سارة قريرة *
نشر موقع “أوريان21” في 4 شباط /فبراير 2020 مقالة للكاتب الفرنسي المتخصص في الشأنين الأثيوبي والأفريقي “جيرار برونيي” (المدير السابق للمركز الفرنسي للدراسات الأثيوبية في أديس أبابا) عرض فيها للمشهد السوداني منذ عزل واعتقال الرئيس عمر البشير في 10 أبريل/ نيسان 2019 وما تلاه من تعايش هش بين المجتمع المدني و”القوات المسلحة” شبه المخصخصة، وركز على شخصية الضابط محمد حمدان دقلو الملقب بـ”حميدتي”، قائد ما يسمى “قوات الدعم السريع في السودان”.
استهلّ الفريق الأول محمد حمدان دقلو شُهر حميدتي- قائد قوات الدعم السريع التي قمعت بعنف شديد اعتصام يونيو/حزيران 2019- مسيرته العسكرية الدامية في إقليم دارفور. هذا القائد المتوحش والخبيث هو من يمارس السلطة فعليا اليوم في السودان، في انتظار انتقال ديمقراطي مفترض في 2021.
يشهد السودان منذ عزل واعتقال الرئيس عمر البشير في 10 أبريل/ نيسان 2019 تعايشا هشا بين المجتمع المدني و“القوات المسلحة” شبه المخصخصة، رغم أن الوزير الأول المدني عبد الله حمدوك أعلن أمام وفد من الكونغرس الأمريكي جاء في زيارة للخرطوم خلال شهر يناير/ كانون الثاني أن “الشراكة في الحكم بين المدنيين والعسكريين نموذج فريد لبقية العالم”. وهذا الكلام ليس من باب التباهي، بل يدعو للنظر إلى ما عاشه السودان في الأشهر الأخيرة.
عودة المجتمع المدني:
بعد 25 سنة من الديكتاتورية، لم يكن للنظام الإسلامي أن يقدم غير فشله المتواصل وفساده المتزايد. وقد زادت الأزمة الاقتصادية الطين بلة. فقد ارتفع في 2018 سعر العدس بنسبة 225% وسعر الرز بنسبة 169% وسعر الخبز بنسبة 300% والمحروقات بنسبة 30%. وكان السكان يفتقرون للغاز لطهي وجباتهم وحتى للماء. وكانت النفقات العسكرية تصل إلى 24 مليار ليرة من مجموع 173 مليار لميزانية سنة 2018، بينما لا يحظى التعليم سوى بـ5 مليارات والصحة بأقل من ثلاثة.
كان رد فعل المجتمع المدني على هذا الوضع المأساوي أن نظمت نفسها بشكل عفوي منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2013. وشرعت مجموعة من العاملين في تأسيس منظمات مهنية، والتي يصل عددها اليوم إلى 16 وتجتمع تحت راية تجمع المهنيين السودانيين. وكان هذا العمل النقابي السري ينشط بصرامة تنظيمية تذكر بصرامة أتباع اللينينية قبل 1917، دون أن يكون لهم انتماء أيديولوجي واضح، عدا حسّ ديمقراطي ورفض للعنف، حتى أن “سلميّة” بات شعارا يجمع المتظاهرين. كما عادت بعض الأحزاب المنسية نوعا ما خلال 30 سنة من الديكتاتورية الإسلامية-العسكرية لتظهر (قليلا)، بعد أن جمعتها قوى إعلان الحرية والتغيير.
كانت لهذه الحركة الديمقراطية شعبية هائلة، لكنها كانت تشكو ثلاث نقط ضعف: فهي حاضرة أكثر في المدن، وتعدّ خاصة “ولاد البلد” أي العرب الذين يعيشون في المحافظات المركزية، كما أنها -باستثناء نقابيي تجمع المهنيين السودانيين- كانت تشكو الكثير من الانقسامات.
جنرال بمساندة إماراتية:
كان سياق بداية سنة 2019 خاصا، إذ لم يعد النظام الإسلامي-العسكري إسلاميا، ودخل الجيش في منافسة مع قوات شبه عسكرية أصبحت مستقلة عندما طلب منها البشير أن تشارك في صراعات خارجية. وقد لعب إرسال حميدتي لـ“متطوعين” من قوات الدعم السريع إلى اليمن دورا مهما في ذلك. فبعد اعتقال البشير، أصبح حميدتي نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي، لكنه عمليا يلعب دور القائد الحقيقي، رغم وجود رئيس المجلس وهو الفريق الأول عبد الرحمن عبد الفتاح برهان. ويجب الإشارة هنا إلى أن تسليح هؤلاء المتطوعين يفوق تسليح الجيش النظامي الذي ينتمي إليه برهان، إذ ساهمت فيه الإمارات العربية المتحدة التي مدت قوات الدعم السريع بوسائل تقنية.
وحميدتي رجل متوحش وخبيث وذكي، رغم تدني مستوى تعليمه. وقد بات مليونيرا بفضل استغلال “فظ” لمناجم الذهب غرب البلاد. وقد كان قائد ميليشيا في دارفور حيث ارتكب أعمال عنف واسعة قبل أن ينقلب على البشير الذي كان يرى فيه “حاميه”. هنا يكمن التباس الوضع الحالي، فهل نحن أمام انقلاب عسكري أم أمام ثورة ديمقراطية؟
كانت الانتفاضة الشعبية مزيجا من الحفلة والاجتماع السياسي والتضامن الاجتماعي. كان الأطفال تحت رعاية الجميع، والنساء حاضرات بقوة، وأهالي المناطق الداخلية يكتشفون العاصمة، فيما رفعت شعارات “سلمية” و“حرية” و“ثورة“ و”ضد الحرامية“ و”مدنية”. وكانت الاعتصامات الثورية مخيمات احتفالية.
لكن فيما كان بعض العسكريين في الخرطوم يختلطون بالمتظاهرين، كان غيرهم يقتلون أو يطلقون النار على أنصار التغيير في المناطق الداخلية. ولم يكن هؤلاء عسكريين من الجيش النظامي الذين كانوا يحاولون حماية المتظاهرين، بل كانوا مرتزقة من قوات الدعم السريع التي جاءت من دارفور، أو من كتيبة العمليات التابعة لجهاز الأمن والمخابرات الوطني، من تأسيس الفريق الأول صلاح عبد الله قوش.
وقد كانت انتفاضة دارفور كسرت فيما قبل صورة “التجانس الوطني” تحت راية إسلام متطرف، كما فضحت حقيقة نظام فاسد انتقل إلى ممارسة تجارة غير قانونية أثناء الفترة البترولية (1999-2011). وقد باتت “الدولة العميقة” التي بناها الإسلاميون البديل الإيديولوجي (والمالي) لسودان مصطنع. وقد كانت أحداث 2019 كفرصة للكثيرين في السودان لمراجعة تاريخ البلاد منذ استقلالها سنة 1956، حيث كانت جميع الحقب محل نقاشات شعبية، مثل “الحرب الأهلية” مع جنوب مختلف، أو الانقلابات، أو الحديث الفارغ عن فورات ديمقراطية، أو الإسلام السياسي كحل معجزة، أو الاحتلال الذي يمارسه الحكم المركزي تجاه الجهات الأخرى. حتى القومية العربية كانت محل انتقاد. وكان نظام البشير تجسيدا لجميع أخطاء الماضي في ظل هذا التعطش لإعادة النظر في التاريخ الوطني.
أعراض ثورة تحن إلى الماضي:
لم يفهم المجتمع الدولي هذه “الثورة التي تحن إلى الماضي”. طبعا، يمكن مقارنتها بثورات “الربيع العربي”، إذ كانت تشترك معها في عدائها للديكتاتورية وطوقها للديمقراطية، لكنها لم تكن تثق أبدا في الإسلام السياسي الذي عارضه المتظاهرون بشكل واضح، ولا شك أن للاختلاف العرقي الموجود في السودان دورا في ذلك. الفريق الأول السفاح حميدتي من مواليد ضواحي دارفور، وقد جمع تحت راية قوات الدعم السريع الكثير من الجنود الضائعين الذين سبق وشاركوا في حروب الساحل (من التشاد- رئيس الأركان التشادي هو ابن عم حميدتي- والنيجر وجمهورية أفريقيا الوسطي وحتى منشقين عن بوكو حرام). لا يكن حميدتي عداء للإسلام لتجذر الثقافة الإسلامية في المجتمع السوداني. لكن الإسلاميين الذين يفضلون “الدولة الإسلامية العميقة” عن وطنهم قد خسروا السيطرة على السكان. وهو السبب الذي يجعل محاولة المملكة العربية السعودية والسودان في الحفاظ على نظام إسلامي دون إخوان ستبوء بالفشل.
تصفية لثكنات جهاز الأمن والمخابرات الوطني:
فهم ولي العهد الإماراتي محمد بن زايد هذا الأمر قبل “حلفائه السعوديين”، وكذلك فعل الفريق الأول حميدتي. لما تمرد شبه المسرحين من جهاز الأمن والمخابرات الوطني في ثكنتين في 14 يناير/كانون الثاني، حيث كانوا يمكثون دون عمل، لم يتردد حميدتي طويلاـ بل أرسل رجاله لمهاجمة الثكنتين وتواصل القتال حتى ساعة متأخرة من الليل. وقد عرف المتمردون بحلّ كتيبة العمليات التابعة لجهازهم والتي كانت تعنى بالابتزاز والاختطافات والضرائب غير الشرعية.
انهزمت مجموعات جهاز الأمن والمخابرات الوطني وذهب موتاهم في تعداد الخسائر. لكن حميدتي أجبر على السفر إلى أبو ظبي ليشرح لبن زايد قراره. فصحيح أنه حليف الإمارات في السودان، لكنه ليس مجرد أداة مفعول بها في المنطقة. وقد انتبه بن زايد إلى ذلك عندما اعتذر حميدتي عن عدم إرسال دعم للقائد خليفة حفتر الذي لم ينجح بعد في دخول العاصمة الليبية طرابلس. ولم يكن من الإمارات إلا أن قامت بتجنيد “حراس أمن” من خلال شركة بلاك شيلد للخدمات الأمنية وهي مجرد واجهة لسلطة أبو ظبي.
هناك مثال آخر على استقلالية ضابط دارفور، وهو رفضه تقديم يد المساعدة لمجموعات مرتبطة بالـ“دولة الإسلامية العميقة” حاولت تنظيم مظاهرات ضد السلطة في ود مدني (وسط السودان) في 11 يناير/كانون الثاني، فما كان منها إلا أن دفعت مقابلا لعمال فلاحيين عاطلين عن العمل لحشد الصفوف.
هل يمكن إذن قول إن تصريح الوزير الأول عبد الله حمدوك أمام الوفد الأمريكي يؤكد فعلا وجود نموذج سوداني للعلاقات بين المدنيين والعسكريين؟ الأمر صحيح نسبيا. فمن يقصد هنا بالـ“عسكريين” هو حميدتي، لأن الجيش النظامي لم يعد يسيطر على الوضع السياسي أو العسكري. فخلال محادثات جوبا بين مقاتلي الحركة الشعبية لتحرير السودان – الشمال المستمرة في إقليم كردفان جنوب البلاد، كان حميدتي يلعب الدور الرئيسي، وقد نجح في الوصول إلى اتفاق سلام أولي، قد يتأكد في 14 فبراير/شباط القادم.
اتهام الوزير الأول بالجمود:
لن تكون هناك انتخابات قبل 2021 وفق اتفاق تقاسم السلطة في 5 يوليو/تموز 2019، كما أنه لا يحق للمسؤولين الحاليين في الفترة الانتقالية أن يتقدموا لها. صحيح أن الوزير الأول عبد الله حمدوك يبذل قصارى هجده، لكنه يفعل ذلك ببطء شديد ومزعج في نظر السكان الذين شاركوا في المظاهرات حتى تاريخ يونيو/حزيران 2019. إذ لم يقرر إلا مؤخرا إقالة وزير الخارجية الذي أساءت لامبالاته إلى الديبلوماسية السودانية الجديدة، بعد 30 سنة من الركود والفساد.
كما يواصل حمدوك التوسل للبنك الدولي للحصول على مساعدة لا يزال يرفضها الأمريكيون بتعلة العقوبات التي صوتت لها في الماضي ضد النظام الإسلامي. وتبدو علاقة حميدتي بالوزير الأول جيدة دون أن تكون ودية، كما يبقى على صلة بأحزاب قديمة مثل حزب الأمة لصادق المهدي أو بأحزاب أخرى -لكن بأكثر سرية. ويقوم رجال حميدتي بتوزيع الغذاء والأدوية مجانيا، وهو اليوم يجند عناصر جدد ليس فقط في مسقط رأسه بدارفور، بل كذلك من “أولاد البلد” في وادي النيل.
أما سكان دارفور الحاضرون في مكاتبه بالخرطوم، والذي قُتل أحيانا أقرباؤهم على يد حميدتي، فهم ينتظرون الوقت المناسب للاستفادة من الوضع: “نحن نعرفه على الأقل ونعرف كيف نتعامل معه. كما يسرنا أن يصل أحد أبناء دارفور إلى الرئاسة، بعد سنين الاحتلال”.
إلى أين سيصل تاجر الإبل الذي صار قائد ميليشيا؟ كثيرون يعيبون عليه تدني مستواه التعليمي وأصوله غير السودانية، لكن ذلك لم يمنعه من أن يصير شخصية رئيسية على الساحة الدولية والإقليمية.
* صحفية تونسية ومترجمة عن الفرنسية من أسرة مجلة أوريان ٢١
المصدر: “أوريان21” في 4 شباط / فبراير 2020