علي حبيب الله *
ليست النكبة حدثا، إنما صيرورة، بدأت قبل عامها (1948) الذي عرّفت عن نفسها فيه. كما أنها ما تزال فعلا مستمرا، يطحنُ بلحم وعظم أبناء وبنات شعبنا إلى يومنا هذا.
أما عن موانئ فلسطين العربية، أو لِنقُل “مراسينا” تواضعاً، نظراً لشكل علاقتنا المتواضعة مع البحر المتوسط قبل اقتلاعنا منه وانقطاعنا عنه. فالمرسى غير الميناء، لناحية أن الأول معطى طبيعي بحكم التشكيل البيئي للحافة التي تفصل البحر عن الأرض، فتسمح للمراكب أن ترسو وتسترخي فيه. بينما الموانئ هي صناعة من فعل الإنسان، ومحاولته تطويع المرسى وتحويله ميناءً، ليخدم حركة شحن وتفريغ السفن التجارية الكبيرة.
على أي حال، فإن حكاية مراسي أو مرافئ فلسطين التاريخية على المتوسط تطول. فمنها ما ابتلعه البحر، ومنها ما غطّاه الرمل، ومنها ما اندثر باندثار مُدنها التي كانت عليها، مثل قيسارية وعتليت وأرسوف وعسقلان وأسدود. فقد غطىّ رمل المتوسط تلك المراسي، ونسيها مع مدنها المنسية، منذ ما بعد الحروب الصليبية.
إن انبعاث مينائي عكا ويافا العربيين في التاريخ الحديث قبل النكبة، ليس سوى بعثا لمراسٍ كان قد ابتلعها رمل الحُروب والكُروب التي ألمّت ببلادنا وساحلها منذ القرن الثاني عشر، وحتى مطلع القرن السابع عشر للميلاد. فإذا كان ميناءُ عكا هو ذاكرة القمح المحمول من عندنا مشحونا منه، فإن ميناء يافا يظلّ ذاكرة الرُز (الأرز) المنقول إلينا مفرّغا فيه. لميناء عكا قصة فيها غصة يطول الحديث عنها، نتركها للأيام. بينما نستذكر نكبة ميناء يافا اليوم، في محاولة لفهم كيف بدأت نكبتنا مبكِّرا.
من صخرة “أندروميدا” اليافاوية:
كانت إذا ما جأرت أبواق سفن التجّار والحجّاج قادمة من عرض البحر، فزَّ ريّاس وبحّارة يافا على حيلهم مهرولين نحو مراكب مواعينهم وجرومهم، منطلقين بها لملاقاة السفن القادمة، بينما تختلط صيحات شتائمهم وصرخات توعدهم لبعضهم، بضجيج أبواق السفن. ظلّ هذا السلوك، متعارفا عليه في ميناء يافا على مدار قرونٍ طويلة من سائر موانئ شرق المتوسط. حيث لم تكن الغلايين والسفن القادمة ليافا، ترسو في ميناء المدينة، إنما على مسافة منه في عرض البحر.
والسبب هو صخرة “أندروميدا”، واحدة من أكبر وأشهر صخور بحر يافا الناتئة، التي كانت تمتد في الميناء على شكل لسانٍ بحري، مما حالت دون إمكانية دخول ورسوّ السفن الكبيرة في الميناء. كما ظلّت ضحالة مياه الميناء عائقا أمام وصول السفن إليه. مما كان يجبر السفن القادمة على الانتظار في البحر، إلى حين وصول قوارب ومراكب خاصة، يسمّيها أهل يافا “مواعينا وجروما”، لتقلّ الناس أو البضائع فيها إلى رصيف الميناء.
كانت صخور الميناء، تمثّلُ عائقا بالنسبة لربّان وقباطنة السفن المُبحرين ليافا. بينما اعتبرها أهالي المدينة حُرمةً بيئية منحتهم إياها الطبيعة كحاجز أمان، يُنبّه المدينة من القادم إليها أولا. وثانيا، ككاسر أمواج طبيعي يحمي مراكب بحّارة وريّاس يافا الراسية في الميناء. وثالثا والأهم، أن صخور الميناء، مثّلت مصدرا لرزق أهالي يافا، لأن هذا التشكيل الطبيعي، دفع حاجة السفن القادمة إلى تشغيل مراكب يافا المحلية من أجل النقل أو الشحن منها، والتفريغ في الميناء.
أما صخرة “أندروميدا”، فلم تكن مجرَّد صخرة من صخور أخرى ناتئة وناشئة كمعطى طبيعي في خليج بحر يافا فقط. إنما أشعلت الصخرة مخيال الحجّاج والرحالة الأوروبيين على مدار قرونٍ منذ الحملات الصليبية على بيت المقدس. وقد تسللت تسمّيتها إلى مزامير حجّاج البحر، باسم “صخرة آدم”، وأكسبوها مسوحا قداسية، للحد الذي قالوا فيه إن سمك “السلمون” كان يؤمّ تلك الصخرة في صيف كل عام، قادما من عرض البحر، ليُقبلها ثم ليلوذ بها(1).
كما كانت صخور الميناء تلك، مصدر قلق وفزع بالنسبة للقباطنة والبحّارة الأجانب، إلى حد تعوّذ بعضهم من مجرد التفكير بالإبحار للأراضي المقدسة، فكثيرا ما جرى وأن اصطدمت بها وتحطمت عليها سفن، غرقت هي ومن فيها قُبالة مدينة يافا(2). وكان ذلك أحد الأسباب التي تذرَّع بها الاستعمار البريطاني لاحقا، في منح الصهاينة تراخيصَ لبناء ميناء تل أبيب، بديلا عن ميناء يافا، في ثلاثينيات القرن الماضي.
أبواب الميناء:
البوغاز والدوبلاقة وعويجان؛ هذه أسماء الأبواب أو المداخل الثلاثة من جهة البحر لميناء يافا المُحاط والمحمي بصخوره. وهي تسميات شعبية مشتقة من أصلها التركي والإرث العثماني في حكم المدينة. فـ”البوغاز” كلمة تركية في أصلها، وتعني “المضيق”، وهو الباب الأضيق والأخطر، لكنه كان الأكثر اختصارا للطريق من البحر للميناء. أما باب “الدوبلاقة” أو “الدوبلعة” كما كان يسمّيه بعض بحّارة يافا، يعني في التركية “الخليج الصغير”، ويقع في الجهة الشمالية من الميناء، وكان الأكثر اتساعا، حيث يمكن للسفن الكبيرة بحمولة تزن 150 طنا، الدخول منه.
بينما باب “عويجان” الواقع جنوب الميناء، وهو الأقل شهرة من البابين الآخرين، فقد أطلَق عليه أهالي يافا اسمه هذا بسبب اعوجاجه، فلم يكن مريحا حتى للقوارب الصغيرة. واختفى منذ ما قبل النكبة، إذ امتلأت المنطقة الواقع فيها بالصخور والتراب، وأُقيمت في مكانه مخازن للميناء، ودائرة لجماركه(3).
لم تكن هذه الأبواب تسمح بدخول إلا المراكب الصغيرة من المواعين والجروم، ودخولها كان يتطلب مهارة خاصة من البحّارة والريّاس، خصوصا في أوقات الأنواء البحرية. التي كانت تدفع بهبوبها أحيانا المراكب، لتصطدم بصخور الميناء.
ومما يذكره صاحب “موسوعة يافا الجميلة”، قصة تعود إلى عشرينيات القرن العشرين، عن استعانة بحّارة يافا بالريّس “أبو اللغد”، أحد أشهر ريّاس وعوّامي (سباحين) المدينة، والذي كلما هاج موج البحر وكسر جنازير مواعينهم وجرومهم من مرابطها، كان البحّارة يربطون أبو اللغد بالحبال، نظرا لجرأته وقوة بنيته، ثم يتركونه يسبح وسط الأمواج العالية، إلى حيث يوجد القارب الفالت تتقاذفه الأمواج، فيقوم بسحبه إلى الميناء، وإعادة ربطه في موقعه(4).
وكانت بوابتان حديديتان، تؤدّيان إلى الميناء من جهة المدينة، حتى عام النكبة، الأولى؛ البوّابة الشمالية، وكانت تقع على رصيف الميناء على بُعد أقل من 100 متر من درج الدير (درج النمسا)، ولها مدخلان، الأول كبير للشاحنات، والآخر لدخول الأفراد منه. بينما البّوابة الثانية للميناء، كانت في الجهة الجنوبية، وتقع على شارع الميناء شمالي بركة القمر، وهي البوّابة الرئيسية لدخول الميناء من المدينة، وأكبر حجما من الشمالية. وأول ما كان يصادف الداخل منها هو مركز شرطة الميناء. ومن هذه البوّابة كان ممر الشاحنات المُحملة بصناديق برتقال يافا المحمول من البيّارات(5).
يافا الإسكلية:
عرفت يافا في التاريخ العثماني باسم “إسكلة يافا” أو “المدينة الإسكلة”. والإسكلة كلمة تركية تعني “رصيفا عليه منارة” أي الميناء. ومفردة “إسكلة” التركية مشتقة عن اليونانية في أصلها، والتي تعني “ألواح الخشب” التي تصل البحر بالرصيف”، ومن هنا كلمة “سِقالة” بالعربية المتداولة في قاموس ورشات البناء لدينا. وظل موقع زلق صناديق البرتقال في ميناء يافا من رصيفه إلى مواعين وجروم الشحن والنقل، يُطلق عليه “سقالة برديس”. وهي سقالة مكونة من ألواح خشبية، أنشأها يهودي من يافا حملت اسمه “برديس” حين كان يهود المدينة ما يزالون يستخدمون ميناء يافا ما بين عامي 1920 – 1936(6).
تعرضت يافا إلى التدمير غير مرة عبر التاريخ، ودُمرت تماما على إثر الحروب الصليبية، ولم يبقَ منها غير مينائها، ومجرّد مرسى صغير ينزله حجّاح أوروبا القادمين لزيارة بيت المقدس عبر البحر، فظلّ بمثابة حلقة وصل ما بين أوروبا والقدس. ومن هنا ذكرته الوثائق العثمانية في مطلع القرن السادس عشر باسم “ميناء القدس”(7). وعموما، كان الساحل كله مهجورا حتى قدوم العثمانيين، بما في ذلك يافا التي أشارت إليها المصادر على أنها أشبه بقرية صغيرة لا يتعدى تعداد ساكنيها 200 شخص، يسكنون كهوفها المنحوتة بصخورها الشاطئية(8).
في سنة 1642، بدأ العثمانيون بالعمل على تطوير مرفأ يافا وتحصيناته، لغرض تحويله إلى ميناء. حيث قاموا في ذلك العام ببناء برج للمراقبة، فبدأ الناس بالوفود إلى يافا والتوطن فيها، وقد أشار مبعوث الفرنسيسكان للأراضي المقدسة سنة 1644 إلى وجود نحو خمسين عريشة استعملها السكان لعرض بضائعهم على التجار الأجانب. ومع بداية القرن الثامن عشر، باشرت السلطات العثمانية في استكمال خطة تحصين الميناء، فقامت ببناء قلعة المدينة، وزودتها بـ15 مدفعا، لحماية الميناء من اعتداءات القراصنة، ولتأمين التجارة(9).
ومنا هنا، صار تطور يافا من قرية صغيرة إلى بلدةٍ مأهولة، ثم إلى مدينة، منوطا بتطور مرفئها إلى ميناءٍ اعتُبر الأهم على ساحل فلسطين، ما بين القرن السابع والتاسع عشر ميلادي، إلى أن أنجب الميناء مدينته. لذا سُميت يافا بمدينة إسكلة، أي مدينة ليس فيها ميناء، إنما ميناءٌ صار له مدينة. وذلك للحد الذي كان فيه حاكم المدينة في مطلع القرن الثامن عشر، هو نفسه مدير جمارك الميناء، واسمه الـ”كمركجي”، الذي أنيطت به مهمة جباية الجمارك والضرائب البحرية، وإدارة المدينة وسنجقها بصورة عامة وآمنة(10).
ثم اتسع وتطور ميناء يافا، طوال القرنين الثامن والتاسع عشر، رغم الغزوات والحروب والمذابح والدمار الذي تعرضت له مدينته وأهلها في هذه المرحلة. لم يكن ميناء يافا مجرد موقعٍ للشحن والتفريغ على الحد الذي يفصل أرض البلاد عن بحرها، ولا نقطة نقل فقط للوصل بين بلادنا والعالم الآخر. إنما كان موردا من موارد الاجتماع في فلسطين، فهو مجتَمع بذاته، له عالمه ومعالمه، وأهله وقاموسه، وحكاياه وخفاياه.
معالم من الموقع وايقاع الحياة فيه:
لقد تعرضت معالم ومرافق ميناء يافا للتحول والتغيير، منذ أواخر القرن التاسع عشر في زمن حكم الأتراك له ولمدينته. ومن تلك المعالم ما جرى محوها لاحقا في ظل سلطة سلطات الاستعمار البريطاني على البلاد وموانئها. فقد اختفت كرنتينا (المحجر الصحي) ميناء يافا التي ظلت تحمل ذاكرة السفن المُحمّلة بعضها بالأوبئة والأمراض، خصوصا سُفن وبواخر المسكوب (الروسية)، القادمة للبلاد عبر البحر، إذ نقلت السلطات البريطانية في عشرينيات القرن العشرين المحجر إلى حي الجبلية جنوب مدينة يافا، ثم حوّلت موقع الكرنتينا إلى مخازن للبرتقال، أو “عنابر للبرتقان” بلغة أهل الميناء ويافا في حينه(11).
أما عن الركشان والهزّاز والسنونو والحمام، فتلك طيور الميناء، التي لازَم رفّ ريش أجنحتها رصيفه، وعتبات مخازن حبوبه. كما اتخذت طيور الميناء من شقوق قرميد سطوح تلك المخازن والعنابر، أعشاشا لها. لم تكن مخازن حبوب الميناء تلك، مُقامة في موقعها قبل أواخر العشرينيات. إذ أقام البريطانيون تلك المخازن على شاطئ “بركة القمر” المردومة بكل معالمها وعالمها، اللذين عرفهما وعاشهما بحّارة وريّاسو وعمّال وعتّالو ميناء يافا.
كانت بركة قمر الواقعة جنوب غرب فنار الميناء، بمثابة أول مغطس تجرَّأ فيه أهل يافا على بلِّ أبدانهم بماء البحر المالح، ففيها كان شاطئ رمليّ مياهه ضحلة، ظل يقصد أهالي مدينة يافا للاستحمام والانتجاع فيه. كما وُلدت في ذلك الشاطئ قهوة “الإسكندراني”، أعرق وأشهر مقهى للصيّادين والعمال، والذي ظلّت مقاعد قشّه مُعطرة برائحة تبغ و”تنباك” البحّارة والريّاس، طوال التاريخ العثماني على المدينة، قبل هدم المقهى، وردم بركة قمر، واستبدالها من منتجع للقمر والحُب بموقع لوزن وخزن الحَب. كما استغل البريطانيون جزءا من موقع البركة لسانا، لحماية رصيف الميناء ومراكبه، مما أجبر أهالي يافا على الانتجاع بعدها بعيدا عن مينائهم في شواطئ مثل: العجمي وارشيد، ثم المنشية في أربعينيات القرن الماضي، قبيل النكبة.
أما الفنار، المعلم الأبرز في الميناء، فهو المنارة وموقع الشارة، ودليل المهتدين لمدينة يافا، قدوما من البحر. كان الفنار بشكله الأسطواني على شكل مئذنة يُطل من على ربوة تطاولت على البحر، وتُشرِف على دير الأرمن، بالقرب من جامع الطابية حي البحّارة والصيّادين. وظلّ حسن سمّور أشهر فناريّ في ذاكرة يافا قبل النكبة، تولّى تعبئة ودوران مصباح الفنار وصيانته(12).
القمح والملح، والصابون وزيت الزيتون، والرُز والقطن والدُخن، والتنباك والدخان ورماد البلّان، وشيخ سحاحير (صناديق) الميناء، البرتقال اليافاوي ذائع الصيت، الذي كان في موسم قطفه وشحنه الذهبيين، ما بين سنوات 1920 – 1936، يدفع ما لا يقل عن 30 إلى 40 سفينة وباخرة من الوقوف يوميا في طابورٍ بعرض البحر، انتظارا لدورها لتحميله من الميناء(13).
ازدهرت التجارة الزراعية في فلسطين كلها بفضل الموانئ، وتحديدا ميناء يافا. كما كان للزراعة والصناعة الزراعية بدورها، فضل على الميناء وحركته وسمعته في الوقت نفسه.
ميناء يافا، الذي كان بحكم حركته وبركته، مثل خلية نحل، تُفتح بوّابته منذ الساعة الثالثة، وعلى الأكثر، عند الرابعة فجرا، إلى ما بعد غروب الشمس، ليدوي طوال النهار، وليختلط فيه صُراخ الريّاس والصيّادين، بصيحات العمّال والعتّالين بسواعدهم السمراء التي لوّحتها شمس نهار ميناء البحر.
ضجيح أبواق سفن ورجيج، وابتهالات حجيج، وصفير ونفير، وتعب وعتب الحمّالين، وعتابا الجمّالين بلكنة أهل ريف الساحل محتذين جِمالهم. ودوشة “ونشات” التحميل التي كلما خفَتَ صوتها، انبعث غناء موسيقى الجناكي من قهوة البحر أو البوّاب. ذلك المقهى المحسوب على الثورة الكبرى عام 1936، والذي حرّمت عليه سلطات الاستعمار البريطاني في ذلك العام، تقديم طعام الفطور، وتدخين التنباك فيه.
كان الميناء موردا لتشكيل معجم التمائم والشتائم معا، فالبحّار أو الريّس الذي كانت تدفعه أنواء وأمواج البحر إلى التضرع والابتهال بتمائم من قبيل: “يا مهوّن يا رب… يا لطيف… تجعل البلا خفيف”؛ لم يكن ليمنعه بعد هدوء الأنواء وأمواجها، من العودة بعد دقائق للشتم والسُّباب مجددا.
نكبة الميناء:
تراكمت أسباب الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939)، منذ مطلع عشرينيات القرن الماضي على الاستعمار البريطاني للبلاد، لأسباب مختلفة متصلة بسياسات الاستعمار البريطاني، وتسهيله هجرة يهود أوروبا الصهاينة، وبيعهم مساحات شاسعة من أراضي البلاد. غير أن شرارة الثورة الفعلية بدأت منذ ما حصل في ميناء يافا بعد أن اكتشف ريّاس الميناء وحمّالوه العرب، حمولة سلاح مهرّبة ببراميل للإسمنت عبر الميناء لليهود الصهاينة، بتواطؤ مع سلطات الاستعمار، فبدأت حركة التمرّد الفعلية، وإعلان الإضراب الكبير الذي سبق الثورة.
كما كان لبحّارة وريّاس ميناء يافا سطوة ودور في تنظيم الاحتجاجات والإضرابات، وفعل التمرد في الميناء، منذ وعد بلفور وحتى سنة 1948. ولمّا قرر المفتي الحاج أمين الحسيني ترك البلاد على إثر أحداث الثورة، وتوعَّد الإنجليز له سنة 1937، فرَّ إلى يافا، ومنها تمكّن بحّارو المدينة من تهريب المفتي عبر البحر إلى لبنان(14).
تعطلت الحركة التجارية في ميناء يافا، في ظل الإضراب الذي التحق به ريّاس وعمّال الميناء العرب عام 1936. ثم كانت الثورة الكبرى، التي شلّت الميناء كليا، للحد الذي تحول فيه برتقال يافا المقطوف منها ومن بيارات ريفها إلى سمادٍ يُفرَش تحت شجرة البرتقال نفسها، مثل روث الدواب، بسبب ما أطلق عليه بحّارة ميناء المدينة: “لأنو البحر واقف”… أي أن حركة النقل والشحن في الميناء معطّلة.
في تلك الأحداث، بدأت سلطات الاستعمار البريطاني بالتعاون مع اليهود الصهاينة في تل أبيب، في تنفيذ مشروع يقضي بإقامة ميناء آخر في تل أبيب، بدلا من ميناء يافا، فتل أبيب المستعمرة، والحيّ الذي كان تابعا ليافا العربية، سيتحوّل إلى مدينة تصبح يافا تابعة لها، وذلك بدءًا باستبدال ميناء يافا بميناء تل أبيب في ثلاثينيات القرن العشرين.
لم يكن هناك أي مبرِّر تجاري أو اقتصادي لإنشاء ميناء في تل أبيب، غير أن سلطات الاستعمار البريطاني أرادت من إنشائه مساعدة اليهود في أن يكون لهم ميناؤهم الخاص بهم لتهريب السلاح منه أولاً. وثانياً، مساعدة الصهاينة في تهريب المهاجرين اليهود للبلاد. وثالثاً، مساعدة اليهود على بناء اقتصادهم الخاص والمستقلّ، وفعلا تمكن اليهود من وضع أيديهم على تجارة الجملة في البلاد(15).
هُمّش ميناء يافا بعد ثورة 1936-1939 كلّيًّا، وقد سبقت نكبة الميناء نكبة أهله. وبعد عام 1948، حوّله الصهاينة إلى مجرد ميناء للصيد المُثقل بالقيود، ومنعوا استقبال البواخر فيه. وفي عام 1965 منعت الدولة العبرية استقبال أي نوع من السفن فيه، كما منعوا الصيد فيه أيضا؛ وبذلك، حوّله الصهاينة من أكبر ميناء في فلسطين، إلى مجرّد مرسى برصيف متواضع، لزوارق التفسُّح والنزهة ليس أكثر. إن نكبة يافا قد بدأت مبكّرا بقصة مينائها المنكوب.
…………………..
الهوامش:
- زكار، سهيل، الموسوعة الشامية في تاريخ الحروب الصليبية: رحلات غربية (1187-1350)، دمشق، 1999، ص 44.
- شولش، ألكسندر، تحولات جذرية في فلسطين: دراسات حول التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ترجمة: كامل جميل العسلي، منشورات الجامعة الأردنية، عمان، 1993، ص 164.
- سعيد، حسن إبراهيم، يافا: من الغزو النابليوني إلى حملة إبراهيم باشا (1799-1831)، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، رام الله 2011، ص153.
- البوّاب، علي حسن، موسوعة يافا الجميلة، دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، عمان، 2016، ج2، ص 849.
- المرجع السابق، ص 850.
- المرجع السابق، ص 851.
- يزبك، محمود، مدينة البرتقال يافا: حضارة ومجتمع 1700-1840، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2018، ص 9.
- المرجع السابق، ص9.
- المرجع السابق، ص9.
- المرجع السابق، ص16.
- البوّاب، علي حسن، موسوعة يافا الجميلة، ج2، ص 852.
- المرجع السابق، ص853.
- المرجع السابق، ص867.
- أبو الجبين، خيري الدين، يافا، مقابلة شفوية على موقع فلسطين في الذاكرة : ضمن مشروع تدوين الرواية الشفوية للنكبة الفلسطينية، تاريخ 23/8/2009.
- راجع: البوّاب، علي حسن، موسوعة حيفا الكرملية، ج2، ص 49.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب فلسطيني وباحث في التاريخ الاجتماعي
المصدر: عرب 48