علي حبيب الله *
لم يسبق في “عين ماهل” أن تدفّق أبناؤها قهرًا ونهرًا من الحزن والغبن، مثلما فعلوا وتدفّقوا مساء يوم الأحد الماضي (في 7 أيار/ مايو 2023) في تشييع ابن قريتهم المغدور، مهنّد شلبي، الّذي طالته يد الغدر في وضح نهار يوم الجمعة الماضي (في 5 أيار/ مايو 2023) من أمام موقع عمله في أحد متاجر بيع الخضار في القرية.
ولأنّ القتل في مجتمعنا العربيّ صار مبتدأ، إلّا أن قتل مهنّد في عين ماهل كان خبرًا، لأنّها الجريمة الأولى في القرية ضمن سياق آفة الجريمة في مجتمعنا العربيّ الّتي ظلّت عين ماهل بمنأى عنها منذ عقود، إلى أن هال أهلها مقتل ابن قريتهم. فكانت فاجعة موجعة، وقفت لها القرية كلّها بكلتا قدميها في إضراب عامّ التحقت به حتّى أفران خبز القرية، تلاه وقفة غضب مساء يوم السبت، ثمّ جنازة مهيبة في مساء الأحد خرجت فيها عين ماهل عن بكرة أبيها لتحتسب مهنّدًا فقيدًا – شهيدًا. فشهدت القرية تشييعًا لم تشهده منذ أوّل مهلاوي خلع نعليه في مغاور جبل سيخ من مئات السنين.
ما أرادت عين ماهل قوله: إنّ مهنّد شلبيّ هو ضحيّة، والجريمة دخيلة، والقرية ببنيتها الاجتماعيّة أقلّ من أن تحتمل وتتصالح مع سفك وسفح دم أبنائها. وقد قطعت القرية فعلًا، بوقوفها وموقفها، الطريق على كلّ محاولة لترحيل مقتل مهنّد على أنّه “صراع تصفية حسابات بين منظّمات إجراميّة”. فمهنّد شلبيّ ضحيّة بكلّ ما تعنيه الضحيّة من معنى، إذ قتل لمجرّد رابطة النسب الّتي كانت تربطه بأحد الوافدين إلى القرية من خارجها، من المتورّطين بسياسات المال المشبوه.
ممّا يفسّر لنا ذلك، انفعال القرية وفعلها المتضامن مع الضحيّة وذويه. هذا وفضلًا عن سيرة المغدور وحسن سريرته بين أهالي قريته. ومع ذلك، هناك ما يظلّ متّصلًا بطبيعة قرية عين ماهل وفطرة أهلها المفطورين على السلّم ووشائج الرحم في ما بينهم، ومردّ الاجتماع هذا يعود للجغرافيا قبل أيّ شيء.
الجغرافيا ما بين القسوة والحظوة:
“المواهلة”، هذه هي كنيتهم التاريخيّة نسبة إلى عين ماهل قريتهم الوادعة والمشكولة على خاصرة سفوح جبل سيخ الشرقيّة من شرقيّ مدينة الناصرة. إنّ ما يمايز قرية عين ماهل عن أيّ قرية أو بلدة عربيّة أخرى باقية في البلاد هو موقعها الّذي جعلها قرية معزولة جغرافيًّا تمامًا. فهي قرية تكاد تكون الوحيدة الّتي لا يمكن للسائل عنها أي يراها إلّا بالذهاب إليها. وذلك على خلاف معظم باقي القرى والبلدات العربيّة الأخرى، الّتي يمكن المرور منها ومعاينتها من على الطرقات الرئيسيّة الواصلة بين البلاد.
كان لهذه العزلة الجغرافيّة أثر في تشكيل البنية المعيشيّة والاجتماعيّة لـ”المواهلة” على مدار تاريخهم الحديث. فمن ناحية، ظلّت عزلة موقعها بمثابة قسوة للجغرافيا عليها، وعلى أهلها لناحية محدوديّة اقتصادهم وأفق معاشهم منذ أن كانوا فلّاحين إلى يومنا، فقد بذر وغرس أهالي عين ماهل زرعهم في الصخر، ولولا كرم عيون ماء جبلهم ما كان لزرعهم أن يغلّ، وما كان للقرية أن تكون أصلًا.
ولمّا تحوّل المواهلة إلى عمّال مع تحوّلات ما بعد النكبة منذ خمسينيّات وستّينيّات القرن الماضي، ظلّ اعتمادهم في معاشهم على نظام المياومة ثمّ المقاولات في ورشات البناء. كما قوّضت العزلة الجغرافيّة أفق تنمية وتطوير المصالح التجاريّة للقرية، والّتي تشترط موقعًا محاذيًا لشبكات الطرق الرئيسيّة الّتي تصل البلاد ببعضها. وممّا ساهم في خنق عين ماهل، هو مصادرة جزء كبير من أراضي غرب وشمال القرية لصالح بناء مستعمرة نوف هجليل – نتسيرت عيليت سابقًا- منذ سبعينيّات القرن الماضي، ممّا كثّف من عزلة القرية، وجعلها أشبه بفندق إسمنتيّ كبير، بلا أيّ ممكنات محتملة لتطوير بنية اقتصاديّة – تجاريّة محلّيّة فيها.
من ناحية أخرى، فإنّ للعامل الجغرافيّ أهمّيّة تركت أثرًا إيجابيًّا في التشكيل الاجتماعيّ للقرية. إذ ساهمت العزلة في تمكين أواصر القربى والنسب، وتمتين وشائج الرحم والتكافل ما بين عوائل القرية وحمائله الّتي لم يذكر أن تحاملت على بعضها يومًا. كما حيّدت العزلة الجغرافيّة القرية عن مظاهر عنف الجريمة والاتّجار بالسلاح أو السموم طوال العقود الماضية. ومع ذلك، ورغم العزلة الجغرافيّة، إلّا أنّ عين ماهل لم ولن تكن يومًا بمعزل عن الصيرورة السياسيّة والاجتماعيّة الّتي مرّ ويمرّ بها مجتمعنا العربيّ في البلاد، وخصوصًا في السنوات الأخيرة. تمامًا مثلما لم يكن المواهلة بمعزل عن السرديّة الفلسطينيّة – النضاليّة وسيرتها منذ ما قبل نكبة عام 48 وبعدها.
من السيرة النضاليّة:
لأبناء عين ماهل حصّة في فاتورة الدم مع أبناء شعبهم، والذاكرة النضاليّة للقرية تعود إلى ما قبل فترة الاستعمار البريطانيّ للبلاد منذ زمن تركيّا، وتحديدًا في الحرب العالميّة الأولى. إذ يكاد لا يوجد مهلاوي واحد اليوم، يمكنه ذكر أو تذكّر اسم واحد من الّذين استدعتهم أو سحبتهم قسرًا إذا صحّ التعبير سلطات الباب العالي، للخدمة في الحرب العظمى “سفربرلك”، حيث ذهب في تلك الحرب واختفى فيها، ما لا يقلّ عن أحد عشر شابًّا من شباب القرية في حينه.
بعد انكسار تركيّا، وفي ظلّ الاستعمار البريطانيّ للبلاد، كان المواهلة سبّاقين في الالتحاق بصفوف الثورة الفلسطينيّة الكبرى (1936 – 1939)، خصوصًا بعد اغتيال لويس أندروز الضابط والحاكم البريطانيّ للواء الجليل في أواخر أيلول سنة 1937 في مدينة الناصرة. فقد تشكّلت خليّة ماهليّة ثوريّة في ذلك العام، واشتركت في عدّة معارك في الجليل مع قوّات الأصبح، منها معركة “القديريّة” الّتي استشهد فيها أحد أبناء القرية.
غير أنّ الوقعة الملحميّة الأبرز في ذاكرة القرية، هي معركة “كبشانة” نسبة إلى منطقة كبشانة الواقعة ما بين قريتي كفركنا وطرعان، وذلك في أواخر آب من سنة 1938 من الثورة. حيث استشهد سبعة من أبناء عين ماهل من أصل أحد عشر مجاهدًا ماهليًا التحقوا بالمعركة، مع عشرات المجاهدين منهم شهداء، من قرى مختلفة في الجليل كانوا قد شاركوا في الكبشانة. وقد دفن شهداء عين ماهل السبعة، في مقبرة طرعان، وما تزال حجارة قبورهم شاهدة بلا شواهد على شهادتهم إلى يومنا هذا.
ثمّ كانت نكبة عام 1948، حيث لم تبخل عين ماهل في تلبية نداء الدم في المواجهة مع العصابات الصهيونيّة، فقد اشترك مجموعة من المواهلة في معركة “الصبيح” الواقعة شرقيّ القرية، واستشهد ثلاثة منهم وجرح آخرون. وغادر أهالي عين ماهل قريتهم في حينه متّجهين نحو شمال البلاد، ووصلوا حدود لبنان، إلّا أنّهم عادوا للعين بعد أسبوع مع إعلان هدنة إطلاق النار. وما تزال واحدة من أبرز وأكثر الصور الملتقطة والمتداولة عن النكبة والتهجير، تعود لأهالي قرية عين ماهل في أثناء عودتهم للقرية من مدخلها الشماليّ.
رزحت عين ماهل مثل باقي القرى العربيّة الباقية في البلاد بعد النكبة تحت نير الحكم العسكريّ الصهيونيّ طوال فترة خمسينيّات وستّينيّات القرن العشرين. ولمّا انطلقت الثورة الفلسطينيّة مع تشكّل منظّمة التحرير أواسط الستّينيّات، حاولت مجموعة من شباب القرية تركها والالتحاق بالفدائيّين الفلسطينيّين في الخارج. تنظّم منهم اثنان بصورة رسميّة، وأحدهم ظلّ مطاردًا حتّى مطلع السبعينيّات، إلى أن استشهد بعد أن اغتالته أجهزة أمن الدولة العبريّة في منطقة عكّا بالقرب من نهريا.
في يوم الأرض استجابت قرية عين ماهل لندائه، تحت شعار أطلقه أحد أبنائها “خديجة تناديكم في سخنين”. نسبة لخديجة شواهنة، شهيدة “حيّ الحزين” في قرية سخنين في يوم 30 آذار 1976. لا بل وكانت عين ماهل إحدى القرى العربيّة الّتي استضافت فيها واحد من اجتماعات مداولات إعلان الإضراب في منتصف آذار ذلك العام. ثمّ كانت العين على موعد مع حكاية مصادرة أرضها، في أسوأ وأكبر عمليّة سطو وابتلاع لآلاف الدونمات من أراضيها، استمرّت لثلاثة عقود، منذ مطلع السبعينات وحتّى أواخر التسعينيّات، لصالح بناء مستعمرة “نوف هجليل – نتسيرت عيليت” وأحيائها المحيطة والمحاصرة للقرية من جهتيها الغربيّة والشماليّة.
هذه ملامح من سيرة القرية في الجغرافيا والاجتماع والنضال، في محاولة أردنا منها فضّ غبار التاريخ عن وجهها. وذلك، لإظهار ما مايز عين ماهل عن باقي القرى والبلدات العربيّة في البلاد، وما كان وظلّ يجمعها بها في الوقت نفسه. وما تزال القرية إلى يوم أهلها هذا، مرجعًا للقوى السياسيّة والوطنيّة على اختلاف مشاربها. كما هي عين ماهل باقية، ملاذًا أمينًا وآمنًا حيث يقصد مطاعمها ومقاهيها أبناء القرى المحيطة في القرية يوميًّا.
عودة على الحدث:
ما الّذي حاول المواهلة (المهلاويّة) منع تشييعه في أثناء تشييعهم فقيدهم وشهيدهم “مهنّد شلبي” الأحد الماضي؟… فالنعش الّذي تناوبت على حمله راحات أكفّ جميع رجال القرية، كان يحمل جثمان جسد مهنّد الراحل، ويجسّد حمولة – جماعيّة مثقلة بالهواجس والرموز في الوقت ذاته. وذلك في أكبر تشييع من حيث الحشد والتحشيد، وأطول جنازة لناحية السير والمسار، من مسجد أبي عبيدة في حيّ الوعرة إلى مقبرة القرية القديمة تحديدًا، مدفن الأجداد وذاكرة الأمجاد.
شيّعت العين الأحد الماضي فقيّدها مدموعة العينين، ومفتوحة على ذاكرتها ومصيرها معًا. في وقفة تطلبها واجب التشييع كما يليق بفقيد مظلوم، وفي موقف يأبى تشييع كلّ ذلك الإرث من سيرة السكينة والسلام، والطمأنينة والوئام، الّتي استرخت في تراب جبل سيخ على مرّ التاريخ. ذلك الإرث، الّذي بات مهدّدًا بين حجري رحى، الدولة وسياسات أجهزتها من فوقه، ومن تحته التفكّك وآفة الجريمة والعنف.
* كاتب فلسطيني وباحث في التاريخ الاجتماعي
المصدر: عرب 48