مالك ونّوس *
من يقرأ المقال المنشور في عدد صحيفة “الشروق” التونسية، في 10 أبريل/ نيسان الفائت، يحتار في أمره؛ أيضحك سخريةً من حجم اللامعقول الذي يتضمنه؟ أم يبكي بسبب ما بلغته أحوال أنظمتنا العربية التي يعيش قادتها إما حالة إنكار متمادية أو أنهم باتوا أسرى أوهامهم ويريدون لرعاياهم أن يُصدّقوا هذه الأوهام؟
لنبدأ من عند عنوان المقال: “الرئيس “سعيِّد” يدفع بالمعركة إلى الداخل الإسرائيلي“، لكي نعرف مضمونه، ولنتوقع كل كلمة يسوقها كاتبه من أجل إقناعنا أن الرئيس التونسي قيس سعيِّد بات الآن واقفاً على مشارف القدس، ربما، ليطمئن على حُسن سير المعارك هناك ويوجِّه القوات الوجهة الصحيحة. ويبدو أن الكاتب، ومثله العديد من الكتاب والصحفيين والإعلاميين، قد أصيبوا بعدوى التهويمات التي أصيب بها سعيّد منذ تسلمه حكم البلاد في 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2019.
ويندر أن تمرّ مناسبة إلا ويستغلها الرئيس التونسي، قيس سعيِّد، للحديث عن أعداء تونس، ومثيري الفتن والمتربصين بها وبوحدتها ومن يريدون بها شراً. ومع مواظبته الدائمة على تقديم الوعود بالانتصار عليهم، يستمر بالحديث عن الـ”هُم” فتَحسُب أنهم أشباحاً، ولكن من دون أن يسمي أحداً من هؤلاء الـ”هُم”، أو يخرج إلى جمهوره وقد أمسك بأحد الأعداء من أذنيه ورفعه أمامهم، إثباتاً لصحة كلامه عما يحيق ببلادهم من أخطار.
وقد درَجَ سعيّد على هذا النهج منذ اليوم الأول الذي فرض فيه الإجراءات التي سماها “استثنائية”، في 25 يوليو/تموز 2021، وصولاً إلى يوم 13 ديسمبر/كانون الأول 2021، حين أعلن خطته لتغيير النظام الذي تكرس بعد ثورة 17 ديسمبر 2010، من دون أن ينسى توجيه الشتائم والاتهامات لخصومه، واصفاً إياهم مرة باللصوص، ومرّة بالعملاء والمتآمرين والخونة وغيرها من الأوصاف، وطبعاً من دون تسمية واحدٍ منهم أو تقديمه للمحاكمة.
بكلامه عن الأعداء غير المرئيين، يُذكّرنا الرئيس التونسي بالرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في السنوات الأولى من حكمه، وكلامه الذي واظب فيه على الحديث عن مؤامرة تتعرض لها بلاده وعن حروب خفية يشنها عليها الأعداء ومن كان يسميهم “الأشرار”. وصادف حينها أن تعرَّض جنود مصريون لهجوم في العريش، في أكتوبر/تشرين الأول 2014، أودى بحياة عدد منهم فكانت مناسبة ليتحدث السيسي عن الإرهاب ويُضخِّمه ويتهم دولاً، لم يسمّها، بأنها تقف وراء الإرهاب في مصر!
وعلى سبيل المثال، وبمناسبة “عيد الشجرة” الذي صادف يوم 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، لم يفت سعيِّد، المُولع بتشذيب الكلام والاتكاء على البلاغة لإيصال ما يريد من رسائل، أن يتحدث خلاله عن أصحاب الفتنة من ضمن سياق الحديث عن “زراعة” الأشجار. قال سعيِّد: “نحن هنا في الزهراء، لكن هناك في أماكن أخرى البعض لا يزرع الأشجار ولكن يزرع للأسف بذور الفتنة. زرعهم سيكون كأعجاز نخلٍ خاوية، وقد بدأت تتآكل، بل وتآكلت منذ أعوام، لأن السوس قد نخرها. وستأتي على من يريدون ضرب الدولة التونسية ووحدتها وتحقيق آمال شعبها ريحٌ عاتية، ولن تترك منهم بقية باقية”.
الكلام ذاته ساقه سعيِّد في تلك الفترة من سنة 2021، حين استقبل في مكتبه وزير تكنولوجيات الاتصال، نزار بن ناجي، وألقى على مسامعه خطبة عن المجهولين الحاضرين في ذهنه. قال للوزير: “تحولَ الكثير من الإدارات إلى بؤرٍ من بؤر التجسس، وحينما تمشي في أي رواقٍ بأي وزارة كأنك تسمع فحيح الأفاعي دون أن تراها فلا بد من تطهيرها ولا بد من أن يعمل الجميع في كنف القانون”.
هذا المنحى الخطابي ليس صدفة. يريد سعيِّد من خلال عدم ذكر أسماء هؤلاء الجواسيس والأفاعي والأعداء تكريسهم أشباحاً، إذ يواصل ما قاله في سيدي بوزيد، في 20 سبتمبر/ أيلول 2021، حين أفصح عن سبب امتناعه عن تسميتهم قائلاً إنه: “يتعفف عن ذكر أسمائهم”، تماماً مثلما انتبه عند حديثه عن الأفاعي فقال: “تسمع فحيحها من دون أن تراها”، مركزاً على عبارة “من دون أن تراها” لكيلا يقال له لماذا لا تقتل هذه الأفاعي لنتخلص من سوئها؟ وهو بذلك يردّ على أناسٍ كثيرين يطالبونه بكشف شخصٍ واحدٍ من هؤلاء الأعداء وذكر اسمه على الملأ.
وفي كلامه عن المتربصين بالبلاد، من الفاسدين وأصحاب الفتن والجواسيس والخارجين عن القانون، ربما يريد سعيِّد تحقيق غايتين أساسيتين. الأولى هي ابتزاز الفاسدين؛ إذ يخال للسامع والمتابع لخطاباته التي يواظب فيها على الكلام عنهم، من دون أن يكشف عن أيٍّ منهم أو يُقدم واحداً منهم للمحاكمة، أنه لا يفعل ذلك سوى لتهديد هؤلاء الذين يعرف مدى نفوذهم في إدارات الدولة واقتصادها، والإيحاء لهم أنهم تحت نظره يراقبهم في ما يفعلون وفي انتهاكهم للقوانين. ومراقبته لهم، من دون محاكمتهم، توحي أنه ربما يريد ابتزازهم من أجل استمالتهم إلى صفه في معركة مقبلة يحضّرها ضد معارضيه. فإذا امتنعوا عن الوقوف إلى صفه، يمكنه أن يفتح الأدراج ويُخْرج منها ملفات فسادهم الجاهزة والمستوفية موجبات الادعاء عليهم، ويُقدّمهم للمحاكم التي سترسلهم بدورها إلى السجون.
أما الغاية الثانية، وهي الأخطر، والتي ربما سيشرع بتحقيقها بعد أن تتحقق له الغاية الأولى ويشعر أنه ممتلئ بأسباب القوة ومحاط بالمناصرين النافذين، هي ضرب المعارضين من كافة التوجهات. وقبل إتمام ذلك، بدأ بضرب الجميع بالجميع؛ إذ بحجة أنه يستهدف الإسلاميين، كما شاع أنه سيفعل في الأيام الأولى لانقلابه، يستميل اليساريين، ثم يضربهم حين يفرغ من الإسلاميين، ويضرب معهم كل من يعارضه من زعماء الأحزاب والتيارات وجمهورها. وفي هذا السياق، يُؤسّس لضرب الحريات عامة، فقد ينبري، حين يفرغ من ضرب الأحزاب، إلى ضرب الإعلام والصحافة التي عادة ما تكون حريتها شوكةً في حلق كل مستبد.
وسعيِّد الذي تتميز لغته بالتكلف وبتقعر كلامها وثقله على الآذان وغرابته عن العامة وبعض الخاصة، يعاني من سكتات وسط الجملة، فتخونه الكلمات ويتلعثم، ما يؤدي به إلى الانتقال إلى فكرة أخرى تخدم ما يطرأ على لسانه من كلام لا يأتي في سياق ما سبقه. ولا يعكس تفكك كلامه وسكتاته سوى غياب الرؤية لديه، أو عدم وضوحها إن وجدت. ولا يدل فقدان مفوَّه من أمثاله القدرة على الاسترسال، سوى أنه يخوض في أمر من خارج اختصاصه.
يُقامر قيس سعيِّد باستقرار بلاده متناسياً أن الجميع سيكون خاسراً في مقامرته هذه، بمن فيهم الرئيس ذاته. وتظهر الخسارة كل يوم مع تسارع الإنهيار الاقتصادي والمعيشي والاجتماعي والتحذير من إفلاس مالي وشيك، فضلاً عن بروز مؤشرات أمنية خطيرة، كما حدث قبل شهرين في “عقارب” (لعبة كرة قدم انتهت إلى تكسير وجرحى وأعمال عنف)، في ظل الرخاوة السياسية والميوعة القضائية، وأحد تعبيراتها اعتقال زعيم حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي، الأمر الذي يجعل الكثيرين من التونسيين يترحمون على مرحلة ما قبل “ثورة الياسمين”، فضلاً عن فتح الباب أمام “الإخوان” للاستثمار في “المظلومية”.
والأدهى من ذلك أن الرئيس سعيّد يبدو وكأنه يعيش في ظل رفاهية الوقت، بينما الوقت يمضي وينسلُّ من بين أصابع التونسيين، في حين أنهم بحاجة إلى كل دقيقة لترميم اقتصادهم، بعد جائحة كورونا وشلل البلاد في إثر فرض تدابير سعيِّد الاستثنائية وانعكاسها سلباً على كافة قطاعات البلاد الاقتصادية، فهذا أمر قد يؤثر على حسن سير المعركة التي دفع بها سعيِّد إلى الداخل الإسرائيلي، لا قدر الله!
* كاتب ومترجم سوري
المصدر: 180 بوست