الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

قضية : أزمة المعارضة السورية || سورية المريضة وليس الأسد

محمد خليفة

مقدمة

في الذكرى السنوية الثانية لرحيل محمد خليفة، رحمه الله، الباحث والكاتب الصحفي، والمناضل ضد نظام آل الأسد طوال سني حياته، نعيد نشر دراسة قيمة له، تكريماً ووفاءً وتذكيراً بمواقفه الوطنية المبكرة ونظرته الاستشرافية. الدراسة كتبها ونشرها على أربع حلقات، وباسم مستعار: “خالد العربي”، في مجلة “النشرة” التي كانت “تعنى بشؤون حركات التحرر العربية والعالمية” مساهمة منه في إطار ملف كبير عملت عليه، النشرة حينها، تحت عنوان: (أزمة المعارضة السورية).

الدراسة نشرت في الأعداد 119حتى 122 في الفترة الممتدة بين شباط/ فبراير 1989 حتى نيسان/ أبريل من العام نفسه.

في هذا الصدد الشكر الجزيل للأخ محمود خزام رئيس تحرير مجلة النشرة الذي قدم لنا ما يملك من اسهامات راحلنا الكبير محمد خليفة في المجلة المذكورة.

اليوم، في ظل المحنة السورية كم نحن بحاجة، لمحمد خليفة وأمثاله، لقلمه ورؤيته ومواقفه.؟

***************************

القوى الوطنية السورية أحوج ما تكون إلى الحوار والسجال فيما بينها

باستلام الأسدِ السلطة دخلت سوريا مرحلةَ إضفاءِ الطابع الشخصي على السلطة

الرئيس الأسد ما هو إلَّا «فيروس» خطيرٌ أصاب سوريا بالمرض

الحوارُ يستمر ويتطور، والمساهمات الصادقة والحريصة على معالجة الموضوعِ بكل صدقٍ وأمانة من أجل الوصولِ إلى النتائج الإيجابيةِ المرجوة؛ وعلى حد تعبير كاتب المقال المنشور هنا: «بأنَّ القوى الوطنيةَ السوريةَ أحوجُ ما تكون إلى الحوار والسجال فيما بينها، والغيابُ الطويل للحوار هو أحدُ أبرز وجوهِ المشكلةِ الوطنية ممثلةً بالمعارضة السورية»…تتابع «النشرة» عرضَ كلِّ ما يصلُها من مساهمات حول «أزمة المعارضة السورية»…والدراسةُ الهامةُ التي ننشرها هنا لأحد الكتاب والصحفيين السوريين المعارضين، وهو الزميل «خالد العربي» تتناول الموضوع من زوايا عديدة عبر ثلاث ركائز، هي: «النظام ـ المجتمع ـ  المعارضة» هنا الحلقة الأولى الخاصة بالنظام …

مقدمة:

منذ بداية «المسألة الوطنية السورية» لم يحدثْ حوارٌ سياسيٌّ ـ صحفي، أي علني ـ بمثل أهميةِ الحوارِ الذي جرى على صفحات «النشرة» خلال الشهور الماضية؛ ولذلك فأيًّا كانتِ الملاحظاتُ على هذا المقال أو ذاك، وأيًّا كانتِ المواقف ووجهات النظر حول المسائل والقضايا التي تعرضت للضوء وتبادلِ الرأي والسجال، فالحوارُ برمته غنيٌّ ثري، وهو ما ينفع الناس والوطن؛ ولذلك فإنَّه سیمکث في الأرض، وأمَّا الزبد، فسيذهب جُفاء.

لقد تابعتُ الحوار، وسعدتُ به كحدث قبل أن أسعد به کآراء ومشاعر؛ لأنَّ القوى الوطنية السورية أحوجُ ما تكون إلى الحوار والسجال فيما بينها، والغياب الطويل للحوار هو أحدُ أبرزِ وجوه المشكلة الوطنية، ممثلةً بالمعارضة، وهو بلا شكٍّ أحدُ ظلالِ القمع السلطوي العنيف للتفاعل الاجتماعي أو السياسي وتغييب الحريات ولاسيما الصحافة. ولكنني أخشى أن أُضيفَ أنَّ غيابَ الحوار فيما بين أطراف القوى الوطنية يرجع فيما يرجع إلى تأثُّر هذه القوی المغلوبة على أمرها بالطرف الغالب، فحملت من دیکتاتوریته، وأحاديثِه بعضَ الظلال التي علقت بها، وهي تواجهُه وتعارضُه وتقاومه. وإذا صح ذلك فإنَّه يعني أن تبدأ هذه القوى بمواجهة ذاتِها، وممارسةِ المعارضةِ والمقاومة لأخطائها على طريق التغيير الوطني الديمقراطي الشامل؛ لكيلا تتكررَ التجربة المريرة، ويتحولَ الثوري والوطني كلَّ مرة إلى فاشيٍّ أو إرهابي جديد.

على أية حالٍ لن نكرر في مساهمتنا في هذا الحوار ما مرَّ عليه الأخوةُ والزملاء فقد ثبَّتوا نقاطًا بارزةً وهامة، ولكن نأمل أن يُسمحَ لنا برسم رؤى أوسع وأهدأ، ونأمل أن تكون أيضًا أعمق؛ لأنَّ الحوارَ مازال في بدايته، ويتسع لما هو أكثر.

سمات نظام الأسد:

مع وصولِ الرئيس حافظ الأسد إلى قيادة الحكم في 16 تشرين ثاني 1970 دخلت سوریا مرحلةً مميزةً وفريدة في تاريخها المعاصر، يصحُّ أن نطلقَ عليها مرحلة أو حقبةَ الأسد؛ لأنَّها المرةُ الأولى التي يستمر فيها حاكمٌ واحدٌ على رأس الحكمِ هذه المدة الطويلة، فحسبُ!!! في بلد عُرف بكثرة الانقلابات والثورات والغليان السياسي والاجتماعي، وإنَّما لأنَّ المنهجَ الرئيسي الذي ساد هذه الحقبةَ هو إضفاءُ الطابعِ الشخصي على كل شيءٍ في الدولة، وفي النتيجة نجح الأسد فعلًا في إرساء النظام البونابرتي، وإدارةِ النشاطِ السياسي والحياة العامة بصفة شخصية، تبدأ به، وتنتهي عنده، وصارت مقولةُ «سوريا الأسد» التي ترددها وسائلُ الإعلام السورية ليل نهار، عبارةً صحيحةً في الواقع الموضوعي ـ طبعًا ليس بالمعنى الذي تريده الدعاية السورية، وإنَّما بمعنى أنَّ هذا الفردَ هو الإرادةُ الوحيدة في الدولة، ولا وجودَ لمؤسسات أو لأجهزة حكومية أو سیاسية أو حزبية أو نقابية، وغير ذلك من هياكل الدولة الحديثة التي تشترك في إدارة السلطة والشؤون العامة، فلقد أصبحت هذه الهياكلُ كلُّها مجردَ قوائم وقواعد تخدم مشيئة الرئيس القائد، وتنفذ رغبتَه وإرادته، مع إضفاءِ صفاتِ العبقرية والإلهام على كل ما يقوله أو يفعله هذا القائدُ التاريخي الذي أرسلته «العناية الإلهية» لتحقيق طموحات الشعب السوري أو الأمة العربية على حد ما تعزفه أبواق الدعاية المعروفة!!

ولا بدَّ في البداية من هذه المساهمةِ المتواضعة في أن نقوم بعملية «توصيف» للنظام السوري، نستنبط خلالها السماتِ الرئيسةَ لحقبة الرئيس الأسد في سوريا، ومقوماتِها، ومصادرَ قوتِها واستمرارها، وعواملَ القوة والتناقض والضعف فيها، وهذه العمليةُ ضروريةٌ لكي نُطِلَّ منها إلى الجوانب الأخرى من حديثنا، فهي بالأحرى عمليةُ فحصٍ سريريٍّ لنظام الأسد، الهدف منها وصف العلاج، ولكن منه لا له، ولسوريا لا للأسد؛ فهي المريضة لا هو. وإن كان هو المهددَ بالموت والزوال لا هي، وما هو في حكمة واحدة سوى فيروسٍ خطيرٍ أصاب سوريا، ولكنَّها بقواها الذاتية وعناصر الحياة الخلَّاقة في مجتمعها العريق قادرةٌ أن تتخلص منه، وتبرأ من آثاره.

أولًا: من الجيش إلى المخابرات:

كانتِ السلطة في سوريا قبل وصولِ الأسد، ترتكز بصورة رئيسة على الجيش، وعلى الرغم من وجود دور ثانوي لحزب البعث، فإنَّه لا أحدَ ينكر أنَّ العسكريين البعثيين هم الذين كانوا يقررون في النهاية، وهو أصلًا استمرارٌ لدور الجيش في الحياة السياسية السورية منذ الاستقلال عام 1945 وبلا انقطاع، الذي برز أحد أبرز الجيوش التي انصرفت للاهتمام بالسلطة في العالم الثالث كلِّه.

ولم تُجْدِ محاولاتُ بعضِ المثقفين والمدنيين في الحزب بين عامين 1963 و1970 لإبعاد الجيش أو لتقليص دوره في الحكم، فقد خرج هؤلاء، وأُبْعدوا واحدًا بعد الآخر، بمن فيهم القياداتُ التاريخيةُ للبعث (عفلق ـ البيطار)، وبقي الضباطُ الشبان.

بل إنَّ الدافع المباشر لانقلاب الأسد نفسه عام 1970 كان وأدَ أخرِ محاولة لتسييد سلطةِ الحزب على سلطة العسكر؛ التي تمرد عليها «الرفيقُ» الأسد في المؤتمر العام للحزب ضدَّ الجناحِ الآخر الذي كان يمثله صلاح جديد…والمضحكُ حقًّا أنَّ الجناحَ الآخر كان عسكريًّا أيضًا!!

إذن لم يختلفِ الأمرُ بعد وصولِ حزبٍ عقائدي إلى السلطة عام 1963، وإنَّما ظلتِ السلطة مسرحًا لصراع العسكرِ منذ الاستقلال حتى عام 1970، ولا يغير من هذه الحقيقةِ أنَّ بعضَ السنواتِ القليلة في الأربعينات والخمسينات كان الحكم فيها مدنيًّا برلمانيًّا؛ لأنَّ ظلَّ العسكر كان يخيم فوق الجميع، حتى أنَّ توقُّعَ الانقلاب كلَّ أسبوع، أو التهديدَ به في سوريا خلال تلك السنوات، كان شيئًا شائعًا دائمًا…بل كان يدخل في نسيج أيِّ نكتة…وكان بإمكان أيِّ قائدِ لواءٍ لا قائدَ الجيش فقط ـ رفضُ أيِّ قرارٍ لوزير الدفاع أو لرئيس الحكومة، أو لرئيس الدولة!

تغيَّرَ هذا الأمرُ تمامًا مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة، على الرغم من أنَّه وصل على دبابات الجيش…

فخلال ثلاثِ سنوات فقط أي حتى عام 1973، وهي سنواتٌ شكلت مرحلةً انتقاليةً في عمر نظام الأسد على غير صعيد، كان قد تمكَّن من بناء أجهزة بديلة يدعم بها سلطته، ويُقيم عليها نظامَه، ويطبق بها «مشروعه».

ما الذي فعله الرئيس الأسد؟

أولًا: إضعافَ الجيش، وتفكيكَ وحدته الوطنية.

ثانيًا: بناءَ «جيش طائفي» يحمي النظام من خطر الجيش الوطني.

ثالثًا: بناءَ أجهزةِ مخابرات لا تُعَدُّ ولا تُحصى، وتوسيعَ نطاق عملها وصلاحياتها؛ لتكون الأجهزة البديلة والجديدة للنظام والحكم وإدارة شؤون البلاد والعباد.

ولأنَّ «الجيش الطائفي» الذي شكَّله الأسدُ عام 1971 ونعني به سرايا الدفاع…ثم سرايا الصراع بقيادة شقيقيه رفعت وجميل، لم يكن من ضمن مهامه إطلاقًا التصدي للعدو الخارجي، أو خوض حرب على الحدود، بل كانت مهمتُه محصورةً في حماية العاصمة والدفاع عن النظام ـ وبالأساس ضد الجيش ـ فهو بهذا المعنى لا يعدو أن يكون جهازَ أمن داخلي يُضاف إلى أجهزة المخابرات وفروعها وعشرات الألوف من عناصرها وكوادرها ومخبريها…

هكذا أصبح نظامُ الأسد وبالتدريج يقوم على المخابرات لا على الجيش، ولتعزيز هذه النتيجة وتكريسها، عمل الأسد على إضعاف القوات المسلحة وشلها من خلال وسائلَ وأساليبَ كثيرة:

1 ـ فرضِ الوصاية عليها من قبل سرايا الدفاع والمخابرات…

2- إعطاءِ الأسلحة الحديثة والمتطورة لسرايا الدفاع…

 3-بذرِ وزرع الطائفية داخل الجيش على أوسع نطاق، وتسلم المواقع والمناصب والمراكز الرئيسة والحساسة لأبناء الطائفة العلوية بصرف النظر عن الجدارة؛ الأمر الذي أثار استياءَ الخبراء السوفييت مرات عديدة…وهكذا حتى أصبح أيُّ رقيب علوي في الجيش يأمر ويحكم أكثر من عقيد غیرِ علوي…كما يقال.

4- تمَّ إقحامُ الجيش في الحرب الأهلية اللبنانية، وتحويلُه إلى شرطة سير في بيروت، أو عصاباتٍ للسرقة والنهب وتجارة المخدرات والتهريب عبر الحدود، حتى أصبحت هذه التصرفاتُ مع الوقت «سلوكًا» عامًا في لبنان وسوريا، حيثُ انتشرت في السنوات الأخيرة ظاهرةُ عصاباتِ السطو في المدن السورية، وأغلبُ أبطالِها من العسكريين الذين خدموا في لبنان…وطبعًا فإنَّ المهمَّ هنا ليس أثر هذه الظاهرة فقط، وإنَّما تأثيرها على سمعة القوات المسلحة الوطنية تجاه الشعب السوري ودورها في مواجهة الخطر الصهيوني، ومصداقيتها في هذا الميدان الخطير، وقد أثبتتِ السنوات الماضية أنَّها مصداقيةٌ متداعيةٌ، ولا سيما في حرب 1982. ولكن هذه النتائجَ في تقديرنا مقصودةٌ تمامًا من قبل النظام لأكثر من هدف.

ما يعنينا هنا هو تحولُ الحكمِ لأول مرة في تاريخ سوريا من حكم عسكري إلى حكم بوليسي؛ من حكم الجنرالات العسكريين إلى حكم أجهزة المخابرات ورجالها الغامضين الذين لا يعرف أحدٌ أسماءهم أو صورهم! ولا شك أنَّ لكل واحدٍ من النظامين کيفيةً وسماتٍ وأساليبَ ونتائجَ خاصة به ومميزة عن الأخر، وشتان بينهما، فالنظامُ العسكري نظامٌ تعسفيٌّ وجائرٌ بلا شك، ولكن نظامَ البوليس نظامٌ إرهابيٌّ مدمر. بين الاثنين عناصر مشتركة، ولكن بينها فوارقُ جوهرية، أهمُّها أنَّ النظام العسكري يحطم المؤسسات الدستورية للدولة، ولكنَّ آثارَه على المجتمع محدودة، أمَّا النظام البوليسي الإرهابي، فإنَّه يدعم بنية الدولة القمعية، ويحطم والمجتمع تحطيمًا عنيفًا غالبا؛ ما يؤدي إلى انقسامات خطيرة، وربَّما إلى حروب أهلية طائفية…وهذه بعض أطياف الأشباح التي تحلق في أفق المستقبل لسوريا.

ثانيًا: من الوطنية والقومية إلى الطائفية:

حتى وصول الأسد إلى الرئاسة، كان الخطابُ الأيديولوجي ـ السياسي للأنظمة المتعاقبة التي حكمت سوريا وعلى اختلاف مذاهبها، خطابًا قوميًّا وعربيًّا، بل وكانت هذه الميزة تشكل اللغة المشتركة لجميع الأحزاب والفئات السياسية والنقابية والطبقات الاجتماعية على اختلافها أيضًا، وإنْ اختلفتِ الدرجةُ والنظرةُ بين حزب وأخر أو بين طبقة وأخرى.

وكانت سوريا بحقٍّ قلبَ العروبة النابض، وشلالَ الحركةِ القومية الهادر، ولم تكن هذه الحقيقةُ مجردَ لغة غنائية، وإنَّما كانت دورًا فاعلًا وحقيقيًّا على الساحة العربية، تجلَّى في جميع الأحداث الوطنية والقومية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولاسيما في مضمار القضية الفلسطينية، ثم في مضمار مواجهةِ الأحلاف الاستعمارية، والتعاطف مع ثورةِ 23 يوليو في مصر وحربِ القناة، وقد أفضى هذا الدورُ إلى تحقيق أولِ وأعظم تجربةٍ وحدويةٍ حقيقيةٍ في التاريخ العربي الحديث والمعاصر، ثم تحقيق أول تحول اجتماعي باتجاه العدالة وإقامة الاستقلال الاقتصادي، والتخطيط الاشتراكي (بالاشتراك مع مصر).

وإذا کانتِ «الناصرية» هي أبرز الظواهرِ العربيةِ القوميةِ الاشتراكية والتحررية في الخمسينات والستينات، فإنَّ سوريا كانتِ العمقَ القوميَّ للتجربة الناصرية، والبيئةَ التي أخصبت فيها وازدهرت.

وفي خضم تلك التحولاتِ العميقة، كان المجتمع السوري قد تقدم أشواطًا كبيرة، وارتقى درجاتٍ كبيرةً على صعيد الوحدةِ الوطنية والتماسك الاجتماعي. كانتِ الحركاتُ السياسية والأفكار التي يدور من حولها الصراعُ والجدل أفكارًا في غاية التقدم والحداثة والعصرية؛ تتمحور حول النضال الطبقي ضد الاستغلال والرجعية والإقطاع والرأسمالية، وضد الاستعمار الخارجي والرجعية العربية، وكانتِ الأحزابُ والنقابات والفئات الاجتماعية في ذروة حيويتِها وفاعليتها، وكذلك الحياة الثقافية والصحافية، وكذلك ميادين الإنتاج الزراعي والصناعي والتجاري.

أي أنَّ المجتمعَ السوري كان في حالة انقسامٍ عموديٍّ بين طبقاتٍ شعبية وطبقات رجعية، واختفت آثارُ الانقسامات الأفقية المرضية التقليدية: القبلية والعشائرية، والطائفية، والمذهبية، وغيرِ ذلك…هذه الانقساماتُ التي ظهرت في فترات سابقة نتيجةً لأوضاع التقهقرِ والتخلف، فضلًا عن عوامل الاستعمارِ والهيمنة الأجنبية التي عملت على تفجير هذه الدماملِ والأورامِ في العهود العثمانية ثم عهود الاستعمار الأوروبي، غير أنَّ سوريا في الستينات، كانت قد تخلصت بصورة شبهِ نهائية من الطائفية والمذهبية، وبصورة أقل من العشائرية والقبلية، وكان الجيلُ الجديد آنذاك الجيلَ الذي وُلد وترعرع بعد الاستقلال وفي خضم المعارك القومية والاجتماعية؛ قد شبَّ وهو بريءٌ تمامًا من أية لوثةٍ أو لغةٍ طائفية أو مذهبية، بل كان يجهل جهلًا مطلقًا ومطبقًا المسائلَ الطائفية؛ وكان جلُّ طموحِه التقدمَ أكثر على دروب التحرر الوطني والاجتماعي وتحقيق الديمقراطية والوحدة العربية، وتحرير فلسطين وغير ذلك من الأهداف السامية والمشروعة التي تشكَّل منها وجدانُه وذاكرتُه، ووجَّه إليها طاقاتِه وكفاحَه…وكان أيُّ حزبٍ سياسي في تلك الفترةِ يقوم على أسس طبقيةٍ وأيديولوجيةٍ بحتة، وينتشر في جميع المحافظات السورية بلا استثناء، مخترقًا جميعَ الطوائف والمذاهب والأقليات.

المبرر الوحيد لهذا الاستطرادِ المسهب هو تبیان حجم الردة التي خلفها نظام الأسد بدءًا من عام 1971.

لقد بدأ الأسد منذ الأيام الأولى لوصوله إلى السلطة بإحياء الطائفية واستغلالها في تكوين القاعدة الاجتماعية ـ الطائفية لنظام حكمه.

والمفارقةُ الكبرى أنَّ الشعبَ السوري في العام الأول لحكم الأسدِ، قدّم له تأييدًا لم يقدمْه من قبل إلَّا للزعيم الخالد جمال عبد الناصر، فكانتِ الغالبيةُ الساحقة من الجماهير، وكذلك الأكثريةُ المطلقة من الأحزاب والحركات السياسية إلى جانب الرئيس الأسد، أي أنَّه حظيَ بشرعيةٍ وطنيةٍ مثالية، وقاعدةٍ شعبيةٍ عريضةٍ وقياسية، ومع ذلك، ورغم ذلك، فإنَّ الأسدَ بدَّد هذه الشرعيةَ والقاعدةَ العريضة لحكمه، واختار بدلًا منها الشرعيةَ الطائفية، والقاعدة المحدودة…

لماذا؟!!

إنَّه سؤالٌ هامٌّ…وعسيرُ الإجابة. ولكن الأرجح أنَّ الرئيس الأسد کان طائفيًّا في أعماقه وتفكيره وتكوينه، وكان يحمل في رأسه مشروعًا طائفيًّا، «ناضل» في سبيله تدريجيًّا، مثلُه مثل جناح كبير قد اختار التسلل إلى حزب البعث والاختفاء وراء الشعارات القومية، بانتظار الفرصةِ السانحة، وقد حانت هذه اللحظةُ تدريجيًّا منذ عام1965…وأثمرت نهائيًّا عام 1970، طبعًا إنَّ هذه السمةَ أو التي قبلها أيضًا والتي ظهرت في حقبة الأسد بوضوح صارخ، کانت بذرتُها موجودةً وكامنة في نظامي البعث السابقين منذ 1963 و1970، ولكنَّها لم تتفتحْ وتزدهرْ وتكتملْ إلَّا في عهد الأسد. يعرف هذا جميعُ قادة وكوادر البعث السابقين من أمثال د. جمال الدين الأتاسي وعبد الكريم زهور ومطاع صفدي…وسواهم عشرات…

في الستينات كانت هناك مفرداتٌ ومصطلحاتٌ مشبوهة، قد بدأت تروج مثل: الطبقة -الطائفة، وأنَّ الطائفةَ العلوية بسبب الحرمان الاجتماعي الذي عانته في الماضي، أصبحت مؤهلةً أكثرَ من سواها لقيادة النضالِ الاجتماعي التقدمي…وما إلى ذلك من أفكار كريهةِ المعنى والرائحة. وللأسف قدَّمتِ المنظماتُ الماركسيةُ المتعددة الألوان: الماوية والستالينية واللينينية والتروتسكية فتاوى نظريةً مؤيدة لها، لا لشيء، سوى أنَّ تلك الأفكارَ في زاوية منها هي والتي تلت معها معادية بطبيعتها للدين، وللمذهب السني باعتباره مذهبَ الغالبية الشعبية، أي مذهب «الرجعية السورية»! إضافة إلى أنَّ هذه المنظمات هي بطبيعتها ولأسباب تاريخية ذاتُ قاعدة أقلاوية في المجتمع السوري… وأبرز مثال عليها الحزب الشيوعي السوري، حزب بكداش الذي تتكون غالبيتُه الساحقة من الأكراد والأرمن، الأمرُ الذي يفسر الكثير من مواقفه من قضايا الوحدة وفلسطين ومصر وحكم الأسد.

المهمُّ أنَّ حافظ الأسد استهلَّ عهدَه وبلا أي تلكؤ باستنهاض الروح الطائفية، فخلق جيش سرايا الدفاع كأداة رئيسة للسلطة من أبناء الطائفة العلوية، ثم طبق مشروعًا مكثفًا وعاجلًا لإحلال العسكريين العلويين في جميع المواقع الحساسة داخل الجيش…بل جعل بعضَ الأسلحة والاختصاصات حكرًا مطلقًا لهم، کسلاح القوى الجوية…وجعل الصعود إلى رتب معينة خاصًّا بالعلويين…ثم كوّن أجهزة المخابرات، ووضعها جميعًا تحت سيطرة العلويين، إضافة إلى الوزارات والإدارات الحساسة في الدولة.

ثمَّ شكَّل جمعياتٍ وروابطَ طائفيةً محضةً مثل جمعية المرتضى…ومنذ عام 1973، وفي أول انتخاباتٍ لمجلس الشعبِ أيقظ الرئيسُ الأسد أيضًا العشائرية والقبلية في جنوب وشرق سوريا…وقدَّم دعمًا ماديًّا سخيًّا لزعماء العشائر والقبائل الذين كانوا قد فقدوا في مرحلة سابقة أيَّ نفوذ لهم تقريبًا؛ وقد فعل ذلك بلا أيِّ مبررٍ مفهومٍ في الواقع سوى أنَّه -ذاتيًّا-كان يريد ذلك.

وتتالتِ الأحداثُ والتطورات وظهرتِ النتائجُ على النحو المعروف حتى أمسى النظامُ في نهاية السبعينات نظامًا طائفيًّا صارخًا، يخدم مصالح طائفة واحدة (بصرف النظر عن موقف غالبية هذه الطائفة) إلى درجة أنَّ صحيفة تشرين ذات يوم كتبت عنوانًا عريضًا: منطقةُ الساحلِ منطقةٌ مكتفيةٌ ذاتيًّا في جميع المجالات…مشروع دولة ؟؟!!

وعندما خاض الإخوانُ المسلمون «ثورتهم الطائفية» المضادةَ للنظام أسقط الأسد آخر ورقة توت تستر طائفيته؛ فواجه الأحداث مواجهةً طائفيةً دموية، وكان رفعت يحرض أبناء الطائفة ليهبوا دفاعًا عن نظامهم ومصالحهم علنًا، وبلغ به الحدُّ أن جنَّد أبناء الطائفة العلوية في لواء اسكندرون واستقدمهم ليدافعوا عن أبناء طائفتهم في سوريا من خطر مزعوم.

ثالثًا: من الاقتصاد إلى السياسة، دور النفط:

أخطرُ آثار حقبة الأسد على الاقتصاد السوري تلك التي ظهرت في السنوات الأخيرة (1980 – 1988) متجليةً في أزمة عامةٍ وشاملةٍ لم تعرفها سوريا منذ عام 1914.

فقد اعتمدت سياسةُ الأسد منذ البداية في الحقل الاقتصادي على تحويل الاقتصاد إلى سياسة، وهي فكرةٌ يطول شرحُها، ويصعُب إنجازُها، لكن ما يمكن قولُه هنا: إنَّ أجهزة النظام ولاسيما أجهزة الأمن التي تدخلت في كل حقل ومجال ومیدان من الحياة العامة للمجتمع؛ ربطت بين كلِّ نشاطٍ وبين السياسة؛ في سبيل إخضاعِ الشعب والمواطنين وقهرهم وإذلالهم، فحولت الزراعة إلى سياسة، وجعلت من الصناعة سياسة، والتجارة أيضًا، والثقافة، فالحصولُ على السماد من قبل الفلاح يحتاج إلى موافقة حزبية وأمنية، واختيارُ الفلاح لنوع المحصول، أصبح يتطلب موافقةً حزبيةً وأمنيةً وإدارية وهكذا…وفتحُ ورشة صناعية، أو الحصولُ على المادة الخام أو القرض من المصرف أو رخصة الاستيراد أو رخصة التصدير يتطلب المرور عبر أجهزةٍ لا صلة لها بالصناعة أو الإدارة، ويتطلب دفعَ رشا وعمولات، والانخراطُ في عضوية منظمات سياسية يتطلب استرضاء أجهزة أمنية لا يعلمها إلا الله…وكذلك أصبح أيضًا إصدار كتاب أدبي أو المشاركة في أمسية شعرية، أو إجراء حفل فني ساهر أو تشکیل جمعية خيرية أو فنية أو علمية…وغير ذلك، يستلزم حتمًا المرور عبر المخابرات، ونیلَ موافقتها، وهي موافقة مشروطة بالولاء السياسي للنظام.

لقد أصبح الولاءُ السياسي هو الشرطَ اللازمَ والوحيد والإجباري لممارسة أيِّ نشاط اجتماعي بما في ذلك الزراعة، والصناعة، والتعليم…والانتساب إلى الجامعة!

وبطبيعة الحال صودرت الحياةُ السياسية، وبات الهامشُ الوحيدُ المسموحُ لممارستها هو هامش النظام نفسِه وعلى مسرحه…وما عدا ذلك محظور ومقموع.

ونتيجة لذلك تدهورت الإنتاجية الاقتصادية في الحقول التقليدية: الزراعية والصناعية، والتجارية، تدهورًا خطيرًا. لكنَّ النظام كان قادرًا على تمويل مشروعه السياسي من مصادر أخرى لا علاقة لها بالإنتاجية الداخلية، هي المساعدات المالية العربية، في الحقبة النفطية، ولا سيما بين 1973 و1983، وقد حصلت سوريا على عشرات المليارات من الدولارات، أُنفقت غالبيتُها في مجالات غيرِ إنتاجية (وغيرِ دفاعية أيضٍا)، فذهبت أولًا «لرشوة» الفئات السياسية الموالية للنظام، والتي کوَّنت بسرعة طبقةً طفيليةً تجارية، ذات خطوط وخيوط متشابكة مع رجالِ وضباط أجهزة المخابرات، فتحصل على أذونات الاستيراد والتصدير، وتقيم مشاريع وصفقات، وتتاجر بالتهريب، وتجمع ثرواتٍ خياليةً خلال سنوات قليلة جدًّا. وكانت دورة أموال النفط تصل إلى جميع المستفيدين والموالين للنظام، فتخلق منهم طبقةً مرفهةً وثريةً فوق طبقات المجتمع الأخرى التي انحدرت بسبب انهيار البنی الاقتصادية التقليدية.

فصار «العلوي» أو «البعثي» أو «عنصر الأمن» يشكلون شريحةً طفيليةً تقتات من دماء المواطنين، وتتغذى من الرشا والسرقات والعمولات، والمساعدات التي تقدمُها لهم أجهزةُ النظام بطرق عديدة، ذلك أنَّ تلك الصفةَ كانت بحد ذاتِها مهنةً أو رأسمالًا…أي مصدرًا لجني الأرباح بلا أيِّ جهد!!

والمجال الثاني الذي أُنفقت فيه أموالُ النفط هو مشاريع السيادة والأبهة كالقصور والمهرجانات والمنظمات العسكرية والحزبية، والمخابرات، والدعاية للرئيس وبناء التماثيل له…وصالات رياضية، وملاعب لإلهاء الجماهير. كما أُنفقت ثالثًا في سبيل مشاريعَ ثبت فشلُها في النتيجة؛ كانت قد أُقيمت بناءً على خطط حزبية ومن قِبَل مستشارين وخبراء ولجان مشتريات لا يهمُّهم سوى الحصولِ على عمولاتهم، حتى أنَّ فردًا واحدًا هو محمد حیدر عضو القيادة القومية السابقة ووزير الاقتصاد والتجارة الخارجية في سنوات الفورة النفطية أصبح اسمُه بين أعضاءِ القيادةِ الحاكمةِ أنفسِهم (السيد 5٪)؛ وحين طُرِدَ من الحكومة بسبب السرقات والعمولات الكبيرة، كان يحلف أغلظ الإيمان لرفاقه في القيادة أنَّ ثروته لا تتجاوز ال 300 مليون ليرة بأسعار تلك الأيام 1977)!

وفي المحصلة، فقد تحولت تلك المصانعُ الضخمة إلى مجرد حديد خردة، ومبانٍ مغلقة، وآلات صدئة لا فائدة ترجى منها (مجمع السكر في جسر الشغور، مصانع الكيماويات في دمشق…)، وعندما شحَّت أموالُ النفط والمساعدات العربية بدءًا من عام 1984، ولم يَعُدْ لدى النظام أموالٌ خارجيةٌ يغطي فيها عجز ميزانيتِه الناتج عن انهيار الاقتصاد الوطني، ظهرتِ النتائجُ الفعلية لسياسة تحويل الاقتصاد إلى سياسة…وبانت معالمُ الكارثة، فالأراضي الزراعية تقلصت بنسبة 30%، وإنتاج القمح والقطن والخضار والفواكه انخفض أكثر من 25٪ للحكومة، ووصل انخفاضُ الإنتاج في بعض المحاصيل إلى 45٪ حسب الأرقام الرسمية، كما تراجع مستوى الإنتاج الصناعي، وأُغلقت عشراتُ المصانع التي تعمل وتنتج من مطلع الخمسينات؛ بسبب سيطرة الإدارة والدولة عليها بعد التأميم، أو محاصرة المصانع والورش الصغيرة للقطاع الخاص، بالأجهزة الأمنية والأساليب البيروقراطية والأمنية…حتی أنَّ تاجرًا من هؤلاء كان يُصدِّرُ إنتاجًا إلى الاتحاد السوفيتي أغلق مصنعَه قبل سنوات؛ لأنَّه وجد نفسَه يخسر بسبب واحد وبسيط؛ وهو كثرة الرشا والإتاوات التي يتعين عليه دفعُها لموظفي الحكومة والمخابرات عند كلِّ مرحلة من مراحل الإنتاج والعمل والتصدير بحيثُ يفوق مجموعها ال 100٪ من الأرباح.

المجالُ الوحيد الذي ازدهر في الاقتصاد السوري هو التجارةُ السوداء: التهريبُ، والبناءُ بتراخيص مزيفة، أو الحصولُ على قروض ضخمة من المصارف الحكومية أو بيع أذونات الاستيراد «الخاصة» للسلع الممنوعة رسميًّا، وجميع هؤلاء من رجال المخابرات أو الجيش أو الطائفة الحاكمة أو أقربائهم وأصدقائهم…وتقدر الآن ثروةُ أصغرِ ضابط صف عامل في المخابرات السورية بعدة ملايين ليرة عدا العقارات…

والذي ضاعف الأزمة أو الكارثة أنَّه مع مرضِ الرئيس الأسد عام 1984 وبدايةِ تفكك الفئة الحاكمة، وظهورِ التراجع الاقتصادي، بدأ هؤلاء الطفيليون بتهريب أموالِهم إلى الخارج…وتقدر الأموالُ التي نزحت الى أوروبا بأكثر من أربعة مليارات دولار خلال سنوات 1985-1988 فقط، وظهر في أوروبا «رجال أعمال» سوريون لم يُسمَعْ بهم من قَبْل، أغلبُهم ضباطٌ سابقون أو مقربون من الحكم، وظهرت شركاتٌ تجاريةٌ عالميةٌ غامضةٌ يقف خلفها أبناء الطائفة أو رجال الأسد في المرحلة الماضية، وأبناء خدام أو أبناء رفعت أو أبناء شفیق الفياض؛ وهؤلاء ليسوا سوی رموز نافرة وصارخة، لطبقة جديدة يزيد عددها عن مئات الألوف.

ومازال الباقون منهم في دمشق والساحل، يديرون «بورصات» سوداءَ مزدهرة، لتجارة العملة، وتجارةَ التهريب، وتجارةَ القطارات، وتجارةَ السيارات، تعريف النفوذ وإصدار التصاريح والقرارات المطلوبة من الحكومة. في حين تنهارُ الأوضاعُ الاقتصادية والمعيشية لعامة الشعبِ بصورة مزرية ومأساوية حقًّا، وتنتشر مجاعةٌ حقيقية في أوساط فقراء المدن ولاسيما العمال والموظفون والفلاحون، كما تنتشر بطالةٌ ظاهرةٌ ومقنعة في أوساط الشباب والخريجين، وتسود حالةُ يأس قاتلة لعموم الطلاب والدارسين والمتعلمين، وتزداد مع هذه الأوضاعِ معدلاتُ الجريمة الاجتماعية، ومعدلات الانحراف الأخلاقي، ومعدلات تعاطي المخدرات بنسب مذهلة لم تعرف لها سوريا في الماضي مثيلًا وشبيهًا.

رابعًا: عبادة الفرد

التحولُ الرابعُ الرئيسي الذي طرأ على بنية النظامِ في سوريا بعد وصول الأسد إلى الحكم هو الانتقال إلى عبادة الفرد، واستحواذ هذا الفرد على الصيغة المطلقة، في الحكم والإرادة والإدارة؛ مثله مثل أسوأ الأنظمة في العالم الثالث: کیم ایل سونغ وشاه إیران السابق، وغيرهما…ونتج عن ذلك أسوأُ الآثارِ والنتائج المعروفة في النماذج المماثلة في التاريخ والعالم. لم يعد هناك أيُّ وجودٍ في سوريا لدور الحزب الحاكم (الذي كان القائد للمجتمع والدولة) حسب وصف الدستور ومیثاق ما يُدعى بالجبهة الوطنية التقدمية!!ولم يعد هناك وجودٌ مستقلٌ لأي شخصٍ آخرَ في رئاسة الحكومة أو في الحكومة أو في المجتمع أو بين الجماهير…فالكلُّ هو مجردُ ظلٍّ للفرد المطلق، والكلُّ يستمدُّ شرعيتَه ووجودَه ودوره من خلال رضا الزعيم الأوحد، ويزول بزوال الرضا، وقد يُمحَقُ ويُسحَقُ إذا حلَّ الغضبُ عليه محل الرضا، ولا يستند الزعيم في حكمه على مؤسسات دستورية أو شرعية أو موصوفة، لا عسكرية ولا شعبية ولا تشريعية، وإنَّما يستند إلى أجهزة أمنٍ ومخابرات تعمل في الخفاء، ويقوم عليها رجالٌ غامضون مجهولون بلا أية صفة أو كفاءة، ومن دون أيِّ قواعد محددة للعمل والممارسة، ولذلك فهم لا يخشون أيَّ عقابٍ أو مسؤولية من جهة المجتمع، وكلّ ما يخشونه هو رضا أو غضب القائد المستبد، يقدمون له الطاعة والولاء المطلقين فيمنحُهم بالمقابل السلطة المطلقة بلا أي ضابط أو رادع…وبالتالي فإنَّه يعيش من خلال ما يقدمونه له من تقارير، فقط…تصبح صلتُه بالناس والدولة والشعب هي التقارير المكتوبة بالخفاء…فلا وجود لقنوات رسميةٍ أو قانونيةٍ توصل له أوضاع البلاد والعباد، فهو يتحول في النهاية أيضًا إلى أداة لهذه الأجهزة وأسيرٍ  لها رغم أنَّه هو الذي صنعها؛ وهو الذي خلقها، وبث فيها الروح، وأطلق لها العنان…حتى تنشأ بين الطرفين حالةُ تجانس مطلقة، هو يدين لها باستمرار البكاء وباستمرار التأليه، زعيمًا مطلقًا مفروضًا على الجميع أن يعبده، وأن يحبَّه، وأن يمتثل له، وهي تمارس البطش والقهر والسيطرة على المؤسسات وإدارتها وعلى المجتمع وأفراد الشعب وقواه، وتعيث في البلاد فسادًا وخرابًا، ولاسيما في الظلام والسر، لا أحد يعرف من هي؟ وما هي؟ ومن الذي يقرر؟ ولماذا؟ ومن ينفذ؟ وما الأهداف؟

إنَّ نظام الأسد نموذجٌ مثاليٌّ لعبادة الفردِ المستبدِّ المطلقِ الصلاحيات…وهو مثل كلِّ الأنظمة الماثلة، لا يحيا ولا يقوى إلا بالاعتماد على أجهزة المخابرات (غستابو. سافاك) أي أنَّ هناك رابطةً سببيةً بين نظام البوليس، ونظام عبادة الفرد، وهناك علاقةٌ موضوعيةٌ أيضًا بالظاهرة الطائفية، والظاهرة الطفيلية. إنَّ هذه الحالة جديدة لم تعرفها سوريا في تاريخها الحديث أو المعاصر، وإليها تُعزى جميعُ التحولات العنيفة التي حدثت في سوريا خلال الخمسةَ عشرَ عامًا الأخيرة، ومن دون تحليل هذه الظاهرة وفهمها واستيعابها لا يمكن وعي الواقع الراهن، ولا اكتشاف طرق وأساليب المقاومة والمعارضة والعلاج، ولا تحديد منهج التغيير، ووسائله، ولا تفادي تكرارها أو اجتثاثها من جذورها في المستقبل.

العامل الخارجي:

تلك هي السمات الرئيسة (الأربع) للنظام السوري القائم، نظامِ الأسد، فهو إذن نظامٌ طائفيٌّ ـ بوليسيٌّ ـ فرديٌّ ـ طفيلي. وماعدا ذلك لا يعدو أن يكون دهانًا وديكورًا لإخفاء الملامحِ الأصليةِ القبيحةِ وخداع الأخرين ولا سيما في الخارج.

وهذه نقطةٌ ذات أهميَّةٍ خاصة، في أنَّ «الخارج يشكل عاملًا رئيسًا في قوة نظام الأسد واستمراره.

لقد عرفنا سابقًا أنَّ الأنظمة الديكتاتورية الفردية غالبًا ما تكون منعزلةً على الصعيد العالمي، محدودة العلاقات، أو أحادية مع كتلة من الكتل الدولية (الغرب أو الشرق)، أو مع دولة واحدة بعينها (أميركا وحدها أو الاتحاد السوفيتي وحده غير أنَّ النظام السوري أوجد استثناء من هذه القاعدة، فنجح في تعويض عزلته الداخلية بعلاقات واسعة في الخارج، متعددةِ الاتجاهات مع الشرق والغرب، مع العالم العربي، والعالم الثالث وأوروبا الغربية والشرقية، وأميركا والاتحاد السوفيتي، مع الإسلامِ ومع العلمانية، مع اليسار ومع اليمين، مع الديكتاتوريات ومع الديمقراطيات، ولا شك أنَّ هذا العاملَ أمدَّ النظام السوري بدعم غيرِ محدودٍ اقتصاديٍّ وسياسي وإعلامي، وأمدَّ بعمره؛ وهي واحدة من مرات قليلة تحدث في العالم المعاصر أن يُحِسَّ المواطنُ في الدخل (المواطن السوري) بقمع العالم له من خلال قمع الأسد، وأن يُحسَّ أنَّه ضحيةٌ لصفقات ومساومات دولية غير مفهومة تجري على أوسع نطاق…وكثيرًا ما شعر المواطنُ السوري بأنَّ موسكو وواشنطن وباريس والرياض والقاهرة وطهران ولندن وتل أبيب تجتمع جميعًا للرقص على جثته، والصمتِ على السكين الذي تخترق عنقه، أو هي تقدم الدعم الإيجابي للجزار.

إنًّها حقًّا حالةٌ نادرةٌ في التاريخ والعالم المعاصر، يحظى بها نظامُ الأسد، ولها أسبابُها وعواملُها الجديرة بالتحليل والدرس؛ لأن الخارج في وقتنا الراهن بات عاملًا مؤثرًا مثل الداخل وربما يفوقه، وبنظرة سريعة إلى التغييرات التي حدثت في السنوات الثلاث الأخيرة فقط، نكتشف أنَّ الإطاحةَ بالأنظمة القبيحة واستبدالها بأنظمة أقلَّ وحشية حدثت بفعل الخارج فعلا الفيلبين ـ هاهيتي ـ باكستان ـ تونس ـ السودان ـ تركيا ـ السلفادور.

لقد برع النظام السوري في التعامل مع الخارج؛ ليضمن لنفسه الداخل.

فهو أولًا: خطا خطواتِ السادات نفسَها حين وقع معاهدة تعاون وصداقة مع السوفييت؛ لكي يغطيَ بها انحرافه نحو الغرب، وعقد الصفقات مع الولايات المتحدة، وأوقف التحولات الاجتماعية في الداخل

وهو ثانيًا: تابع مسيرة السادات نفسَها في حرب أكتوبر، ثم في عقده اتفاقياتِ فكِّ الاشتباكِ العسكري مع العدو الصهيوني، وتدجينِ الجبهة العسكرية، وإنهاءِ الخيار الحربي القتالي مع إسرائيل، وانتهاجِ مسيرة الحل السياسي ولكن بعبارات أخرى.

وهو ثالثًا: أعلن قدراتِه على لعب دورٍ خارجي طائفي وتخريبي ورجعي، وتطوعَ لإظهار خدماته وصفقاته للقوى العالمية الإمبريالية، فدخل لبنان للقضاء على مدِّ وقوة الحركة الوطنية اللبنانية المتحالفة مع الثورة الفلسطينية بزعامة القوى اليسارية والقومية والديمقراطية تحت راية الشهيد البطل كمال جنبلاط.

وهو الذي فرَّق لبنان بالتواطؤ المباشر أو الموضوعي (لا فرق في النتيجة) مع إسرائيل وأميركا، وباعتراف الاتحاد السوفيتي نفسه عام 1970.

وهو الذي سعى وقاتل وخرَّب؛ للاستحواذ على قرار منظمةِ التحرير الفلسطينية وإخضاعِ الشعب الفلسطيني في سوريا ولبنان، وحاصر بندقيتها المقاتلة، ودعم الاتجاهات الانفصاليةَ والطفوليةَ والمراهقة فيها؛ لتبديد قواها، وتدميرِ وحدتها الوطنية، ثم امتلاك الورقة الفلسطينية، والمساومة بها عليها مع الدول العظمى، كما فعل بالورقة اللبنانية، ثم حاول تكرار العملية مع الأردن، ثم كررها فعليًّا مع العراق من خلال تحالفه الشيطاني مع إيران في حربها.

وبرع نظامُ الأسد في استخدام الشعاراتِ الثوريةِ والقوميةِ والوطنيةِ رغم تناقضه في ممارساته الواقعية، كما برع في تبديل البندقية من كتف إلى آخر…

فقد قاتل الحركة الوطنية اللبنانية، وهو متحالف مع القوات اللبنانية والكتائب؟! ثم قاتل الكتائب وهو متحالف مع بقايا الحركة الوطنية اللبنانية المدجنة؟! وقاتل العراق بالشعارات القومية دعمًا لإيران الإسلامية؟! وقاتل الإخوان المسلمين في الداخل دعمًا للشعارات القومية ودفاعًا عنها في وجه الإمبريالية والرجعية؟! وهو الحليف الصادق والصدوق للمملكة العربية السعودية التي تُعَدُّ أبرزَ قوى وأطراف العامل الخارجي تأييدًا لنظام الأسد، وإطالةً في عمره.

لقد ابتكرت «عبقرية» الأسد على حسب تعبيرِ صديقِه اليهودي الخطير -هنري كيسنجر-فلسفةً جديدة في السياسة الخارجية، لا تقوم على المبادئ أو القواعد أو على أسس السياسة الداخلية، وإنَّما قامت على عقد الصفقات والمساومات والمناورات، والتحالفات الشيطانية، فهو النظام الوحيد الذي يستطيع أن يبيع إیران مواقفَ انتهازيةً ويقبض ثمنها نفطًا ودولارات؟! ثم يبيع دول الخليج والسعودية مواقف مضادة لإيران ويقبض ثمنها نفطًا ودولارات؟! وهو الوحيد الذي يستطيع أن يبيع الغرب وأمیرکا صفقاتِ إنقاذ رهائنها في لبنان بمقابل ابتزاز لإيران وحلفائها في لبنان على حساب مصالح الشعب اللبناني الوطنية؟! إنَّه الوحيد الذي يبيع السلعة الواحدة لعشرة أطراف، وعشرة مرات، في حين أنَّ السلعة ليست ملکَه أصلًا، وليست في يده أيضًا!!!

وهو الوحيد الذي نجح في تحويل المواقف السياسية والابتزاز والمناورات إلى «اقتصاد» ومصدرٍ ريعي يدر عليه الأموالَ والأرباح!!!

وبالتأكيد فإنَّ دول الغرب ولاسيما الولايات المتحدة ومن ورائها إسرائيل، لن تجد أفضل من نظام الأسد يحترم أهدافها وأغراضها في المشرق العربي، التمزيق الطائفي، تدمير وحدة الشعوب والمجتمعات العربية، حماية حدود إسرائيل وتحطيم البنادق المقاتلة، تشويه صورة اليسار والوحدة العربية والاشتراكية والإسلام.

لقد بات نظام الأسد يعتمد في استمراره على العامل الخارجي، وبات هذا العامل جزءًا مكملًا لتوصيف النظامِ الداخلي، وتحديد سماته الرئيسة (الأربع).

المصدر: موقع ملتقى العروبيين

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.