربية على نظام الأسد والمساعدة الإنسانية المتناقصة للشعب السوري بديلاً عن السياسة. ومن المعلوم أن رُتب السفراء الغربيين في سورية أصبحت أكثر انخفاضاً أو أن وظيفة السفراء نفسها قد ألغيت، بحيث أنه لم يعد هناك سفراء غربيون في سورية.
طريقة الأسد في ممارسة الدبلوماسية:
الأسد لا يُظهر أي ندم أو سماحة تجاه المسؤولين العرب الذين يلتقون به في دمشق أو عواصم الخليج. في رأيه فإنه ليس بحاجة للتوبة أو التأمل في وحشيته. بدلاً من ذلك، يتوقع من الدول العربية أن تعتذر عن خطيئة معارضته. ومن حسن الحظ بالنسبة له، فإن ذاكرة الدمار الذي أحدثها نظامه – من استخدام الأسلحة الكيميائية إلى حصارات المدن الوحشية مثل حلب وذبح المدنيين بشكل تعسفي – بدأت بالفعل في التلاشي، والملامة الأخلاقية التي تعترض التوصل إلى اتفاق مع دمشق آخذة بالتلاشي.
تمكن الأسد من تحويل ضعفه الشديد إلى مكسب. فإستراتيجيته في الإصرار على البقاء والانتظار بصبر حتى تتحول الأوضاع الإقليمية والعالمية لصالحه قد نجحت، كما حدث في الماضي. يرى الأسد أن التنازلات تشكل علامة على الضعف، ويهدف إلى تفريغ العمليات المتعددة الأطراف من محتواها، وينظر إلى العلاقات الدبلوماسية كأدوات تسمح له بالتلاعب والتعامل بشكل لانهائي لتجنب اتخاذ القرارات.
خلال ذروة عزلته، وجد الأسد الراحة في التاريخ. لم يمضِ سوى 15 عامًا على وقت جلوسه بنجاح على شانزليزيه في باريس كضيف شرف الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي خلال عرض الاحتفال العسكري للثورة الفرنسية. في ذلك الوقت، كان يخرج من فترة من العزلة الدبلوماسية بسبب اشتباه تورطه في اغتيال شخصيات سياسية لبنانية. لم يكن يهم كثيراً أنه كان يبني مفاعلًا نوويًا سريًا وكان يدعم جهاديين سنة في العراق وكان يعمل مع إيران لتسليح حزب الله. كان أفضل أصدقاء الأسد آنذاك قادة قطر وتركيا، واستضاف زعماء أمريكيين، بما في ذلك نانسي بيلوسي وجون كيري، في دمشق.
حتى وإنْ اتهم الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود الأسد وحزب الله باغتيال رفيق الحريري في عام 2005 (الذي كان تلميذاً للملك اللبناني ورئيس وزراء سابق)، أجرى اتفاقًا مصالحة مرموقًا مع الأسد. حتى في ذلك الوقت، استفاد الأسد من الإقبال غير المنظم والفوضوي على دمشق لتعظيم مكاسبه المالية والسياسية. وفي النهاية، لم يفقد شيئًا.
الأسد يسعى لاستخدام نفس النهج الذي خدمه جيداً في الماضي. ففي رأيه، اللاجئون والكبتاغون (المخدر الذي غمر مدن الخليج) والإرهاب هي عوائد يمكن الاستفادة منها وتوفر له مصدراً ثابتاً من المكاسب السياسية والمالية، حيث تقصد الدول التي تعاني من آثار الحرب السورية ذلك النظام من أجل أن يساعدهم في حلّ المشكلة التي صنعها هو نفسه. وهو يحاول بالفعل تحويل المشاركة العربية إلى مكاسب جيوسياسية ومالية: حيث طلب من الدول العربية أن يشجعوا حكومات الدول الغربية على تخفيف العقوبات عن سورية، وكذلك يستخدم المشاركة العربية للضغط على تركيا للتعهد علناً بالانسحاب من شمال غرب سورية. وقد قدم الأسد ووزراؤه مطالب مالية لمحادثاتهم مع المتعاطين معهم، قائلين إنهم لن يكونوا قادرين على استقبال اللاجئين المعاد إعادتهم أو وقف تصدير الكبتاغون بدون تدخل مالي.
من المشكوك فيه أن تنفق الحكومات العربية رأس المال السياسي الثمين على ممارسة الضغوط السياسية على العواصم الغربية بشأن العقوبات. فطمع النظام السوري وصعوبة إجراء أي نوع من الأعمال داخل سورية والحالة المنكوبة التي يعاني منها البلد ستمنع على الأرجح أي تمويل لإعادة الإعمار. وإذا تم توفير التمويل، فسيتدفق بعضه إلى الاقتصاد السوري، ولكن الكثير منه سيجد طريقه إلى جيوب المقربين من النظام أو سيتم استخدامه لتمويل خدماته الأمنية القمعية.
ومع ذلك ستكون هناك آثار عملية للتطبيع في طرق أخرى. على سبيل المثال، زيادة التبادلات بين الطبقات النخبوية ستحسن بالضرورة الطريقة التي يتم بها تصوير سورية في وسائل الإعلام في المنطقة. ومن المرجح أيضاً أن يتوسع التعاون الأمني بين وكالات المخابرات بسرعة. وسيشعر السوريون المقيمون في دول الخليج، والذين بالفعل يحرصون على عدم إثارة استياء السلطات هناك، بالمزيد من القلق بشأن القيام بأي شيء يعارض موقف دمشق. بينما سيسهل النظام المساعدة الإنسانية الخليجية، سيصر على أن يتم توجيهها وفقًا لتفضيلاته بدلاً من المعايير الدولية. قد يتم تنفيذ بعض المشاريع المبكرة لإعادة الإعمار، ولكن من غير المرجح أن يحدث تمويل الإعمار بشكل واسع النطاق. في النهاية، في ظل غياب إطار متكامل وشامل لإعادة الإعمار، ستظل سورية مدمرة ومنكوبة، وسيستمر السوريون في البحث عن ملجأ في أماكن أخرى.
كلفة التهاون:
قد يكون من المغري أن نرحب بإعادة تأهيل سورية كتكلفة للتخفيف من التوترات السياسية في الشرق الأوسط. فالحرب في سورية، في النهاية، ينظر إليها بشكل متزايد على أنها غير قابلة للحل. وبالنسبة للعديد من الدول الغربية، قد يبدو إحالة سورية إلى شركائها الإقليميين خياراً مغرياً.
ومع ذلك، فإن إعادة تأهيل الأسد من قبل الدول العربية تُشرع وتُسرّع الاتجاهات الخطيرة في المنطقة. فبين ضغط تركيا والأسد، استجدت المحاولات الدبلوماسية من قِبل الميليشيات الكردية المتزعمة في شمال شرق سورية تجاه دمشق. ويُعزز الاتجاه نحو التطبيع العربي المخاوف بشأن استدامة السياسة الغربية الحالية، وفي حالة انخفاض رغبة الولايات المتحدة في الاحتفاظ بوجود عسكري في المنطقة، فإن النتيجة قد تكون إحياء تمرد داعش. في هذه الأثناء، في شمال غرب سورية، يبدو وقف إطلاق النار الحاسم المستمر منذ عام 2020 هشاً بشكل متزايد، مع المخاوف من أن التطبيع الإقليمي في النهاية قد يكون وقوداً لهجمات عسكرية جديدة من قبل النظام.
بالنسبة لأكثر من خمسة ملايين لاجئ سوري في تركيا ولبنان والأردن، لم تقربهم عملية التطبيع أكثر من العودة بأمان إلى بيوتهم – فالكثير من تلك البيوت ما زالت في حالة خراب بسبب الحرب. ولكنها جعلت من الأسهل على السياسيين الشعبويين في تلك البلدان تصعيد حملاتهم اللفظية من الكراهية ضدهم كجزء من جهود لطردهم. التوقع في حكومات الدول المجاورة والمجتمعات أن يعود عدد كبير من اللاجئين لا يتفق مع الشك الشائع بأن الأسد لا يعتزم استعادة أولئك الذين يعتبرهم غير موالين أساساً. فبالنسبة لتفكير الأسد، فإن معظم اللاجئين لا يستحقون العودة إلا إذا تمت مكافأته بشكل مناسب على إعادتهم.
ولزيادة رغبة العرب في المشاركة، سمحت سورية بعودة أعداد صغيرة من اللاجئين إلى البلاد. وتقوم الجهات الأمنية اللبنانية بطرد اللاجئين بالفعل على الرغم من احتجاجات وكالات الأمم المتحدة والدول المانحة الغربية. ومع ذلك، تصرّ سورية على فحصهم، ويتم اختفاء أولئك الذين يخالفون هذه الفحوصات بسرعة على يد المخابرات السورية.
بالإضافة إلى إثارة الخوف، أنشأ النظام عقبات أخرى أمام عودة اللاجئين، بما في ذلك الحرمان القانوني من الممتلكات وإعادة هندسة البنية الحضرية لمجتمعاتهم ومنعهم من الاستقرار في المناطق التي جاءوا منها.
إن القبول العربي للأسد يبعث على مخاوف في لبنان أيضاً من أن سورية ستمارس مجدداً تأثيرها على السياسة اللبنانية. فالمرشح الرئيسي لرئاسة البلاد هو سليمان فرنجية، أمير حرب سابق والذي يتمتع بضعف سياسي ولكن أقوى مميزة له هي قربه من دمشق وحزب الله.
حليفا الأسد الرئيسيان، إيران وروسيا، أيضاً رحبا بتطبيع الدول العربية مع سورية فإيران تعتقد أن هذه العملية تحدث وفقاً لشروط الأسد ولا تشكل تحدياً لتأثيرها في سورية. فقد تمتعت بتواجدها العميق داخل البلاد وتستطيع العمل غالباً دون عوائق، باستثناء الضربات الإسرائيلية ضد وكلائها. ويدرك رئيس النظام السوري أيضاً أنه ليس لديه شريك أكثر ولاءً من إيران، مهما كانت الشراكة صعبة في بعض الأحيان. ولم يكن مصادفاً أن اختار الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي زيارة دمشق في منتصف عملية التطبيع العربي في أوائل أيار/ مايو، وهي أول زيارة لرئيس إيراني إلى سورية منذ بداية الثورة السورية.
لقد رحبت روسيا بإعادة سورية إلى العالم العربي بسعادة خاصة. إذ تتيح هذه الخطوة لموسكو أن تعرض نفسها كمنتصرة أمام شعبها وغيره من المشككين أثناء صراعها في حربها في أوكرانيا. كما تحافظ على صورتها كقوة عالمية وتُرسخ شراكتها مع إيران والسعودية ودول أخرى. وتستخدم موسكو سورية أيضاً لسحب تركيا من تحالفها مع الغرب، وقد نظمت اجتماعات بين المسؤولين الدبلوماسيين والعسكريين وجهاز المخابرات الإيراني والسوري والتركي على أعلى مستوى. إن عملية التطبيع يمكن أن تسهل مهمة موسكو في تنفيذ سياساتها. وأخيراً، تتوقع روسيا من الدول العربية المساهمة في استقرار سورية، وبذلك تقلل الأعباء المترتبة على موسكو.
تم إثبات عدم صحة الادعاءات الغربية المتواصلة بأنه “لا يوجد حل عسكري، وإنما فقط حل سياسي” للصراع السوري. لا مفاجأة في أن الانتصارات على الساحة العسكرية قد حكمت على النتائج السياسية، وهذا الشعار فقط أسهم في تبرير التقاعس الغربي تجاه الصراع الذي أثر مباشرة على السياسة والأمن الأوروبي. إعادة تأهيل الأسد من قِبل الدول العربية هو اعتراف آخر بهذا الواقع. وفي وقت تتناقش فيه الدول الغربية حول الأهداف التي يجب تحقيقها في أوكرانيا، تُعتبر سورية تذكيراً بالتكلفة الإستراتيجية والبشرية لمثل هذا الرضا التامّ.
* كاتب ومترجم من أسرة “نداء بوست”
المصدر: نداء بوست عن الأصل في (فورين أفيرز Foreign Affairs )